سئل الشيخ ابن عثيمين ضمن شرح العقيدة السفارينية سؤال : تكلم الله بالقرآن بمعانيه وحروفه ، بعضها ألا ينفصل عن بعض ؟
الجواب : لا ، عند الأشاعرة ينفصل بعضها عن بعض ، ألم تعلم أن الأشاعرة قالوا : القرآن معناه كلام الله ولفظه خلقٌ من مخلوقاته ؟ *****
فإن قولنا هذا دفعاً لقول الأشاعرة ، الأشاعرة الحقيقة قالوا في الكلام قولاً لا يُعقل ، قالوا : كلام الله هو المعنى القائم بالنفس وما سمعه جبريل مخلوق ، المعتزلة ماذا قالوا ؟
قالوا : القرآن مخلوق ، وهذا القرآن الذي بين أيدينا هو كلام الله وأضيف إلى الله على سبيل التشريف ،والأشاعرة قالوا : القرآن الذي بين أيدينا عبارةٌ عن كلام الله وليس كلام الله وأضافه الله إليه لأنه عبارةٌ عن كلامه ولهذا قال بعضهم كما مر علينا قال بعضهم إنه في الحقيقة لا فرق بيننا وبين المعتزلة فإننا جميعاً متفقون على أن هذا القرآن مخلوق .
قال الشيخ ابن عثيمين في تقريب التدمرية الطائفة الأولى: الأشاعرة ومن ضاهاهم من الماتريدية وغيرهم.
وطريقتهم أنهم أثبتوا لله الأسماء، وبعض الصفات، ونفوا حقائق أكثرها، وردوا ما يمكنهم رده من النصوص، وحرفوا ما لا يمكنهم رده، وسموا ذلك التحريف "تأويلاً".
فأثبتوا لله من الصفات سبع صفات: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، على خلاف بينهم وبين السلف في كيفية إثبات بعض هذه الصفات.
وشبهتهم فيما ذهبوا إليه أنهم اعتقدوا فيما نفوه أن إثباته يستلزم التشبيه أي التمثيل. وقالوا فيما أثبتوه إن العقل قد دل عليه، فإن إيجاد المخلوقات يدل على القدرة، وتخصيص بعضها بما يختص به يدل على الإرادة، وإحكامها يدل على العلم، وهذه الصفات "القدرة، والإرادة، والعلم" تدل على الحياة لأنها لا تقوم إلا بحي، والحي إما أن يتصف بالكلام والسمع والبصر وهذه صفات كمال، أو بضدها وهو الخرس والصمم والعمى، وهذه صفات ممتنعة على الله تعالى، فوجب ثبوت الكلام، والسمع، والبصر.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف لما كان عليه سلف الأمة من الصحابة، والتابعين، وأئمة الأمة من بعدهم، فما منهم أحد رجع إلى العقل في ذلك وإنما يرجعون إلى الكتاب والسنة، فيثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسله إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل.
قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: "نصف الله بما وصف به نفسه، ولا نتعدى القرآن والحديث".
الثاني: أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف للعقل؛ لأن هذا الباب من الأمور الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال، وإنما تتلقى من السمع، فإن العقل لا يمكنه أن يدرك بالتفصيل ما يجب ويجوز ويمتنع في حق الله تعالى؛ فيكون تحكيم العقل في ذلك مخالفاً للعقل.
الثالث: أن الرجوع في ذلك إلى العقل مستلزم للاختلاف والتناقض، فإن لكل واحد منهم عقلاً يرى وجوب الرجوع إليه كما هو الواقع في هؤلاء، فتجد أحدهم يثبت ما ينفيه الآخر، وربما يتناقض الواحد منهم فيثبت في مكان ما ينفيه أو ينفي نظيره في مكان آخر، فليس لهم قانون مستقيم يرجعون إليه.
قال المؤلف رحمه الله في الفتوى الحموية: "فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عنه الإمام مالك بن أنس حيث قال: "أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء"(13). ومن المعلوم أن تناقض الأقوال دليل على فسادها.
الرابع: أنهم إذا صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معنى زعموا أن العقل يوجبه، فإنه يلزمهم في هذا المعنى نظير ما يلزمهم في المعنى الذي نفوه مع ارتكابهم تحريف الكتاب والسنة.
مثال ذلك: إذا قالوا المراد بيد الله عز وجل: القوة دون حقيقة اليد؛ لأن إثبات حقيقة اليد يستلزم التشبيه بالمخلوق الذي له يد.
فنقول لهم: يلزمكم في إثبات القوة نظير ما يلزمكم في إثبات اليد الحقيقية؛ لأن للمخلوقات قوة، فإثبات القوة لله تعالى يستلزم التشبيه على قاعدتكم.
ومثال آخر: إذا قالوا المراد بمحبة الله تعالى إرادة ثواب المحبوب أو الثواب نفسه دون حقيقة المحبة؛ لأن إثبات حقيقة المحبة يستلزم التشبيه.
فنقول لهم: إذا فسرتم المحبة بالإرادة لزمكم في إثبات الإرادة نظير ما يلزمكم في إثبات المحبة، لأن للمخلوق إرادة، فإثبات الإرادة لله تعالى يستلزم التشبيه على قاعدتكم، وإذا فسرتموها بالثواب، فالثواب مخلوق مفعول لا يقوم إلا بخالق فاعل، والفاعل لابد له من إرادة الفعل، وإثبات الإرادة مستلزم للتشبيه على قاعدتكم.
ثم نقول: إثباتكم إرادة الثواب أو الثواب نفسه مستلزم لمحبة العمل المثاب عليه، ولولا محبة العمل ما أثيب فاعله، فصار تأويلكم مستلزماً لما نفيتم؛ فإن أثبتموه على الوجه المماثل للمخلوق ففي التمثيل وقعتم، وإن أثبتموه على الوجه المختص بالله واللائق به أصبتم ولزمكم إثبات جميع الصفات على هذا الوجه.
الخامس: أن قولهم فيما نفوه: "إن إثباته يستلزم التشبيه" ممنوع لأن الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات كما تقرر سابقاً، ثم إنه منقوض بما أثبتوه من صفات الله، فإنهم يثبتون لله تعالى الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، مع أن المخلوق متصف بذلك، فإثباتهم هذه الصفات لله تعالى مع اتصاف المخلوق بها مستلزم للتشبيه على قاعدتهم.
فإن قالوا: إننا نثبت هذه الصفات لله تعالى على وجه يختص به ولا يشبه ما ثبت للمخلوق منها.
قلنا: هذا جواب حسن سديد، فلماذا لا تقولون به فيما نفيتموه فتثبتوه لله على وجه يختص به، ولا يشبه ما ثبت للمخلوق منه؟!
فإن قالوا: ما أثبتناه فقد دل العقل على ثبوته فلزم إثباته.
قلنا: عن هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لا يصح الاعتماد على العقل في هذا الباب كما سبق.
الثاني: أنه يمكن إثبات ما نفيتموه بدليل عقلي يكون في بعض المواضع أوضح من أدلتكم فيما أثبتموه.
مثال ذلك: الرحمة التي أثبتها الله تعالى لنفسه في قوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)(الك هف: 58). وقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس: 107).فإنه يمكن إثباتها بالعقل كما دل عليها السمع.
فيقال: الإحسان إلى الخلق بما ينفعهم ويدفع عنهم الضرر يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة، بل هو أبين وأوضح لظهوره لكل أحد.
الثالث: أن نقول: على فرض أن العقل لا يدل على ما نفيتموه فإن عدم دلالته عليه لا يستلزم انتفاء في نفس الأمر، لأن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، إذ قد يثبت بدليل آخر، فإذا قدرنا أن الدليل العقلي لا يثبته فإن الدليل السمعي قد أثبته، وحينئذ يجب إثباته بالدليل القائم السالم عن المعارض المقاوم.
فإن قالوا: بل العقل يدل على انتفاء ذلك لأن إثباته يستلزم التشبيه، والعقل يدل على انتفاء التشبيه.
قلنا: إن كان إثباته يستلزم التشبيه فإن إثبات ما أثبتموه يستلزم التشبيه أيضاً، فإن منعتم ذلك لزمكم منعه فيما نفيتموه إذ لا فرق، وحينئذ إما أن تقولوا بالإثبات في الجميع فتوافقوا السلف، وإما أن تقولوا بالنفي في الجميع فتوافقوا المعتزلة ومن ضاهاهم، وأما التفريق فتناقض ظاهر.
والقول الفصل المطرد السالم من التناقض ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها من إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء والصفات، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، وإجراء النصوص على ظاهرها على الوجه اللائق بالله عز وجل، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. ويتبين هذا بأصلين، ومثلين، وخاتمة:
فأما الأصلان:
فأحدهما: أن يقال لمن يثبت بعض الصفات دون بعض: القول في بعض الصفات كالقول في بعض. أي أن من أثبت شيئاً مما أثبته الله لنفسه من الصفات ألزم بإثبات الباقي، ومن نفى شيئاً منه ألزم بنفي ما أثبته وإلا كان متناقضاً.
1- مثال ذلك: إذا كان المخاطب يثبت لله تعالى حقيقة الإرادة، وينفي حقيقة الغضب ويفسره: إما بإرادة الانتقام، وإما بالانتقام نفسه.
فيقال له: لا فرق بين ما أثبته من حقيقة الإرادة وما نفيته من حقيقة الغضب، فإن كان إثبات حقيقة الغضب يستلزم التمثيل، فإثبات حقيقة الإرادة يستلزمه أيضاً.
وإن كان إثبات حقيقة الإرادة لا يستلزمه، فإثبات الغضب لا يستلزمه أيضاً، لأن القول في أحدهما كالقول في الآخر، وعلى هذا يلزمك إثبات الجميع، أو نفي الجميع.
2- فإن قال: الإرادة التي أثبتها لا تستلزم التمثيل،لأنني أعني بها إرادة تليق بالله عز وجل لا تماثل إرادة المخلوق.
قيل له: فأثبت لله غضباً يليق به ولا يماثل غضب المخلوق.
3- فإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام وهذا لا يليق بالله تعالى.
قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة وهذا لا يليق بالله سبحانه وتعالى.
4- فإن قال: هذه إرادة المخلوق، وأما إرادة الله فتليق به.
قيل له: والغضب بالمعنى الذي قلت غضب المخلوق، وأما غضب الله فيليق به، وهكذا القول في جميع الصفات التي نفاها يقال له فيها ما يقوله هو فيما أثبته.
5- فإن قال: أثبت ما أثبته من الصفات بدلالة العقل عليه.
أجبنا عنه بثلاثة أجوبة سبق ذكرها عند الرد على الطائفة الأولى.
الأصل الثاني: أن يقال لمن يقر بذات الله تعالى ويمثل في صفاته أو ينفيها: القول في الصفات كالقول في الذات.
يعني أن من أثبت لله تعالى ذاتاً لا تماثل ذوات المخلوقين لزمه أن يثبت له صفات لا تماثل صفات المخلوقين، لأن القول في الصفات كالقول في الذات، وهذا الأصل يخاطب به أهل التمثيل، وأهل التعطيل من المعتزلة ونحوهم.
فيقال لأهل التمثيل: ألستم لا تمثلون ذات الله بذوات المخلوقين؟! فلماذا تمثلون صفاته بصفات خلقه؟ أليس الكلام في الصفات فرعاً عن الكلام في الذات؟!
ويقال لأهل التعطيل من المعتزلة ونحوهم: ألستم تقولون بوجود ذات لا تشبه الذوات؟ فكذلك قولوا بصفات لا تشبه الصفات!!
مثال ذلك: إذا قال: إن الله استوى على العرش فكيف استواؤه؟
فيقال له: القول في الصفات كالقول في الذات فأخبرنا كيف ذاته؟
فإن قال: لا أعلم كيفية ذاته.
قيل له: ونحن لا نعلم كيفية استوائه.
وحينئذ يلزمه أن يقر باستواء حقيقي غير مماثل لاستواء المخلوقين، ولا معلوم الكيفية، كما أقر بذات حقيقية غير مماثلة لذوات المخلوقين، ولا معلومة الكيفية، كما قال مالك وشيخه ربيعة وغيرهما في الاستواء: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"(17).
فقوله: "الاستواء معلوم" أي معلوم المعنى في اللغة العربية التي نزل بها القرآن وله معان بحسب إطلاقه وتقييده بالحرف، فإذا قيد بـ (على) كان معناه العلو والاستقرار كما قال تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الفلك (المؤمنون: 28) وقال: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) (الزخرف: 13). فاستواء الله تعالى على عرشه علوه عليه علواً خاصاً يليق به، على كيفية لا نعلمها، وليس هو العلو المطلق على سائر المخلوقات.
وقوله: "والكيف مجهول" أي أن كيفية استواء الله على عرشه مجهولة لنا وذلك لوجوه ثلاثة:
الأول: أن الله أخبرنا أنه استوى على عرشه ولم يخبرنا كيف استوى.
الثاني: أن العلم بكيفية الصفة فرع عن العلم بكيفية الموصوف وهو الذات، فإذا كنا لا نعلم كيفية ذات الله، فكذلك لا نعلم كيفية صفاته.
الثالث: أن الشيء لا تعلم كيفيته إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره أو الخبر الصادق عنه، وكل ذلك منتف في استواء الله - عز وجل - على عرشه، وهذا يدل على أن السلف يثبتون للاستواء كيفية لكنها مجهولة لنا.
وقوله: "والإيمان به واجب" أي أن الإيمان بالاستواء على هذا الوجه واجب، لأن الله تعالى أخبر به عن نفسه، وهو أعلم بنفسه، وأصدق قولاً وأحسن حديثاً، فاجتمع في خبره كمال العلم، وكمال الصدق، وكمال الإرادة وكمال الفصاحة والبيان فوجب قبوله والإيمان به.
وقوله: "والسؤال عنه" أي عن كيفيته بدعة؛ لأن السؤال عنها لم يعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين، وهو من الأمور الدينية فكان إيراده بدعة، ولأن السؤال عن مثل ذلك من سمات أهل البدع، ثم إن السؤال عنه مما لا تمكن الإجابة عليه فهو من التنطع في الدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون"(18).
وهذا القول الذي قاله مالك وشيخه يقال في صفة نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا وغيره من الصفات: إنها معلومة المعنى، مجهولة الكيفية، وإن الإيمان بها على الوجه المراد بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة.
فصل
في المفاضلة والمقارنة بين أرباب البدع
نظار المتكلمين الذين يدعون التحقيق وينتسبون إلى السنة يرون التوحيد عبارة عن تحقيق توحيد الربوبية.
وطوائف من أهل التصوف الذين ينتسبون إلى التحقيق والمعرفة غاية التوحيد عندهم شهود توحيد الربوبية. ومعلوم أن هذا هو ما أقر به المشركون، وأن الرجل لا يكون به مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً من أولياء الله، أو من سادات أولياء الله تعالى.
وطائفة أخرى تقرر هذا التوحيد مع نفي الصفات، فيقعون في التقصير والتعطيل، وهذا شر من حال كثير من المشركين.
والجهم بن صفوان إمام الجهمية نفاة الصفات يغلو في القضاء والقدر ويقول بالجبر، فيوافق المشركين في قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء، لكنه يثبت الأمر والنهي فيفارق المشركين إلا أنه يقول بالإرجاء فيضعف الأمر والنهي والعقاب عنده، لأن فاعل الكبيرة عنده مؤمن كامل الإيمان غير مستحق للعقاب.
والنجارية - أتباع الحسين بن محمد النجار - والضرارية - أتباع ضرار ابن عمرو وحفص الفرد - يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضاً في نفي الصفات.
والكلابية - أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب - والأشعرية المنتسبون لأبي الحسن الأشعري خير من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وأما في القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة.
وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي خير من الأشعرية في هذا وهذا.
والكرامية - أتباع محمد بن كرام - قولهم في الصفات، والقدر، والوعد، والوعيد أشبه من أكثر طوائف أهل الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة. وأما في الإيمان فقولهم منكر لم يسبقهم إليه أحد، فإنهم جعلوا الإيمان قول اللسان فقط وإن لم يكن معه تصديق القلب، فالمنافق عندهم مؤمن ولكنه مخلد في النار.
والمعتزلة - أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري - يقاربون قول جهم في الصفات فيقولون بنفيها، وأما في القدر والأسماء والأحكام فيخالفونه، ففي القدر يقولون: إن العبد مستقل بعمله كامل الإرادة فيه، ليس لله في عمله تقدير ولا خلق. ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب.
وجهم يقول: إن العبد مجبر على عمله، وليس له إرادة فيه.
وفي الأسماء والأحكام يقول المعتزلة: إن فاعل الكبيرة خارج عن الإيمان غير داخل في الكفر فهو في منزلة بين منزلتين، ولكنه مخلد في النار. ويقول جهم: إنه مؤمن كامل الإيمان غير مستحق لدخول النار.
والمعتزلة خير من الجهمية فيما خالفوهم فيه من القدر والأسماء والأحكام، فإن إثبات الأمر والنهي، والوعد والوعيد، مع نفي القدر خير من إثبات القدر مع نفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولهذا لم يوجد في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد ووجد في زمنهم القدرية والخوارج الحرورية.
وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخف، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة، وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل.
والمتصوفة الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، لأن هؤلاء المتصوفة يشبهون المشركين الذين قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) (الأنعام: 148). والقدرية يشبهون المجوس الذين قالوا: إن للعالم خالقين. والمشركون شر من المجوس.
أما الصوفية الذين عندهم شيء من تعظيم الأمر والنهي مع مشاهدة توحيد الربوبية وإقرارهم بالقدر، فهم خير من المعتزلة، لكنهم معتزلة من وجه آخر حيث جعلوا غاية التوحيد مشاهدة توحيد الربوبية، والفناء فيه فاعتزلوا بذلك جماعة المسلمين وسنتهم. وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شراً من بدعة أولئك المعتزلة.
وكل هذه الطوائف عندها من الضلال والبدع بقدر ما فارقت به جماعة المسلمين وسنتهم. ودين الله تعالى ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير الأمة التي هي خير الأمم.
وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: 6-7). فالمغضوب عليهم كاليهود عرفوا الحق فلم يتبعوه، والضالون كالنصارى عبدوا الله بغير علم، وكان يقال: تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيماً" وخط عن يمينه وشماله ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: 153)(77) . وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً"(78) . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منك مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم على الهدى المستقيم".
[/size]