من المعلوم أن اللغة العربية تُعَدُّ ركيزةً أساسيةً بالنسبة إلى علوم الشريعة كلها؛ لأن فهم علوم الشريعة ومضامينها مرتبطٌ بصورة أساسية بفهم اللغة العربية ومعرفة علومها؛ فالقرآن الكريم مصدر الشريعة الأول كتابٌ عربيٌّ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المبينة والشارحة للقرآن الكريم والمؤسسة لكثيرٍ من الأحكام، لسانها عربيٌّ؛ فمَنْ لا يعرف العربية وعلومها، كيف سيفهم الوحي؟! لهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلَّا به فهو واجب.[1]
وقال: ولا بد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه؛ فمعرفة العربية التي خُوطبنا بها مما يُعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدَّعون أنه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمر كذلك؛ انتهى.
من هنا نفهم سرَّ اهتمام المحدِّثين باللغة العربية وعلومها، واعتبارهم معرفتها من مهمات المحدِّث وطالب الحديث، وسنُبيِّن صورًا من هذا الاهتمام في النقاط التالية:
أولًا: اهتمامهم باللغة في جانب الرواية، وتجلَّى ذلك فيما يأتي:
1- تأكيدهم على طالب الحديث أن يبدأ بتعلُّم اللغة قبل الحديث، وقد نُقِلَ عنهم عبارات شديدة في ذلك، منها: "قال حاجب بن سليمان: سمِعتُ وكيعًا يقول: أتيت الأعمش أسمع منه الحديث، وكنت ربما لحنت، فقال لي: يا أبا سفيان، تركت ما هو أولى بك من الحديث، فقلت: يا أبا محمد، وأي شيء أولى من الحديث؟! قال: النحو، فأملى عليَّ الأعمش النحو، ثم أملى عليَّ الحديث.
وروى الخطيب عن شعبة، قال: من طلب الحديث، ولم يتعلَّم العربية كمثل رجل عليه برنس وليس عليه رأس[2].
فسبب السلامة من اللحن يكون بتعلُّم النحو؛ أي: تعلم ما يعرف بالإعراب[3].
2- كما كانوا يحذرون الرواة من الأخذ عمَّن يُعرَف باللحن، ويُشدِّدون في ذلك؛ جاء في توضيح الأفكار[4]: "وليحذر الشيخ أن يروي حديثه بقراءة لحَّان أو مُصحِّف، فقد روينا عن الأصمعي قال: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم - أي: علم الحديث أو ما مزج به من الأدلة - إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كذَبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار))[5]... لأنه لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت، فقد كذبت عليه صلى الله عليه وسلم... وجاء نحو هذا عن حماد بن سلمة، فإنه قال لإنسان: إن لحنت في حديثي فقد كذبت عليَّ، فإني لا ألحن، وكان حماد إمامًا في ذلك، وروى أنه شكاه بعضهم إلى الخليل بن أحمد، فقال: سألته عن حديث هشام بن عروة، عن أبيه في رجل رعف، فانتهرني وقال: أخطأت؛ إنما هو مرعَف بفتح العين، فقال الخليل: صدق، أتلقي بهذا الكلام أبا أسامة؟
جاء في الكفاية (170) قال الشافعي رضى الله عنه حاكيًا عن سائل سأله: قد أراك تقبل شهادة من لا تقبل حديثه! فقلت: لكبر أمر الحديث، وموقعه من المسلمين، ولمعنًى بَيِّن، قال: وما هو؟ قلت: تكون اللفظة تُترك من الحديث فيختل معناه، أو ينطق بها بغير لفظ المحدث، والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث، فيحيل معناه، فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى، وكان غير عاقل للحديث، فلم يُقبل حديثه؛ إذ كان يحمل ما لا يعقل إن كان ممَّن لا يُؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس تأديته على معانيه، وهو لا يعقل المعنى، قال: أفيكون عدلًا غير مقبول الحديث؟ قلت: نعم، إذا كان كما وصفت، كان هذا موضع ظِنَّةٍ بيِّنة يرد بها حديثه.
وجاء في كتب التراجم ذكر لحن بعض الرواة في الحديث، ومن ذلك ما جاء في ترجمة إسماعيل بن أبي خالد "وقال هشيم: كان إسماعيل فحش اللحن؛ كان يقول: حدثني فلان عن أبوه[6].
فإذا سمِعَ الراوي حديثًا من شيخ، وكان في ذلك الحديث لحن، فقد اختار بعضهم "أنه يترك روايته إيَّاه عن ذلك الشيخ مطلقًا؛ لأنه إن تَبِعَه فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، وإن رواه عنه على الصواب، فهو لم يسمعه منه كذلك[7].
3- عند كلامهم على رواية الحديث بالمعنى اشترطوا للجواز "أن يكون الراوي عالِمًا بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيرًا بما يحيل المعاني، بصيرًا بمقدار التفاوت بينها، عارفًا بالشريعة ومقاصدها وقواعدها، وأما إذا لم يكن عارفًا بما ذكر، فلا تجوز قط بالإجماع"[8].
4- من القواعد التي ذكروها عند كلامهم على الأمور التي يستدلُّ بها على كون الحديث موضوعًا مكذوبًا "ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها"[9]؛ وانما يُميِّز الركيك من غيره العارف بكلام العرب ومعانيه وأساليبه.
ثانيًا: أهمية العلم باللغة العربية في فهم الحديث وشرح نصوصه وبيان معانيه، وذلك أن النبي صلَّى الله عليه وسلم نشأ في بيئة عربية خالصة بلغت الدرجة العالية في الفصاحة والبيان فضلًا عمَّا حباه الله به من مزايا الوحي المنزل، فكلام رسول الله فيه ما في لغة العرب من الأساليب البديعة، واستعمال المجاز، وغير ذلك، فلا يمكن فهم الحديث النبوي، واستنباط الأحكام منه، إلا لمن كان على دراية تامَّة بالعربية وعلومها، كما أن النصَّ قد تتفاوت معانيه مع تغايُر وجوه إعرابه، ومن المعلوم أيضًا أن معرفة الإعراب فرع المعنى.
وقد اهتمَّ المحدِّثون بهذا الجانب، ولعل من أبرز صور هذا الاهتمام أنهم جعلوا من أنواع علوم الحديث ما عرف باسم "معرفة غريب الحديث"، وهو يهتمُّ ببيان معاني الألفاظ الغريبة، وقد صنَّفُوا في ذلك مُصنفات، من أشهرها: النهاية في غريب الحديث؛ لابن الأثير، وغريب الحديث؛ لأبي عبيد، ومثله لابن قتيبة.
وقد أدرك علماء الشريعة قديمًا وحديثًا أهمية اللغة بالنسبة إلى فهم القرآن والسنة، فهذا هو محمد بن عبدالله زوج ابنة الإمام الشافعي يقول: أقام الشافعي علمَ العربية، وأيامَ الناس عشرين سنة، فقلنا له في هذا، فقال: ما أردتُ بهذا إلا استعانةً للفقه [10].
وقد أدرك علماء الدين هذه القضية؛ فها هو إبراهيم الحربي يقول: مَنْ تكلَّم في الفقه بغير لغةٍ تكلَّم بلسان قصير [11].
2- وإذا كانوا قد ذكروا أن المفسِّر لكلام الله عز وجل يحتاج إلى أدوات حتى لا يتكلم في كتاب الله بغير علم، ومن هذه الأدوات:
1- علم اللغة.
2- علم النحو.
3- علم الصرف.
4- علم الاشتقاق.
5- علوم البلاغة الثلاثة: المعاني، البيان، البديع.
فكذلك من يشرح أحاديث رسول الله، ويستنبط منها الأحكام يحتاج معرفة هذه العلوم، وإلا كان مُعرَّضًا للخطأ والزَّلَل في فهم نصوص الشريعة.
3- إن المتكلم في شرح أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بغير معرفة تامة باللغة وعلومها، قد يخطئ خطأً كبيرًا، وسأذكر أمثلة من الأخطاء في فهم أحاديث رسول الله، كان سببها قلة المعرفة باللغة وعلومها، ومن هذه الأمثلة:
• ما جاء في الحديث القدسي المعروف: ((وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بشِبْرٍ، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً))[12].
فقد شغَّب المعتزلة على أهل الحديث بروايتهم مثل هذا النص، وعزوهم ذلك إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهو يوهم في تصورهم تشبيهه تعالى بخلقه في القرب المادي والمشي والهرولة، وهذا لا يليق بكمال الألوهية.
وقد رد على هؤلاء الإمامُ ابن قتيبة في كتابه: تأويل مختلف الحديث بقوله: إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: مَنْ أَتَانِي مُسْرِعًا بِالطَّاعَةِ، أَتَيْتُهُ بِالثَّوَابِ أَسْرَعَ مِنْ إِتْيَانِهِ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِالْمَشْيِ وَبِالْهَرْوَلَ ةِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مُوضِعٌ فِي الضَّلَالِ - وَالْإِيضَاعُ: سَيْرٌ سَرِيعٌ - لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَسِيرُ ذَلِكَ السَّيْرَ؛ وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَى الضَّلَالِ، فَكَنَّى بِالْوَضْعِ عَنِ الْإِسْرَاعِ[13].
قال ابن تيمية: من لم يعرفْ لغةَ الصحابةِ التي كانوا يتخاطبون بها، ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم وعادتهم في الكلام، حرَّفَ الكلم عن مواضِعه؛ فإن كثيرًا من الناس ينشأ على اصطلاحِ قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظَ في كلامِ اللهِ أو رسوله أو الصحابة، فيظن أنَّ مرادَ الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريدُه بذلك أهلُ عادته واصطلاحه، ويكون مرادُ الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك [14].
ومن خلال نظرة سريعة في كتب شروح الحديث عند المتقدمين نجد عندهم أثر العلم بالعربية وعلومها ظاهرًا بصورة قوية، فلما ضعف العلم بالعربية رأينا بعض الشروح التي تفتقد العمق والمعرفة اللغوية؛ فلهذا كله تظهر أهمية العلم باللغة العربية.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
[1] اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، صـ 207.
[2] في القاموس: "البرنس بالضم: قلنسوة، أو كل ثوب رأسه منه، دراعة كان أو جبة أو قمطرًا".
[3] توضيح الأفكار، ويُنظر: الجامع في آداب الشيخ والسامع؛ للخطيب.
[4] توضيح الأفكار.
[5] الحديث أخرجه البخاري.
[6] إكمال تهذيب الكمال (2/ 160).
[7] الوسيط في علوم الحديث د/ محمد أبو شهبة (151).
[8] الوسيط (40).
[9] المنار المنيف؛ لابن القيم (99).
[10] الفقيه والمتفقه؛ للخطيب البغدادي 2/ 41 رقم: 662.
[11] الفقيه والمتفقه؛ للخطيب البغدادي 2/ 41 رقم: 663.
[12] البخاري كتاب التوحيد، بَابُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 28] 9/ 121، رقم: 7405، ومسلم، كتاب: التوبة، بَابٌ فِي الْحَضِّ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْفَرَحِ بِهَا 4/ 2102 رقم: 2675.
[13] تأويل مختلف الحديث؛ لابن قتيبة.
[14] الاعتصام 2/ 265.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz5hKHbEj6U