وإن مما صفعني به القدر صحبة هؤلاء، الذين مجاورتهم كالسم القاتل ليس له مضاد، فبدلتُّ بصحبة الأخيار أشرارا، وبالعباد الصالحين فجارا، وبالمهتدين المتململين بالأسحار مضلين حيارى وسكارى. لله ما أقساها من أخذة، وأنَّى يستبين لك الحال بذكر هذه النبذة ،بل أكتفي بلهيب الكلمات يواجهك ،وبأزيز مصدور يلفح سمعك،فاحمد الله على انك سمعت لا رأيت فلو رأيت لخطف بصرك،أحوال كالأهوال ، وأهوال كالجبال شمٌّ شامخات ،إن أردت أن تعرف هؤلاء القوم معرفتي كصاحب (اعني بالمصاحبة الملازمة لهم على كرهٍ مني)،فهيئ نفسك للخوض في لجج المتاعب ، واستمع لحديثي استماع الحاضر الغائب . إن هؤلاء القوم لو أردتُ أن أُجمل لك وصفهم ، فليس الله لهم على بال ، وهذه والله لأعظم البلاء ، وتنشق ألأرض لأجلها وتخر لها السماء ، بل وتندكُّ لها الجبال ،تلك هو ألإجمال ،أما التفصيل فذاك صندوق العجائب إجتمعت فيه كل الرزايا وفي الزوايا خبايا ولم يبقى في الناس بقايا إلا من رحم الله تعالى. هؤلاء القوم قدَّت قلوبهم من صخر غير أن الصخر ألين ، وإن لان لك فاعلم أنه لحاجة إذا قضاها فلا يعرفك ، يقرضون السبَّ والأذى كما تقرض العرب الشعر ، أقطابٌ في باب الحيل يتنقل من حيلة لأُخرى ليستخرج منك ما أراد ،منشغلون بأتفه الأُمور وأدقها ،يجتمعون للسفا سف كما يجتمع للعظائم أهل الحلِّ والعقد ،"ولله الأمر من قبل ومن بعد". عالم خاص من نوع فريد له قوانينه وأساليبه ومقوِّماته ليس هناك ما يسمى بالفرْح ،إلا رجلا أُريد به خيرا فنودي عليه بالفرج ، أما الضحك والتبسم والسرور فضرب من الخيال وليس عليَّ فيما قلت من حرج ، لكنه مرتع للفكر عجيب لو خالطه شئ من الصفاء ، وكيف يصفو الفكر في هذا المَرَج، فصائح يصيح ونائح ينوح ، يحتاج المصلح لتهذيبهم أن يعمَّر مثل ما عمَّر نوح ،وسبٌّ وقذف ، وتنخم وتف ، وهائم على الأنغام راقص ، وشرذمة ( متفذلكة ) أخذوا في سرد النقائص،الغيبة في هذا العالم مباحة ، لاوقت للإخاء وجلُّ حديثهم وصف الفاتنات من النساء ، وأغلب صياحهم هذيان يجلب الغثيان سمَّوْهُ زورا طربا وغناء. جلُّ من قابلتهم عنترة ،في سردهم للبطولات والجرأة والشجاعة ، إذا حمي وطيس المهاترات لم أجد ساعتها (شيبوبا ) إلا أنا ،فما فتحت بطن أحد أبدا اللهم إلا بطن كتاب ، وما قتلتُ إلا بحثا أو بحثين ، ولا قطعت إلا وريقات ، ولا أسلت إلا حبر أقلامي ، فعلمت حينها أنني بحق ( شيبوب ) ،أين أنا في ساحات هرائهم، وأي ركب يبلغ شأو ركابهم ، كلماتهم ونصائحهم على جدران الخلاء مكتوبة،أقدامهم لرفع لوائها منصوبة ،لو بحتُ لك بهذه النصائح فلعلَّك تموت ضحكا غير أني أخشى انعدام المثوبة . وإذا قابلت رجلا عاقلا يخيل إليك أنه أُوتي جوامع الكلم ،فإذا دار الكلام واشتعلت نيران المناظرة استشعرت قول القائل : "لقد استسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم". ومن الصعاب في هذا المكان أن يمتلئ القلب هما ويكاد يصرخ كمدا،واغرورقت العينان دمعا واضطرب النَّفَس صعودا وسُفُولا في ليل بهيم لا ترى فيه قمرا ولا نجما إلا مأفولا ،كدتُّ أنسى رسم الشمس والقمر والنجوم والكواكب،فكلهم في السماء حاضر،وفي محبسي غائب ،في صمت شديد تصرخ الأعضاء وفي همس مريب يتكلمون ،"والله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعلمون". في مثل هذا الحال يجول الخاطر ويصول ، تريد أن تخلو بنفسك لكن هيهات كأنَّك أوقدت شمعة في مهبِّ الريح،والقلب على جمر المتاعب يتقلب ،فلا هو يحيى فينجو ،ولا هو يموت فيستريح ،وأشواق إذا هاجت فكأنها أمواج بحر طاغية ،وإذا هدأت ولانت فكأنها ريح صرصر عاتية، فالشقي الشقي من كان مثلي في حساسيتي ورقة نفسي عندما زُجَّ بي إلى هذا المكان ، وقع بصري على ما أكره ، فكأنهم قومٌ نشروا من القبور ،رؤوسهم مرقعة ووجوههم مقطعة ،أجسامهم موشومة،عابسين قاطبين والغلظة في وجوههم موسومة ، منهم من ملئت الدمامل جسده ،ومنهم من قطَّع من شدة الحكِّ جلده،طويلة أظلافهم ،بعيدة أفهامهم ،علماء بلا منازع في الجهالة ، إذا تكلموا فبأسوأ مقالة ،ومن المبكيات المضحكات أنني ما استقذرت أحدا منهم إلا وقعت عليَّ في ملازمته القرعة فأنام بجانبه وآكل معه في صحفة واحدة مجبورا مقهورا. هذا لعمري أمر شنيع وشئ في القياس بديع ،فأين البلغاء ؟ وأين الشعراء؟ "والله غالب على أمره ولكن أكثر ألناس لا يعلمون". وأنشدك في هذا شعرا من عندي فتصبَّريرحمك الله : مثَّلوا بي وجزَّوا لحيتي جزَّ النعاج السارحةْ فترى القوم فيها كنسوة باكية ومثكلة ونائحة وهيبة الآساد كانت يومها كرايات فوق شهب لائحة فيا شانئي وحاسدي وباغضي وشامتي شمت الوجوه الكالحة كم غيَّب السجن قبلي انبيا ملكوا الدُنا وكل ريح رائحة وغاديةْ ومقبلةْ ومدبرةْ وكل أرض خصبة وفالحة إنْ جد الخطب يوما إني شامخ كالمزن في كبد السماء سابحة إن ساخ كفُّ الشانئين فكفتي في الوزن عند ربي رابحة فلا خسارة يومها لا والذي ملك النفوس،والخسارة فادحة من يتَّجرْ بالنفس عند ربه فهْيَ لعمري البيعة الرَّابحة يا داعي الله صبرا إنما تجري الخطوب على النفوس الصالحة أيها القارئ لعلّه خيِّل إليك أنك تسمع أساطير الأولين ،لا بل إنها أساطير الآخرين ،أو ضرب من الخيال أو حكاية تصديقها محال ، فأنا لم أبح بعد عما في صدري ، ولو بحت لك لما انتهيت ولو زدتني عمرا إلى عمري. وكله معدود عندي من البلاء ،ووقت مبتور من عمري رأيت فيه أغرب الأشياء ، ومما رأيت من الأعاجيب أن وجدت بعضهم من المسالمين الذين جاءوا إلى هذه البؤرة،وتعثرت أقدامهم فوقعوا في أعمق حفرة ،فضاع في غياهبها العمر ولا يغني حذر من قدر ،جاء صحيحا عاقلا فصيحا ،فصار سقيما مخبولا قبيحا، الصق صور أطفاله بالجدار وحوَّل إليهم وجهته يخاطبهم ،يلوِّح إليهم بيده يسلم عليهم ووقت الصفاء يداعبهم ،يبث إليهم شكواه إذا غلبه الشوق والأسى يتوسل إليهم أن يدعوا الله له بالرجوع، فيظل على حاله حتى تسيل على وجناته الدموع ،مجرد صور تلك حقيقة مؤلمة ،لكنها عنده شعاع نور ،يرجو به الخروج من الظلمة ، وأمل في الحياة كبير يداوي جروحه وكَلْمه ،مسكنا للآلام دافعا يدفع به الساعات والأيام ،يستنشق عبيرهم إذا ضاق نَفَسُه ليس مقتنعا أنهم مجرد صور. وأنا أرمقه من بعيد فأراه مكلوما،أذكر همي فأجلس محسورا ملوما،وتدور رأسي وينطلق فكري خلف القضبان له صولان وجولان ، أمرُّ على دياري ألامس الجدران كما فعل مجنون ليلى فقال: أمرُّ على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارَ وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارَ فأمر على هذه الديار دياري أملأ صدري مستنشقا ريح ولدي أقبل يدا أمي وأبي أعانق محبوبتي التي شاطرتني حياتي بأفراحها وأتراحها أصبِّرُها وأواسيها أردت إخبارها أن في ما مضى كفاية ، وأي جناية فعلَتْها حتى تتحمل عواقب تلك الوشاية ،أردتُ الفراق لكن على مضض ،خوفا عليها ،فسحقتني بجيوش صبر جرارة قادتها بنفسها وحملت لذلك الراية ،أبت الكلمات الخروج واستعصى عليَّ المقال ،وكل ذلك مجرد خيال أمسك بلجامه تارة فألجمه ،وتارة يغلبني فأعجز أن أكتمه ،وأروض نفسي وأذكرها أن ذلك من تصاريف القدر ،والذي يشغلني أنني أخشى أن أكون مثل صاحب الصور. فلم أجد إلا هذه الكلمات الدافئة أهديها لمحبوبتي فأنشدتها قائلا: جزى الله بالأشواق قلبًالطيفًا طريفًا بالوداد ملثَّمِ وعيون ناجلات مكحلات لحظها والذوائب قطع من الليل مظلم بدر إذا طلعت والنساء مواحق شمس إذا ضحكت فالزهر مبتسم ثغر إذا فغرت فالثلج مرتسم والشهد من عسل إن حاولت لثمي ريح من المسك أو عطر من الزهر أو جونة عطار فاحت بها النسم لهفي على جيد لوته وانصرفت بريق فضة في قالب منسجم فالقلب منعدم من قبل رايتها لما استبانت احيته من العدم رفق من الرفق ويسر من اليسر روضة من الزهر غارت لها النجم إن غبت عنك فغيبتي ضجر ضجر الطيور إذا نزلت بمزدحم أبعدوني فزادني البعد ولعا وليس نور الشمس لبعدها بمنصرم وبعثت رسالة إلى ولدي علَّه يذكرني،فأنشدته قائلا: حمزة بنيَّ إني باعثك بأشواق من القلب تحْرقني إن لاح طيف منك أسهدني سهد العليل لم يغمض له جفني والدمع منفجر بحر من اللجج تجري به السفن من بعدها سفن كيف الوصال يا فلذة الكبد؟ والسجن غيبني والقيد يمنعني إني رأيتك والقَطْر منهمر وصورة منك في القطر تشبهني ما كنت قبل أخشى من الموت ألآن ـويحي ـ إن متُّ تذكرني أشكو كيعقوب حزني إلى الله عيناه في يوسف ابيضت من الحزن وإلى أن ألقاكم مع أسطورة أخرى،أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .