قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة (2 / 550 -551) :
(ثمَّ انظر إلى الحكمة البالغة في جَعل عظامِ أسفل البدن غليظة قويَّة؛ لأنها أساسٌ له، وعظامِ أعاليه دونها في الثَّخانة والصَّلابة؛ لأنها محمولة.
ثمَّ انظر كيف جَعَل الرَّقبة مَرْكبًا للرأس، وركَّبها من سَبْع خَرَزاتٍ مجوَّفاتٍ مستديرات، ثمَّ طبَّق بعضها على بعض، وركَّب كلَّ خَرَزةٍ على صاحبتها تركيبًا محكمًا متقنًا حتى صارت كأنها خرزةٌ واحدة، ثمَّ ركَّب الرَّقبة على الظَّهر والصَّدر، ثمَّ ركَّب الظَّهر من أعلاه إلى منتهى عَظم العَجُز من أربع وعشرين خرزةً مركَّبة بعضها في بعضٍ هي مَجْمَعُ أضلاعه والتي تمسكُها أن تنحَلَّ وتنفصل، ثمَّ وَصَل تلك العظام بعضها ببعض؛ فوصل عظامَ الظَّهر بعظام الصَّدر، وعظامَ الكتفين بعظام العَضُدَين، والعَضُدَين بالذِّراعين، والذِّراعين بالكفِّ والأصابع.
وانظر كيف كسا العظامَ العريضةَ كعظام الظَّهر والرأس كسوةً من اللحم تناسبُها، والعظامَ الدَّقيقةَ كسوةً تناسبها كالأصابع، والمتوسِّطةَ كذلك كعظام الذِّراعين والعَضُدَين، فهو مركَّبٌ على ثلاث مئةٍ وستِّين عظمًا؛ منها مئتان وثمانيةٌ وأربعون مفاصل، وباقيها صغارٌ حُشِيَت خِلال المفاصل، فلو زادت عظمًا واحدًا لكان مَضرَّةً على الإنسان يحتاجُ إلى قَلْعِه، ولو نقصت عظمًا واحدًا كان نقصانًا يحتاجُ إلى جَبْره، فالطَّبيبُ ينظرُ في هذه العظام وكيفية تركيبها ليعرفَ وجه العلاج في جَبْرِها، والعارفُ ينظرُ فيها ليستدلَّ بها على عظمة باريها وخالقها، وحكمته وعلمه ولُطْفِه. وكم بين النظرَين!
ثمَّ إنه سبحانه رَبَط تلك الأعضاء والأجزاءَ بالرِّباطات، فشدَّ بها أسْرَها، وجعلها كالأوتاد تمسكُها وتحفظها، حتى بلغ عددُها إلى خمس مئةٍ وتسعةٍ وعشرين رباطًا، وهي مختلفةٌ في الغِلَظِ والدِّقَّة، والطُّول والقِصَر، والاستقامة والانحناء، بحسب اختلاف مواضعها ومَحَالهِّا، فجعل منها أربعةً وعشرين رباطًا آلةً لتحريك العين وفَتحِها وضمِّها وإبصارها، لو نقصت منهنَّ رباطًا واحدًا اختلَّ أمرُ العين، وهكذا لكلِّ عضوٍ من الأعضاء رباطاتٌ هي له كالآلات التي بها يتحرَّكُ ويتصرَّفُ ويفعلُ كلَّ ذلك. صُنْعَ الرَّبِّ الحكيم، وتقديرَ العزيز العليم، في قطرةٍ من ماءٍ مَهين، فويلٌ للمكذِّبين، وبُعدًا للجاحدين.
ومن عجائب خَلقِه أنه جَعَل في الرأس ثلاثَ خزائنَ نافذًا بعضُها إلى بعض؛ خِزانةً في مُقَدَّمه، وخِزانةً في وسطه، وخِزانةً في آخره، وأودع تلك الخزائنَ من أسراره ما أودَعها من الذِّكر والفِكر والتعقُّل.