الإنكشارية والنهاية المأساوية .. قصة نهاية أقوى فرقة عسكرية في زمانها



قصة الإسلام لايت



ملخص المقال

بعد أن كانت طائفة الإنكشارية من أكبر عوامل تقدُّم الدولة العثمانية وامتداد فتوحاتها أربعة قرون متتالية، صارت من أكبر دواعي تأخُّرها وانحطاطها في آخر


كان لجنود الإنكشارية النصيب الأكبر في انتقال الخلافة العثمانية من نصرٍ إلى نصر ومن فتحٍ إلى فتح، وفي الحفاظ على أرواح وأعراض وأموال المسلمين طوال أربعمائةٍ وخمسةٍ وستِّين عامًا، غير أنَّهم في السنوات الأخيرة لهم أصبحوا غير مؤهَّلين وغير صالحين ممَّا جعل السلطان محمود الثاني يأخذ القرار الذي سُجِّل في التاريخ تحت اسم «الواقعة الخيرية».



من
الإنكشارية
؟


مِن بداية ظهور

الدولة العثمانية
في سنة (699هـ=1300م) حتى عهد السلطان العثمانى

أورخان غازي
(726- 761ه= 1326- 1360م) كانت الجيوش العثمانيَّة لا تُجْمَع إلَّا وقت الحرب وتُصرَف بعدها، ولكن عندما ارتقى عرش الدولة العثمانية السلطان أورخان، وخشي من تحزُّب كلِّ فريقٍ من الجند إلى القبيلة التابع لها وبالتالي تتمزَّق عُرَى الوحدة العثمانيَّة، فأمر بأخذ الشبَّان من أسرى الحرب وتربيتهم تربيةً إسلاميَّةً عثمانيَّة بحيث لا يَعْرِفون أبًا إلَّا السلطان، ولاحرفةً إلَّا الجهاد في سبيل الله، وأطلق عليهم اسم (يني تشاري) أي الجيش الجديد، ثم حُرِّف هذا الاسم في اللغة العربية فصار إنكشاري، وزاد عددهم بعد ذلك حتى صاروا لا يُعوَّل إلَّا عليهم في الحروب العثمانية، فكانوا هم الفرقة الرئيسة والأهم في الجيش العثماني.



بداية تمرد الإنكشارية


في 25 جمادى الأولى سنة (1223ه= 18 يوليو 1808م) ارتقى عرش الدولة العثمانية السلطان محمود الثاني، وافتتح أعماله بأن قلد مصطفى باشا البيرقدار منصب الصدارة العظمى ووكل إليه أمر تنظيم


الإنكشارية
، فقام مصطفى باشا باستدعاء جميع وزراء الدولة وأعيانها وأظهر لهم ما كانت عليه حالة الإنكشارية وما وصلت إليه وما يجب أن تكون عليه من النظام، ثم اقترح عليهم عدَّة اقتراحات منها: إلزام الإنكشارية بملازمة ثكناتهم العسكرية وتسليحهم بالأسلحة الجديدة.

ولم يكتف مصطفى باشا البيرقدار بذلك بل استحصل على فتوى بضرورة تنفيذ هذه الأنظمة بكلِّ صرامة، وأصدر أوامره بذلك فاغتاظ الإنكشارية لذلك واتَّحدوا على مقاومته والإيقاع به.

لم يمضِ إلَّا قليل حتى أظهر الإنكشارية التمرُّد والعصيان، وانتهزوا الفرصة في يوم (27 رمضان سنة 1223هـ= 16 نوفمبر سنة 1808م) وقاموا كرجلٍ واحد، وساروا إلى سراي السلطان مصطفى الرابع بقصد إرجاعه إلى عرش السلطة مرَّةً أخرى؛ فقد كان عُزِل من الحكم وارتقى مكانه على العرش السلطان محمود الثاني.

اعترض الصدر الأعظم مصطفى باشا البيرقدار الإنكشارية وقاومهم مقاومةً عنيفة، ولكن لمـَّا أحسَّ بأنَّ الضعف قد دخل جيوشه وخشي من فوز الثائرين وعزلِ السلطان محمود، أمر بقتل مصطفى الرابع وإلقاء جثَّته للثائرين، فلمَّا رأى الإنكشارية جثَّة السلطان مصطفى الرابع زادوا هياجًا وأضرموا النار في السراي، لكن بقي مصطفى باشا البيرقدار يُقاومهم هو ومن معه حتى مات حرقًا.

في صبيحة اليوم التالي سارت جيوش السلطان محمود الثاني تقذف الصواعق على الإنكشارية من كلِّ جهة، ولمـَّا رأى الثائرون أنَّ لا مناص لهم من الهلاك أضرموا النار في جميع جوانب المدينة، وكاد الحريق يلتهمها بأجمعها، فاضطرَّ السلطان محمود الثاني للإذعان لطلبات الإنكشاريَّة حتى يُمكنه إنقاذ المدينة من الدمار مؤجِّلًا فكرة القضاء عليهم.



القضاء على الانكشارية أو ما يعرف بـ «الواقعة الخيرية»
انتظر السلطان محمود سبعة عشر عامًا لتنفيذ فكرته في القضاء على الإنكشارية؛ ففي سنة 1826م جمع السلطان أعيان الدولة وكبار ضباط الإنكشارية في بيت المفتي، وأظهر لهم الصدر الأعظم حينذاك سليم محمد باشا ما وصلت إليه حالة الإنكشارية من الانحطاط وعدم الانقياد لرؤسائها حتى صارت من أكبر دواعي تأخُّر الدولة العثمانية بعد أن كانت من أكبر عوامل تقدُّم الدولة وامتداد فتوحاتها، ثم أبان لهم ضرورة إدخال النظام العسكري الجديد في الإنكشاريَّة؛ إذ إنها لا يُمكنها بحالتها الحاليَّة الوقوف أمام الجيوش الأوروبية المنتظمة، ثم تلا عليهم التنظيمات الجديدة وأُفتي بجواز العمل بهذه التنظيمات شرعًا، ومعاقبة من يُعارض في تنفيذها.

وافق ضباط الإنكشارية على هذه التنظيمات لكن لم تكن موافقتهم إلَّا ظاهريَّة فقط؛ فلقد علموا أنَّه لو تم هذا النظام كان سببًا في ضياع كافَّة امتيازاتهم، فأخذوا يستعدُّون للثورة والعصيان ليُوقفوا تنفيذ هذه التنظيمات، فجمع السلطان محمود العلماءَ وأخبرهم بما فعله الإنكشارية، فاستقبحوا عملهم وشجَّعوه على المقاومة.


وفي 25 يونيو 1826م أخرج السلطان محمود العلم النبوي وسار بجنوده إلى ساحة آت ميداني موضع تجمُّع ثوار الإنكشاريَّة، وتبعه كثيرٌ من العلماء والطلبة، ولم يمضِ إلَّا قليلٌ حتى أحاطت جنود السلطان بالميدان عليه، وسلَّطت مدافعها على ثكنات الإنكشاريَّة من كلِّ صوبٍ فهدمتها وأشعلت فيها النيران حتى دمَّرتها تمامًا، وأبادتهم جميعًا، وفي اليوم التالي صدر فرمان سلطاني بإبطال فئتهم بالكُليَّة، وملابسها واصطلاحاتها واسمها من جميع الممالك المحروسة، ونُودي بذلك في الشوارع، وصدرت الأوامر إلى جميع الولايات بالتفتيش على كلِّ من بقي منهم وإعدامه أو نفيه إلى أطراف البلاد حتى لا تبقى منها باقية.



ما بعد الإنكشارية

يُسمِّي العثمانيُّون وقعة القضاء على الإنكشارية بالواقعة الخيريَّة؛ لأنَّهم تفاءلوا بها خيرًا، وقد قُتِل من الإنكشارية في هذه الواقعة ستَّة آلاف مقاتل، ونُفِي واعتُقِل عشرون ألف، وقد أحدث القضاء عليهم صدًى كبيرًا في جميع أنحاء العالم؛ فقد خصَّصت الصحف الأوروبِّيَّة عناوين كبيرة لهذه الواقعة، كما هنَّأ سفراء الدول السلطانَ محمود الثاني على وأدِ فتنتهم، وأخذ السلطان محمود بعد ذلك في ترتيب وتنظيم الجيش الجديد الذي أطلق عليه اسم العساكر المحمَّدية المنصورة[1].


[1] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1401هـ= 1981م، ص 398- 400، 429- 431، وانظر: محمد سهيل طقوش: تاريخ العثمانيين، دار النفائس، الطبعة الثالثة، 1434هـ= 2013م، ص327- 332، ويلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، تحقيق: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، تركيا، إستانبول، الطبعة الأولى، 1988م، 1/ 676- 679، وأحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إستانبول، 2008، ص383، 395- 397.