الحفظ نعمة من الله، يُنعِم بها على مَنْ شاء من عباده، فيُوفِّقْه لحفظ النصوص واستحضارها متى شاء، والحفظ عند السلف نوعان:
• حفظ الصدور.
• حفظ السطور.
والأول أفضل، ومن المتقنين من السلف مَنْ كان يجمع بينهما؛ فمثلًا الإمام أحمد بن حنبل كان يحفظ ألف ألف حديث، إلا أنه ذكر عنه أنه لم يكن يُحدِّث إلا من كتاب ولا يُناظر إلا من كتاب؛ خوفًا من الوهم.
ولا يكفي العلم الفهم فقط دون الحفظ - كما يزعم بعضهم - بل لا بدَّ من الحفظ المتقن كما في العلوم الأخرى؛ كالرياضيات والإنجليزي، لا بدَّ لها من الحفظ مع الفهم، وفي هذا قصة لطيفة وقعت لشيخ الإسلام أبي حامد الغزالي (505هـ)، تدلُّ على منزلة الحفظ وأهميته، وذلك عندما سافر الغزالي رحمه الله إلى جرجان إلى الإِمام أبي نصر الْإِسْمَاعِيلِ يِّ، وعَلَّق عَنهُ التعليقة[1]، ثمَّ رَجَعَ إِلَى طوس.
قَالَ الإِمَام أسعد الميهني: فَسَمعته يَقُول: قُطِعَتْ علينا الطَّرِيقُ، وَأخذ العَيَّارون (اللصوص) جَمِيع مَا معي ومضوا، فتبعتهم فَالْتَفت إِلَيَّ مقدِّمهم، وَقَالَ: ارْجع، وَيْحكَ، وَإِلَّا هَلَكت! فَقلتُ لَهُ: أَسأَلك بِالَّذِي ترجو السَّلامَة مِنْهُ، أَن تَرُدَّ عليَّ تعليقتي فَقَط؛ فَمَا هِيَ بِشَيْءٍ تنتفعون بِهِ، فَقَالَ لي: وَمَا هِيَ تعليقتك؟
فَقلت: كتبٌ فِي تِلْكَ المِخلاة هَاجَرتُ لسماعها وكتابتها وَمَعْرِفَة عِلْمِها.
فَضَحِك، وَقَالَ: كَيفَ تَدَّعِي أَنَّك عرفتَ علمها، وَقد أخذناها مِنْك، فتجردت من مَعْرفَتها وَبقيت بِلَا علمٍ، ثمَّ أَمرَ بعضَ أَصْحَابه فَسلَّم إِلَيَّ المخلاة.
قَالَ الْغَزالِيُّ فَقلت:.. أنطقه الله ليُرشدني بِهِ فِي أَمْري، فَلَمَّا وافيت طوس، أَقبلت على الاشْتِغَال ثَلَاث سِنِين حَتَّى حفظت جَمِيع مَا علقته، وصرت بِحَيْثُ لَو قطع عليَّ الطَّرِيق لم أتجرَّد من علم [2].
فالأفضل حفظ الصدر لما فيه من أهمية استحضار الأدلَّة، قال الشافعي:
علمي معي أينما يمَّمْتُ أحمله
قلبي وعاء له لا قلب صندوقِ
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي
أو كنت في السوق كان العلم في السوقِ[3]
فكان السلف رضوان الله عليهم يحرصون على حفظ المتون حرصًا شديدًا، بحسب الفن الذي يريدون إتقانه؛ ولذا يجب على الخلف إذا أرادوا أن يتخصَّصُوا في علم ويتقنونه أن يبحثوا عن المتون ليحفظوها ويضبطوها؛ لأن حفظ المتن يسهل العلم؛ ولهذا قال الإمام السفاريني (ت 1188هـ):
وصَار من عَادَة أهل الْعلم
أَن يعتنوا فِي سبر ذَا بالنظم
لِأَنَّهُ يسهل للْحِفْظ كَمَا
يروق للسمع ويشفي من ظما
وَمن هُنَا نظمت لي عقيده
أرجوزة وجيزة مفيده[4]
فإذا حفظت متنًا في علم ضبط لك الأمور، وجمع لك العلم، فعقل الإنسان لا يمكنه استحضار جميع مفردات المسائل في وقت واحد مهما بلغ من الذكاء حتى يحفظها، فقد يخدع الإنسان نفسه بإتقان العلوم بالمطالعة، وكثرة القراءة من دون الحفظ؛ ولهذا لما قيل للشيخ ابن عثيمين (ت 1421هـ): إن هناك مَنْ يقول: إن العلم هو الفهم والبحث، وليس العلم هو الحفظ، قال الشيخ: هذا الكلام ليس بصحيحٍ، ونحن الآن بلغنا ما بلغنا - وهذه عبارته - وما معنا إلا ما حفظنا: زاد المستقنع، وبلوغ المرام، وأخذ يذكر المتون التي حفظها.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ
[1] التعليقة: هي تدوين الطالب المهم لما يسمعه من الشيخ، وقد كان عند السلف من العلماء من يرحل ويُلازم الشُّيوخ وفي هذه الملازمة "الصُّحْبة" يقوم بتدوين "تعليق" ما يراه مُهمًّا من العلوم والتي يكون قد تعلَّمَها من شيخه، وربَّما كانت عنده أكثر من تعليقة؛ إذ يُعلِّق على كل شيخ يدرس عنده تعليقة مُنفردة، وقد ترد التَّعليقة بمعنى التَّحضير الفصلي (دفتر تحضير الدُّرُوس)؛ إذ يقوم المعلم بتدريس الطُّلاب من مُحتوى التَّعليقة أو أن تكون التَّعليقة رسائل يدوِّنها أحدهم فيقول: علقت كذا وكذا، وهكذا فإنَّ التعليقة تَرِد بمعنى مُذكِّرة الطَّالب أو دفتر تحضير المعلم أو ما دوَّنه المؤلف، اليوم وبعد أكثر من تسعمائة سنة يتمتَّع علماء القانون والفقه وغيرهم بالاطِّلاع على تعليقة الغزالي"المنخول من تعليقات الأصول"التي علَّقَها عن شيخه إمام الحرمين الجويني، ومما جاء في نهاية الكتاب والذي من شأنه أن يكشف عن مقصد التَّعْلِيْقَة ومنهج إعدادها عند السَّابقين: "هذا تمام القول في الكتاب، وهو تمام المنخول من تعليق الأصول، بعد حذف الفضول، وتحقيق كل مسألة بماهية العقول، مع الإقلاع عن التَّطويل، والتزام ما فيه شفاء الغليل، والاقتصار على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله في تعاليقه، من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل، سوى تكلُّف في تهذيب كل كتاب بتقسيم فصول، وتبويب أبواب، روماً لتسهيل المطالعة عند مسيس الحاجة إلى المراجعة" (ص 618)، عندما اطَّلع الجويني على تعليقة تلميذه الغزالي قال: "دفنتني وأنا حي، هلا صبرت حتى أموت"؛ أي: أنَّ تعليقة الغزالي كطالب كانت تُضارع كتاب الجويني في القوة العلمية بل صارت أشهر؛ ينظر: نبذة عن التَّعْلِيْقَة في التُّرَاث التَّعْلِيْمي الإسلامي، د. لطيفة الكندري د. بدر ملك، كلية التربية الأساسية - الكويت.
[2] ينظر: طبقات الشَّافعيَّة الكبرى: 6/195.
[3] أدب الدنيا والدين: 58.
[4] العقيدة السفارينية، الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية 40.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/133075/#ixzz5hKAp5CdO