قال ابن القيم -رحمه الله- ، في مفتاح دار السعادة طبعة عالم الفوائد ، مكة (2 / 545) :
(ونصب سبحانه قصبة الأنف في وسط الوجه ، فأحسن شكله وهيئته ووضعَه ، وفتحَ فيه المنخرين ، وحجز بينهما بحاجز ، وأودع فيهما حاسة الشم التي تُدْرَك بها أنواعُ الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة ،ولِيَسْتَنْشِق به الهواء فَيُوصِلَهُ إلى القلب فيتروَّحَ به ويتغذى به.
ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جعل في الأذن ؛ لئلا يمسك الرائحة فيُضعفَها ويَقطعَ مجراها ، وجعله سبحانه مصبًّا تنحدر إليه فصلاتُ الدماغ ، فتجتمعُ فيه ، ثم تخرجُ منه.
واقتضت حكمته أنْ جعل أعلاه أدق من أسفله ؛ لأن أسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات فخرجت بسُهولة ، ولأنه يأخذ من الهواء مَلْأه ـ ثم يتصاعد في مجراه قليلا قليلا ، حتى يصلَ إلى القلب وُصولا لا يضره ، ولا يزعجه.
ثم فصل بين الْمِنخرين بحاجز بينهما حكمةً منه ورحمةً ؛ فإنه لما كان قصبةً ومجرًى ساترا لما ينحدر فيه من فصلات الرأس ومجرى النَّفس الصاعد منه ، جعل في وسطه حاجزا ؛ لئلا ينسد بما يجري فيه فيمنعَ نَشْقَه للنفس ، بل إما أن يعتمدَ الفضلاتِ نازلةً من أحد المنفذَين في الغالب - فيبقى الآخر للتنفس ، وإما أن يجري فيهما فينقَسِمَ ، فلا ينسدَّ الأنف جملةً ، بل يبقى فيه مدخل للنفس!.
وأيضا ؛ فإنه لما كان عضوا واحدا وحاسة واحدة ، ولم يكن عضوين وحاستين كالأذنين والعينين التي اقتضت الحكمة تعدُّدَهما ، فإنه ربما أصيبت إحداهما ، وعرَضت لها آفةٌ تمنعُها مِن كمالها فتكونُ الأخرى سالمة ، فلا تتعطل منفعة هذا الجنس جملةً ، وكان وجود أنفين في الوجه شيئا ظاهرا ، فنصب فيه أنفا واحدا ، وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز
يجري مجرى تعدد العينين والأذنين في المنفعة ، وهو واحد ؛ فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين).