تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    ذهب الجبرية، الى نفى تأثير الاسباب بمسبباتها - حيث لا يثبتون في المخلوقات قُوًى وطبائعَ، ويقولون: إنَّ الله فعل عندها لا بها، وإنَّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، أي: ليس في النار قوة الإحراق لكن عند وجود النار يخلق الله الإحراقَ بلا تأثيرٍ من النار، وليس في الماء قوة الإغراق، وإنما عند وجود الماء يخلق اللهُ الإغراقَ بلا تأثيرٍ من الماء، ولا في السكِّين قوة القطع، وإنما عند وجود السكين يخلق الله القطعَ بلا تأثير من السكين، ولا في الماء والخبز قوة الرَّيِّ والتغذِّي به، وإنما عند وجود الماء والخبز يخلق الله الرَّيَّ والتغذيةَ بلا تأثير من الماء والخبز، ونحو ذلك ممَّا قد أجرى اللهُ العادة بخلق المسبَّبات عند وجود هذه الأسباب. وعلى النقيض من هذا المذهب ما قرَّرته القدرية من أنَّ العبد هو الموجِد لفعله، ويضافُ إليه الانفراد بالتأثير، وكذا الأسباب فهي مؤثِّرة بذاتها من غير أن يكون لله تقديرٌ ومشيئةٌ، ---------------- اما أهل السُّنَّة - لا ينكرون تأثير الاسباب، كما لا ينكرون تأثير القُوَى والطبائعِ في مُسبَّباتها، واللهُ تعالى خالق السبب والمسبَّب، وحدوث المسبَّب بالسبب لا عند السبب، فرجع الكلُّ إلى محضِ خلق الله وأمره وفضله ورحمته، --------------------- يقول شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله-: «فالذي عليه السلف وأتباعهم وأئمَّة أهل السُّنَّة وجمهورُ أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب، وأنَّ قدرة العبد مع فعله لها تأثيرٌ كتأثير الأسباب في مُسبَّباتها، واللهُ تعالى خلق الأسباب والمسبَّبات، والأسبابُ ليست مُستقِلَّة بالمسبَّبات، بل لا بدَّ لها من أسباب أُخَر تعاونها، ولها -مع ذلك- أضداد تمانعها، والمسبَّب لا يكون حتى يخلق الله جميعَ أسبابه، ويدفع عنه أضدادَه المعارضةَ له، وهو سبحانه يخلق جميعَ ذلك بمشيئته وقدرته، كما يخلق سائرَ المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعلُ العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بدّ من الإرادة الجازمة مع القدرة، وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلا بدَّ من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره». اﻫ

    فأهل السُّنَّة والجماعة -في هذه المسألة- وسط بين الجبرية والقدرية، - يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله-: «فكلُّ دليلٍ صحيحٍ يقيمه الجَبْرِيُّ فإنما يدلُّ على أنَّ الله خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّ أفعال العباد من جُملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدلُّ على أنَّ العبد ليس بفاعلٍ في الحقيقة ولا مُريدٍ ولا مُختارٍ، وأنَّ حركاتِه الاختياريةَ بِمَنْزلةِ المرتعش، وهبوب الرياح وحركة الأشجار.

    وكلُّ دليلٍ صحيحٍ يقيمه القَدَرِيُّ، فإنما يدلُّ على أنَّ العبدَ فاعلٌ لفعله حقيقة، وأنه مُريدٌ له، مختارٌ له حقيقةً، وأنَّ إضافته ونسبتَه إليه إضافةُ حقٍّ، ولا يدلُّ على أنه غيرُ مقدورٍ لله تعالى، وأنه واقعٌ بغير مشيئته وقدرته.
    فإذا ضممت ما مع كلِّ طائفةٍ منهما من الحقِّ إلى حقِّ الأُخرى، فإنما يدلُّ ذلك على ما دلَّ عليه القرآن وسائرُ كتب الله المُنَزَّلة، ومن عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأنَّ العباد فاعلون لأفعالهم حقيقةً، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذمّ» -------------قال ابن القيم – رحمه الله - :
    "والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام :
    1. منهم مَن بالغ في نفيها وإنكارها ، فأضحك العقلاء على عقله ، وزعم أنه بذلك ينصر الشرع فجنى على العقل والشرع وسلط خصمه عليه .
    2. ومنهم مَن ربط العالم العلوي والسفلي بها ، بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار ومدبر لها يصرفها كيف أراد فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها ويتصرف فيها كما يشاء ويختار .
    وهذان طرفان جائران عن الصواب .
    3. ومنهم مَن أثبتها خلقاً وأمراً قدراً وشرعاً ، وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به من كونها تحت تدبيره ومشيئته وهي طوع المشيئة والإرادة ومحل جريان حكمه عليها فيقوي سبحانه بعضها ببعض ، ويبطل إن شاء بعضها ببعض ، ويسلب بعضها قوته وسببيته ويعريها منها ويمنعه من موجبها ، مع بقائها عليه ؛ ليعلم خلقُه أنه الفعَّال لما يريد ، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته ، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت مع كونه سبباً .
    وهذا باب عظيم نافع في التوحيد وإثبات الحكم ، يوجب للعبد إذا تبصر فيه الصعود من الأسباب إلى مسبِّبها ، والتعلق به دونها ، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه ، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارّاً ، وضارَّها نافعاً ، ودواءها داءً ، وداءها دواء ، فالإلتفات إليها بالكلية : شرك مناف للتوحيد ، وإنكار أن تكون أسباباً بالكلية : قدح في الشرع والحكمة ، والإعراض عنها مع العلم بكونها أسباباً : نقصان في العقل ، وتنزيلها منازلها ومدافعة بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض وشهود الجمع في تفرقها والقيام بها : هو محض العبودية والمعرفة وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة ، والله أعلم" انتهى من" مدارج السالكين " ( 1 / 243 ، 244 )

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    يسمى الجبرية - هذه المسألة " السببية " وخلاصتها : نفي تأثير الأسباب بمسبَّباتها ، فلا ارتباط لسبب بمسبَّب ، وإنما العلاقة بينهما علاقة اقتران ، فالنار – عندهم – لا تحرق بطبعها ولا هي علة الإحراق ، وإنما يخلق الله تعالى فيها الإحراق عند التقائها بشيء قابل للاحتراق ، فالذي يحرق هو الله ، والنار ليس لها أي تأثير ، والسكين – عندهم - لا تقطع بطبعها ولا هي علة القطع ، إنما يخلق الله تعالى فيها القطع عند مرورها على الشيء القابل للقطع ، فالذي يقطع هو الله ، والسكين ليس لها أي تأثير ، وهكذا يقولون إن الإنسان لا يشبع بالأكل بل عند الأكل ! ولا يروى بالشرب بل عند الشرب ! وقد جعلوا ذلك من التوحيد ، وحكموا على المخالف بالبدعة والضلالة والكفر .
    قال أحمد بن محمد العدوي الأشعري المشهور بـ " الدردير " :
    تَخَالُفٌ للغيْرِ وحدانيةْ *** في الذَّاتِ أو صِفَاتِهِ العليَّةْ
    والفِعلِ فالتأثيرُ ليسَ إلا ** للواحِدِ القَهَّار جلَّ وعَلا
    ومن يَّقُل بالطَّبعِ أو بالعلَّةْ *** فذاكَ كُفرٌ عند أهلِ المِلَّةْ
    ومَن يَقُل بِالقُوَّةِ المُودَعَةِ *** فَذَاكَ بِدْعِيٌّ فلا تَلتَفِتِ
    وقال في شرحه :
    يعني أنَّهُ تعَالى مُتَّصفٌ بوحدانيَّةِ الأفعالِ ، فليس ثمَّ مَن له فعلٌ من الأفعال سِوَاهُ تعالَى ، إذ كُلُّ ما سِوَاهُ عاجزٌ لا تأثيرَ له في شيءٍ من الأشياء ... .
    إلى أن قال :
    فلا تأثيرَ للنار في الإحراقِ ، ولا للطَّعامِ في الشَّبَعِ ولا للماء في الرّيِّ ، ولا في إنباتِ الزَّرعِ ، ولا للكواكبِ في إنضَاجِ الفواكِه وغيرِهَا ، ولا للأفلاكِ في شيءٍ من الأشياء ، ولا للسِّكِّين في القطعِ ، ولا لشيءٍ في دفع حَرٍّ أو بردٍ أو جلبِهِمَا وغيرِ ذلك ، لا بالطَّبعِ ولا بالعلَّةِ ولا بقُوَّةٍ أودَعَهَا اللهُ فِيها ، بل التأثيرُ في ذلك كُلُّهُ لله تعالى وحدَهُ بمحضِ اختيارِهِ عند وُجُودِ هذه الأشيَاءِ .
    انتهى باختصار من" الخريدة البهية وشرحها " ( ص 59 - 63 ).

    ردَّ أئمة السنَّة على مثل هذا القول المتهافت ، وبيَّنوا أن الله تعالى خلق الأشياء وخلق تأثيرها فيها ، فليس ثمة خالق مع الله ، والتأثيرات ليست خارجة عن إرادة الله تعالى ، والأسباب ليست فاعلة بذاتها ، بل هي فاعلة بأمر الله وقدرته .
    قال ابن القيم - رحمه الله - :
    "وأما الوقوف مع الأسباب واعتقاد تأثيرها فلا نعلم من أتباع الرسل من قال إنها مستقلة بأنفسها حتى يحتاج إلى نفي هذا المذهب ، وإنما قالت طائفة من الناس وهم القدرية : إن أفعال الحيوان خاصة غير مخلوقة لله ولا واقعة بمشيئة ، وهؤلاء هم الذين أطبق الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على ذمِّهم وتبديعهم وتضليلهم وبيَّن أئمة السنة أنهم أشباه المجوس وأنهم مخالفون العقول والفطر ونصوص الوحي ، فالتلبيس في الحقيقة حصل لهؤلاء ولمنكري الأسباب في القوى والطبائع والحكم ، ولُبس على الفريقين الحق بالباطل ... .
    إلى أن قال :
    ولا تكن ممن غلظ حجابه وكثف طبعه فيقول : لا نقف معها وقوف من يعتقد أنها مستقلة بالإحداث والتأثير وأنها أرباب من دون الله ، فإن وجدتَ أحداً يزعم ذلك ويظن أنها أرباب وآلهة مع الله مستقلة بالإيجاد ، أو إنها عون لله يحتاج في فعله إليها ، أو إنها شركاء له : فشأنَك به ؛ فمزِّق أديمَه ، وتقرَّب إلى الله بعداوته ما استطعت ، وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله ، والإلغاء لما اعتبره ، والإهدار لما حققه ، والحط والوضع لما نصبه ، والمحو لما كتبه والعزل لما ولاه ؟! فإن زعمت أنك تعزلها عن رتبة الإلهية ؛ فسبحان الله ، من ولاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك في عزلها عنها ؟! .
    والله ما أجهل كثيراً من أهل الكلام والتصوف حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد إلا بإلغائها ومحوها وإهدارها بالكلية ، وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى ولا طبائع ولا غرائز لها تأثير موجبة ما ، ولا في النار حرارة ولا إحراق ، ولا في الدواء قوة مُذْهِبة للداء ، ولا في الخبز قوة مشبعة ، ولا في الماء قوة مروية ، ولا في العين قوة باصرة ، ولا في الأنف قوة شامَّة ، ولا في السم قوة قاتلة ، ولا في الحديد قوة قاطعة ، وأن الله لم يفعل شيئاً بشيء ، ولا فعل شيئاً لأجل شيء ! فهذا غاية توحيدهم الذي يحومون حوله ويبالغون في تقريره ، فلعمْر الله لقد أضحكوا عليهم العقلاء وأشمتوا بهم الأعداء ، ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم وجنوا على الإسلام والقرآن أعظم جناية ، وقالوا : نحن أنصار الله ورسوله ، الموكَلون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرسل ، ولعمْر الله لقد كسروا الدِّين ، وسلطوا عليه المبطلين ، وقد قيل : " إياك ومصاحبة الجاهل فإنه يريد أن ينفعك فيضرك" .
    فقف مع الأسباب حيث أُمرت بالوقوف معها ، وفارقها حيث أمرت بمفارقتها ، كما فارقها الخليل .. حيث عَرض له جبريل أقوى الأسباب فقال : " ألك حاجة ؟ " فقال : " أما إليك فلا "
    انتهى من" مدارج السالكين " ( 3 / 402 – 409 ) .



    والذي دعا الأشاعرة للقول بهذا القول المبتدع والذي يخالف الشرع والفطرة والعقل : أمران ، إثبات المعجزات ، وإثبات قدرة الله الشاملة .
    قال بعض أهل العلم – عند الكلام على اعتقاد أبي حامد الغزالي
    "تأكيده لإنكار السببيَّة
    ، وهي مسألة مشهورة في المذهب الأشعري ، وقد قال بها الأشاعرة وأكدوها لأمرين :
    الأول : إثبات المعجزات ، التي هي في الحقيقة خوارق للعادات المعهودة ، فحتى تربط هذه المعجزات بالله وقدرته ، بحيث يقلب العصا حيّة ويشق القمر وغيرها من الأمور الخارقة ، لا بدَّ من ربط هذا بإنكار التلازم الذي يدعيه الفلاسفة وغيرهم بين السبب والمسبب .
    والثاني : إثبات قدرة الله الشاملة ، وإبطال التولد الذي قال به المعتزلة ، فالفاعل والخالق لكل شيء هو الله تعالى ، وهذا بناء على مذهبهم في القدر الذي يميل إلى الجبر" انتهى من" موقف ابن تيمية من الأشاعرة " ( 2 / 627

    ثالثا
    قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - :
    "ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنَّة لزاد على عشرة آلاف موضع ، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ، ويكفي شهادة الحس والعقل والفِطَر ، ولهذا قال مَن قال مِن أهل العلم : تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم ، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الرب ونعوت كماله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لملائكته وعباده ، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد ، فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسله وتنزيهه عن كل كمال ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل ، ... .
    ثم مِن أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد : إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب ، فإذا رأى العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الرب سبحانه إلا بإبطال الأسباب ، ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به ، وأنت لا تجد كتاباً من الكتب أعظم إثباتاً للأسباب من القرآن .
    ويا لله العجب ؛ إذا كان الله خالق السبب والمسبَّب ، وهو الذي جعل هذا سبباً لهذا ، والأسباب والمسبَّبات طوع مشيئته ، وقدرته منقادة لحكمه إن شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم ، وإغراق الماء على كليمه وقومه ، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها ، وإن شاء خلَّى بينها وبين اقتضائها لآثارها ، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا ، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد ؟! وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من الوجوه ؟! ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق ، والماء لا يُغرق ، والخبز لا يُشبع ، والسيف لا يَقطع ، ولا تأثير لشيء من ذلك البتة ، ولا هو سبب لهذا الأثر ، وليس فيه قوة ، وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا : قالت هذا هو التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير ! ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد ، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به كما تراه عِيانا في كتبهم ينفِّرون به الناس عن الإيمان"

    انتهى من" شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل " ( ص 189 ) .

    الاستدلالهم؛ بإلقاء إبراهيم عليه السلام فى النار - يرد عليه ؛ إن الأصل أن النار فيها الإحراق ولذا أعدَّها قومه له عليه السلام ولم يعدوا له ماء ليحرقوه به ! وقد بيَّن الله تعالى أنه عطَّل تلك الصفة في تلك النار فخاطبها بأن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم ، وهذا ليس لكل نار بل لتلك المخاطَبة ، ولا يملك أحد أن ينزع تلك الصفة منها إلا الله تعالى .
    ومثله يقال في صفة الإغراق لماء البحر لمن شاء الله تعالى أن يعطلها في حقه ، فهو تعالى مالك الأسباب ومسبباتها ، وتلك الحوادث تدل على وجود حاصية الإحراق في النار والإغراق في الماء ، لكن الله تعالى هو الذي نزعها منهما في الحالتين ، وهذا يدل على وجود تلك الصفات في تلك الأشياء .
    فأهل السنَّة هم أسعد الناس بالأدلة وهم أوفر الناس عقولاً وأقومهم فطرة ، لذا لم ينكروا نصوص الشرع ، ولم يأتوا بما يَضحك منه العقلاء ، ولم يقولوا بما يخالف الفطرة ، بل وقفوا مع الأسباب الموقف الشرعي الموافق لكل ذلك ، ولذا فمن أراد أن يزيد في الإحراق أجَّج ناره وزاد من لهيبها ، ومن أراد دقة القطع رقَّق حد السكين ، ومن أراد قوة القطع صلَّب الحديد في السيف ، وكل ذلك أخذاً بما جعله الله تعالى من خاصيات في تلك الأشياء التي خلقها على كيفية معينة ، ومن يقول بأن الزجاج الرقيق انكسر مع رمي الحجر العظيم لا بسببه : فقد خالف الشرع وناقض العقل والفطرة .

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    حكم الالتفات إلى الأسباب
    - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
    " ومما ينبغي أن يعلم : ما قاله طائفة من العلماء. قالوا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد . ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع . وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع "
    انتهى من " مجموع الفتاوى " (8 / 169) .
    ومعنى أن "الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد " : أن الاعتماد على الأسباب ، والاعتقاد بأنها مؤثرة بدون تقدير الله تعالى ومشيئته : يقدح في التوحيد ؛ لأنه ليس هناك شيء يستقل بالتأثير بدون مشيئة الله تعالى ، قال الله تعالى في السحرة : (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) البقرة/102 .
    ومعنى أن "الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع" : أن من ترك الأخذ بالأسباب بالكلية ، وظن أن هذا هو كمال التوكل والاعتماد على الله : فهذا قدح في التشريع ، لأن الله تعالى شرع لنا الأخذ بالأسباب ، وأمرنا بذلك في مواضع كثيرة ، بل دخول الجنة لن يكون إلا بأسبابه ، وهي الإيمان والعمل الصالح ، فمن ترك الأخذ بالأسباب : فلازم ذلك أنه لن يلتزم الشريعة وأحكامها .
    والمؤمن يحقق التوحيد ، فيعلم أن الأمر كله لله ، ويمتثل الشرع ، فيأخذ بالأسباب حيث أمر الشرع بذلك .

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
    " وأهل السنة لا ينكرون وجود ما خلقه الله من الأسباب ولا يجعلونها مستقله بالآثار ، بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقف على سبب آخر ، وله موانع تمنع حكمه ، كما أن الشمس سبب في الشعاع ، وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به ، وله مانع كالسحاب والسقف .
    والله خالق الأسباب كلها ، ودافع الموانع " انتهى من " درء تعارض العقل والنقل" (9 / 29) .

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    رد بعض طلبة العلم على الامام الشاطبى فيما وافق فيه الاشاعرة فى الاسباب والمسببات --- -
    اولا مسألة------------ اعتقاد تأثير الأسباب"

    ذهب الشاطبي إلى أن اعتقاد تأثير السبب في المسبب شرك ، وهذا امتداد للمسألة السابقة، فإن الجبرية يعتقدون أنه لا فاعل إلا الله ، لذلك فمن نسب التأثير إلى غيره فقد أشرك ،وإليك نصوصه في ذلك :
    1-قال في (الموافقات) 1/321:(أن يدخل فيها - يعني في الأسباب- على أنه فاعل للمسبب أو مولد له ، فهذا شرك مضاهٍ له والعياذ بالله ، والسبب غير فاعل بنفسه ، والله خالق كل شئ ، (والله خلقكم وما تعملون) ، وفي الحديث (اصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) الحديث، فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب فاعلاً بنفسه ، وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام).
    2- وقال في (الموافقات) 1/323:(فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله ، فالله هو المسبب لا هي إذ ليس له شريك في ملكه ، وهذا كله مبين في علم الكلام ، وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه ، واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه وهو صحيح)(1).
    3-وقال في (الموافقات) 1/328:(اعتقاد المعتقد لكون السبب هو الفاعل معصية).

    ورد:كلام الامام الشاطبى من وجهين:
    الوجه الأول:أن هذا القول هو قول الأشاعرة -كما سبق- ، وهو خلاف ما عليه أهل السنة، فإنهم يثبتون تأثير الأسباب في المسببات ، والله هو خالق السبب والمسبب ، وليس في جعل السبب مؤثراً في المسبب شرك لأن الله سبحانه هو الذي جعله كذلك .
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:( والتأثير اسم مشترك ، قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع ، فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشا لله لم يقله سني ، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال.
    وإن أريد بالتأثير نوع معاونة إما في صفة من صفات الفعل ، أو في وجهٍ من وجوهه كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات ، فهو أيضاً باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل ، وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق.

    وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة ، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة ، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب ، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات ، وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركاً ، وقد قال الحكيم الخبير (فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) (أنبتنا به حدائق ذات بهجة) وقال تعالى ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) فبين أنه المعذب ، وأن أيدينا أسباب وآلات و أوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم)

    وقال أيضاً):( والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار ، وإلى أسبابها باعتبار ، فهي من الله مخلوقة له في غيره ، كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه ، وهي من العبد صفة قائمة به ، كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جماداً ، فكيف إذا كان حيواناً؟ وحينئذٍ فلا شركة بين الرب وبين العبد لاختلاف جهة الإضافة ، كما أنا إذا قلنا : هذا الولد من هذه المرأة بمعنى أنها ولدته ، ومن الله بمعنى أنه خلقه ، لم يكن بينهما تناقض .وإذا قلنا : هذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من هذا الأرض بمعنى أنه حدث فيها ، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها ، لم يكن بينهما تناقض ).

    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:( ويا لله العجب !! إذا كان الله خالق السبب والمسبب ، وهو الذي جعل هذا سبباً لهذا ، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته ، منقادة لحكمته ، إن شاء أن يبطل سببية الشئ أبطلها ، كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم ، وإغراق الماء على كليمه وقومه ، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها ، وإن شاء خلى بينها وبين اقتضائه لآثارها ، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا ، فأي قدحٍ يوجب ذلك في التوحيد؟ وأي شركٍ يترتب على ذلك بوجهٍ من الوجوه؟.
    ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق ، والماء لا يغرق ، والخبز لا يشبع ، والسيف لا يقطع ، ولا تأثير لشئ من البتة ، ولا هو سبب لهذا الأثر ، وليس فيه قوة ، وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا ، قالت : هذا التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير ، ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد ، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاءوا به كما تراه عياناً في كتبهم ، ينفرون الناس عن الإيمان)اهـ.

    الوجه الثاني: أن قول الشاطبي (وفي الحديث (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر)الحديث، فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب فاعلاً بنفسه) خطأ ، ففي الحديث (وأما من قال مُطِرْنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب) ولم يقولوا (أمطرنا نوء كذا وكذا) والفرق بين الأمرين ظاهر ، فقولهم (مُطِرنا) مبني للمفعول ، ولو بنيته للفاعل لكان التقدير (أمطرنا الله) فهم نسبوا الفعل إلى الله سبحانه ولكنهم جعلوا النوء سبباً في ذلك بدليل (باء السببية) الداخلة على (نوء كذا) ، والله سبحانه لم يجعل النوء سبباً قدرياً للمطر ، والقاعدة المعلومة من النصوص أن جعل ما ليس بسببٍ سبباً شركٌ أصغر ، كالطيرة مثلاً فقد جاء النص على أنها شرك لأن المتطير جعل ما لم يجعله الله سبباً للتطير ، وكالتمائم فإن صاحبها جعلها سبباً في الحفظ وليست كذلك، وكالتولة فإن صاحبها جعلها سبباً للمحبة وليست كذلك ، بخلاف الأسباب القدرية أو الشرعية التي جعلها الله سبحانه أسباباً فإن نسبة مسبباتها إليها لا شئ فيها -كما سبق- ، فهؤلاء لو قالوا (مُطِرنا بفضل الله وجعل الله السحاب سببا ) لكان الكلام صحيحاً ، فإن السحاب سبب للمطر جعله الله بفضله كذلك، وذكره في كتابه ، فالفرق بين المسألتين أن أولئك جعلوا ما ليس بسببٍ سبباً وهو النوء ، وهؤلاء ذكروا سبباً قدرياً صحيحاً بفضله تعالى

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    "تأثير السبب في المسبب"
    ذهب الشاطبي إلى ما ذهب إليه الأشاعرة في الأسباب ،
    ذهب إلى أن السبب هو ما يحصل المسبب عنده لا به ، وأن الله قد أجرى العادة في الخلق أن يحدث المسبب عند السبب- بلا تأثير منه-
    1-قال في (الاعتصام) 1/497:(فالنظر إلى وضع الأسباب والمسببات أحكام وضعها الباري تعالى في النفوس يظهر عندها ما شاء الله من التأثيرات).
    2-وقال في (الموافقات) 1/314:(السبب غير فاعل بنفسه ، بل إنما وقع المسبب عنده لا به، فإذا تسبب المكلف فالله خالق السبب والعبد مكتسب له - ثم ذكر أدلة وقال1/315- والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع ، وإذا كان كذلك ، فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد على ترك الالتفات إليه ، فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون ، هذا وإن كانت مجاري العادات تقتضي أن يكون ).
    3- وقال في (الموافقات) 1/316:( وإنما قصده - أي الشارع- وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق ، وهو أن يكون خلق المسببات على إثر إيقاع المكلف للأسباب ليسعد من سعد ويشقى من شقي).
    4-وقال في (الموافقات) 1/317-في مسألة وقوع المسببات-(التفات إلى العادة الجارية) وذكر نحو هذا الكلام من كون وقوع المسببات على أثر الأسباب قد أجرى الله العادة به في مواضع منها (الموافقات) 1/326،328،354،359.
    5- وقال في (الموافقات) 1/322:(أن يدخل - يعني المكلف- في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة).
    6-وقال في (الموافقات) 1/335-336:(إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب ، قصد ذلك المسبب أو لا ، لأنه لما جعل مسبباً له في مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرة ، ويشهد لهذا قاعدة مجاري العادات ، إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعام ، والإرواء إلى الماء، والإحراق إلى النار ، والإسهال إلى السقمونيا ، وسائر المسببات إلى أسبابها ، فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا ).

    وهذا الكلام هو كلام الأشاعرة -الذين اقتفوا آثار الجهمية في إنكار الأسباب- ، فإنهم أنكروا أن يكون للأسباب أي تأثير على المسببات ، وقالوا : إنه ليس في النار قوة الإحراق ، ولا في الماء قوة الإغراق ، ولا في السكين قوة القطع ، قالوا : ولكن الله يخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب لا بها ، فعند وجود النار يخلق الله الإحراق بلا تأثير من النار، وعند وجود السكين يخلق الله القطع بلا تأثير من السكين ، وهكذا ، ويقولون : إن الله قد أجرى العادة بخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب -وكل هذا طرداً لعقيدتهم في الجبر وأنه لا فاعل إلا الله-.
    ومن المعلوم أن هذا باطل في الشرع والعقل ، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل في الأسباب قوة تؤثر في مسبباتها ، وهو خالق السبب والمسبب ، والمسبب إنما حدث بالسبب لا عند السبب -كما يقوله الجبرية- ،
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(جمهور أهل السنة المثبتة للقدرمن جميع الطوائف يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة ، وأن له قدرة حقيقية ، واستطاعة حقيقية ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية ، بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب ، وينبت النبات بالماء ، ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرون أن لها تأثيراً لفظاً ومعنى ، حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى( ونكتب ما قدموا وآثارهم) وإن كان التأثير هناك أعم منه في الآية ، لكن يقولون : هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها ، والله تعالى خالق السبب والمسبب ، ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ، ولا بد له من معارض يمانعه ، فلا يتم أثره - مع خلق الله له - إلا بأن يخلق الله السبب ويزيل الموانع .
    ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى وطبائع ، ويقولون: إن الله فعل عندها لا بها ، ويقولون : إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل

    وقال رحمه الله تعالى:( ومذهب الفقهاء أن السبب له تأثير في مسببه ، ليس علامة محضة ، وإنما يقول إنه علامة محضة طائفة من أهل الكلام الذين بنوا على قول جهم - إلى أن قال-ومملوء - يعني القرآن- بأنه يخلق الأشياء بالأسباب ، لا كما يقوله أتباع جهم : أنه يفعل عندها لا بها ، كقوله تعالى ( أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) ، وقوله(وأنزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد - والنخل باسقات لها طلع نضيد - رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً ) وقوله(وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) وقوله(يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) وقوله(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ونحو ذلك)اهـ.

    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى=:(وعندهم - يعني الجبرية- أن الله لم يخلق شيئاً بسبب، ولا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثر ، فليس في النار قوة الإحراق ، ولا في السم قوة الإهلاك ، ولا في الماء والخبز قوة الري والتغذي به ، ولا في العين قوة الإبصار ، ولا في الأذن والأنف قوة السمع والشم ، بل الله سبحانه يحدث هذه الآثار عند ملاقاة هذه الأجسام ، لا بها ، فليس الشبع بالأكل ، ولا الري بالشرب ، ولا العلم بالاستدلال ، ولا الانكسار بالكسر ، ولا الإزهاق بالذبح - إلى أن قال- بل عندهم صدور الكائنات والأوامر والنواهي عن محض المشيئة الواحدة التي رجحت مثلاً على مثل بغير مرجح ، فعنها يصدر كل حادث ، ويصدر مع الحادث حادث آخر مقترناً به اقتراناً عادياً لا أن أحدهما سبب الآخر ولا مرتبط به -إلى أن قال- وطرد هذا المذهب مفسد للدنيا والدين ، بل ولسائر أديان الرسل ، ولهذا لما طرده قوم أسقطوا الأسباب الدنيوية وعطلوها وجعلوا وجودها كعدمها، ولم يمكنهم ذلك فإنهم لا بد أن يأكلوا ويشربوا ويباشروا من الأسباب ما يدفع عنهم الحر والبرد والألم ، فإن قيل لهم:هلا أسقطتم ذلك؟قالوا:لأجل الاقتران العادي ، فإن قيل لهم هلا قمتم بما أسقطتموه لأجل الاقتران العادي أيضاً ، فهذا المذهب قد فطر الله سبحانه الحيوان ناطقه وأعجمه على خلافه ، وقوم طردوه فتركوا له الأسباب الأخروية)اهـ.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    مسألة التولد"

    والمقصود بالتولد : وجود مسبب تولد من سبب مباشر من العبد ، كتولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب ، وزهوق النفس عن القتل ، ونحوها ، فذهب الشاطبي في هذه المسألة -كعادته-إلى مذهب الأشاعرة ، وهو أن هذه الأمور من فعل الله سبحانه لا كسب فيها للمكلف ولا قدرة له عليها ، وإليك نصوصه في ذلك :

    1-قال في (الموافقات) 1/302:(ثبت في الكلام أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب ، وإنما المسببات من فعل الله وحكمه لا كسب فيه للمكلف)
    2-وقال في (الموافقات) 1/306:(فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات ، فإذاً لا يتعلق التكليف إلا بمكتسب ، فخرجت المسببات عن خطاب التكليف ، لأنها ليست من مقدورهم ، ولو تعلق بها لكان تكليفاً بما لا يطاق).
    3- وقال في (الموافقات) 1/308:( إن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبِّب ، وإنها ليست من مقدور المكلف).
    4-وقال في (الموافقات) 1/312:(إن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم ).
    5-وقال في (الموافقات) 1/337:(المسببات التي حصل بها النفع والضر ليست من فعل المتسبب).
    6-وقال في (الموافقات) 1/355:(قد تبين أن المسبب ليس للمكلف ، ولم يكلف به ، بل هو لله وحده).
    7-وقال في (الموافقات) 1/356:(- فسر حديث (وإن أصابك شئ فلا تقل :لو أني فعلت كان كذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) - قال:فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان ، لأنه التفات إلى المسبب في السبب ، كأنه متولد عنه أو لازم عقلاً ، بل ذلك قدر الله وما شاء فعل ، إذ لا يعينه وجود السبب ، ولا يعجزه فقدانه)(1).
    8-وقال في (الموافقات) 3/36:(المسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى ، فالله هو خالق الولد من الماء ، والسكر عن الشرب ، كالشبع مع الأكل ، والري مع الماء، والإحراق مع النار).
    9-وقال في (الموافقات) 3/440:(كلفنا في الأسباب بالأمر والنهي ، وأما أنفس المسببات من حيث هي مسببات فمخلوقة لله تعالى).

    قلت:والكلام على هذا من وجوه:
    الوجه الأول : أن هذه المسألة وتسمى (مسألة التولد) ويُمثل لها باندفاع الحجر عند اعتماد العبد عليه ، فهل اندفاعه هذا مقدور للعبد ومن فعله أو من فعل الله سبحانه ولا قدرة للمكلف عليه؟ ذهب الأشاعرة تبعاً لمذهبهم في الجبر أنه فعلٌ لله سبحانه ولا قدرة للعبد عليه مطلقاً ، وطردوا هذا في كل المسببات المتولدة عن الأسباب كالشبع من الأكل ، والري من الشرب ، والزهوق من القتل، وهكذا (1)، أما المعتزلة فقد ذهبوا -طرداً لقاعدتهم في القدر- إلى أن هذه المتولدات من فعل العبد فقط(2).
    والحق في هذه المسألة هو ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
    :
    (والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد ، وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله ، فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه ، وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة على حصول الشبع ، وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد ، وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع ، وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين اللذين أحدهما فعل العبد، وهو خالق السببين جميعاً ، ولهذا كان العبد مثاباً على المتولدات ، والله تعالى يكتب له بها عملاً، وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة (4) في آيتين في القرآن ، قال تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح) فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولداً ، فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات ، وكذلك غيظ الكفار ، وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك ، ثم قال الله تعالى (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم) فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه (إلا كتب لهم) ولم يقل : به عمل صالح ، وأما الجوع والعطش والنصب و غيظ الكفار وما ينال منهم فهو من المتولدات فقال فيه (إلا كتب لهم به عمل صالح) فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك وإلا فلا يكتب للإنسان عمل بدون سبب من عمله، بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله-إلى أن قال-ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة ، وينهى عنها أخرى كما قال تعالى ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(1) وقال(إن تنصروا الله ينصركم ) وقال تعالى(وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)(2) وقال تعالى(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم و ينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين ، وهذا مبسوط في موضعٍ آخر
    الوجه الثاني:أن قوله -في تفسير الحديث-(فقد نبهك على أن (لو) تفتح عمل الشيطان لأنه التفات إلى المسبب في السبب كأنه متولد عنه أو لازم له عقلاً ) فإنه تفسير على ما يوافق مذهبه في القدر وفي الأسباب والمسببات ، وليس هذا تفسير الحديث ، بل كانت (لو) تفتح عمل الشيطان لأنها دليل على الجزع والتسخط والتأسف على ما فات ، وعدم الرضا بالقدر ، وهذا هو المذموم هنا ، فعلى العبد عند المصائب أن ينظر إلى القدر وأن لا يتحسر على الماضي.
    ولو كان الأمر كما قال الشاطبي لما جاز استعمال (لو) مطلقاً لأنها بالمعنى الذي ذكره ، وقد جاء في الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولأهللت بالعمرة) فسوق الهدي هنا هو السبب في عدم إحلاله من عمرته ، وفي الحديث الآخر الصحيح -في الرجل المتمني الخير- (لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان) فالسبب في عدم عمله عدم ملكه مثل ماله ، وفي الحديث الآخر (لو صبر أخي موسى ليقص الله علينا من نبئهما) فالسبب في عدم القص عدم صبر موسى ، فعلى تفسير الشاطبي لا يجوز استعمال (لو) في مثل هذا لأنها التفات إلى المسبب في السبب ، وهذا لا يصح لما سبق بيانه من القول الصحيح في مسألة الأسباب ، وللأحاديث التي ثبت فيها استعمال (لو) في حالة تمني الخير ، وإنما المذموم استعمالها في التسخط حال المصيبة، والله تعالى أعلم.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    ترك الأسباب نظراً إلى القدر"
    1-قال في (الموافقات) 1/329-بعد كلام-:(إن غلّب الثاني -الأسباب بيد خالق المسببات- فصاحبه مع السبب أو بدونه على حالة واحدة ، فإنه إذا جاع مثلاً فأصابته مخمصه فسواء عليه أتسبب أم لا ، إذ هو على بينة أن السبب كالمسبب بيد الله تعالى ، فلا يجب عليه التسبب في رفع ذلك ، لأن علمه بأن السبب في يد المسبب أغناه عن تطلب المسبب من جهته على التعيين، بل السبب وعدمه في ذلك سواء ).
    2-وقال في (الموافقات) 1/331:( من تحقق بأن الخروج عن السبب كالدخول فيه بالنسبة إلى ضمان الله تعالى الرزق صح أن يقال إنه لا يجب عليه التسبب فيه ، ولذلك نجد أصحاب الأحوال يركبون الأهوال ويقتحمون الأخطار ويلقون بأيديهم إلى ما هو عند غيرهم تهلكة فلا يكون كذلك بناءً على أن ما هم فيه من مواطن الضرر وأسباب التهلكة يستوي مع ما هو عندنا من مواطن الأمن وأسباب النجاة).

    قلت:
    وهذا الكلام فيه نَفَسٌ صوفي ، فإن مضمون كلامه إسقاط الأسباب نظراً إلى القدر ، وهذا ما يسمى عند الصوفية (توحيد الخاصة)، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :( ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ادعاء التوكل وقطع الأسباب وترك الاحتراز في الأموال)-ثم ذكر كلام الصوفية في هذا ونقضه-.
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى-في ترك الأسباب نظراً إلى القدر-:( ولا ريب أن هذا الأصل الفاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين ، ومخالف لصريح المعقول ، ومخالف للحس والمشاهدة، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إسقاط الأسباب نظراً إلى القدر فرد ذلك كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( ما منكم من أحدٍ إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار) قالوا: (يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ) فقال:(لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وفي الصحيح أيضاً أنه قيل له (يا رسول الله ، أرأيت ما يكدح الناس فيه اليوم ويعملون،أشئ قضي عليهم ومضى، أم فيما يستقبلون مما أتاهم فيه الحجة؟ ) فقال:(بل شئ قضي عليهم ومضى فيهم ) قالوا:(يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على كتابنا ) فقال:(لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له (أرأيت أدوية نتداوى بها ، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً؟) قال:(هي من قدر الله )- ثم أخذ يذكر الأدلة في ذلك إلى أن قال- وهو مسبب الأسباب وخالق كل شئ بسبب منه لكن الأسباب قال فيها أبو حامد وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما : (الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً تغيير في وجه العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع)اهـ.
    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:( القول بإسقاط الأسباب هو توحيد القدرية الجبرية أتباع الجهم بن صفوان في الجبر فإنه كان غالياً فيه -إلى أن قال- وطرد هذا المذهب مفسد للدنيا والدين، بل ولسائر أديان الرسل ، ولهذا لما طرده قوم أسقطوا الأسباب الدنيوية وعطلوها وجعلوا وجودها كعدمها ، ولم يمكنهم ذلك ، فإنهم لابد أن يأكلوا ويشربوا ويباشروا من الأسباب ما يدفع عنهم الحر والبرد والألم ، فإن قيل : هلا أسقطتم ذلك ؟ قالوا : لأجل الاقتران العادي ، فإن قيل لهم : هلا قمتم بما أسقطتموه من الأسباب لأجل الاقتران العادي أيضاً، فهذا المذهب قد فطر الله سبحانه الحيوان - ناطقه وأعجمه- على خلافه -إلى أن قال- وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره يبطل هذا المذهب ويرده ، كما تبطله العقول والفطر والحواس)اهـ.].
    انتهى من " الإعلام بمخالفات (الموافقات) و (الاعتصام)".

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي رد: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف مشاهدة المشاركة
    وقال أيضاً):( والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار ، وإلى أسبابها باعتبار ، فهي من الله مخلوقة له في غيره ، كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه ، وهي من العبد صفة قائمة به ، كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جماداً ، فكيف إذا كان حيواناً؟ وحينئذٍ فلا شركة بين الرب وبين العبد لاختلاف جهة الإضافة ، كما أنا إذا قلنا : هذا الولد من هذه المرأة بمعنى أنها ولدته ، ومن الله بمعنى أنه خلقه ، لم يكن بينهما تناقض .وإذا قلنا : هذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من هذا الأرض بمعنى أنه حدث فيها ، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها ، لم يكن بينهما تناقض ).

    يارك الله فيكم
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي رد: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف مشاهدة المشاركة

    وللأحاديث التي ثبت فيها استعمال (لو) في حالة تمني الخير ، وإنما المذموم استعمالها في التسخط حال المصيبة، والله تعالى أعلم.
    جزاكم الله خيرا


    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: تأثير الاسباب والمسببات بين القدرية والجبرية

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم علي طويلبة علم مشاهدة المشاركة
    وللأحاديث التي ثبت فيها استعمال (لو) في حالة تمني الخير ، وإنما المذموم استعمالها في التسخط حال المصيبة، والله تعالى أعلم. جزاكم الله خيرا---
    بارك الله فيك وجزاك خيرا - قال الشيخ صالح ال الشيخ فى كفاية المستزيد -
    قلب الموحد؛ قلب المؤمن لا يكون محققا مكمِّلا للتوحيد حتى يعلم أنّ كل شيء بقضاء الله جل وعلا وبقدره ، وأنّ ما فعله سبب من الأسباب ، والله جل وعلا مضى قدره في خلقه، وأنه مهما فعل فإنه لن يحجز قدر الله جل وعلا، فإذا كان كذلك - كان القلب معظِّما لله جل وعلا في تصرفه في ملكوته، وكان القلب لا يخالطه تمني أن يكون شيء فات على غير ما كان، وأنه لو فعل أشياء لتغير ذلك السابق؛ بل الواجب أن يعلم أن قضاء الله نافذ وأن قدره ماضٍ وأن ما سبق من الفعل قد قدره الله جل وعلا وقدر نتائجه، فالعبد لا يمكنه أن يرجع إلى الماضي فيغير، وإذا استعمل لفظ (لو) أو لفظ (ليت) وما أشبهها من الألفاظ التي تدل علة الندم وعلى التحسر على ما فات - فإن ذلك يُضعف القلب ويجعل القلب متعلقا بالأسباب منصرفا من الإيقان بتصريف الله جل وعلا في ملكوته، وكمال التوحيد إنما يكون بعدم الالتفات إلى الماضي، فإن الماضي الذي حصل:
    إما أن يكون مصيبة أصيب بها العبد فلا يجوز له أن يقول: لو كان فعلت كذا لما حصل كذا؛ بل الواجب عليه أن يصبر على المصيبة وأن يرضى بفعل الله جل وعلا ويستحب له الرضى بالمصيبة.
    وإذا كان ما أصابه في الماضي معصية فإن عليه أن يسارع في التوبة والإنابة، وأن لا يقول لو كان كذا لم يكن كذا؛ بل يجب عليه أن يسارع في التوبة والإنابة حتى يمحو أثر المعصية.
    فإن ما مضى من المقدر للعبد ما حالان:
    إما أن يكون مصائب، إما أن يكون ذلك الذي مضى مصائب فحالها كما ذكرنا.
    وإما أن يكون مصائب ومعاصي، فالواجب عليه أن ينيب وأن يستغفر وأن يقبل على الله جل جلاله، قد قال سبحانه ?وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى[طه:82]
    الشيطان يدخل على القلب فيجعله يسيء الظن بربه جل وعلا وبقضائه وقدره، وإذا دخلت إساءة الظن بالله ضعُف التوحيد ولم يحقق العبد ما يجب عليه من الإيمان بالقدر والإيمان بأفعال الله جل جلاله، ولهذا عقد المصنف الباب؛ لأن كثيرين يعترضون على القدر من جهة أفعالهم؛ يظنون أنهم لو فعلوا أشياء لتغير الحال، والله جل وعلا قد قدّر الفعل وقدّر نتيجة فالكل موافق لحكمته سبحانه.

    قال (وقوله الله تعالى: ?يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا?[آل عمران:154]، وقوله: ?الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا?[آل عمران:168]) ذكرنا أن قول (لو) في الماضي أن هذا لا يجوز وأن هذا محرم ودليل ذلك من الآيتين، ومناسبة الآيتين للباب ظاهرة - وهو أن التحسر على الماضي بالإتيان بلفظ لو إنما كان من خصال المنافقين قال جل وعلا عن المنافقين (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا) وقال (الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) وهذا في قصة غزوة أحد كما هو معروف، فهذا من كلام المنافقين.
    فيكون -إذن- استعمال (لو) من خصال النفاق وهذا يدل على حرمتها.
    قال (في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "احْرِصْ عَلَىَ مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزَنْ. وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كذا لكَاَن كذا وكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرُ اللّهُ. وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَانِ")
    وجه مناسبة هذا الحديث قوله(وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنّي فَعَلْتُ لكَاَن كذا وكَذَا) (لو) هنا كانت على الماضي (أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ) وهذا النهي للتحريم (لَوْ أَنّي فَعَلْتُ لكَاَن كذا) هذا لأنه سوء ظن ولأنه فتح عمل الشيطان، فالشيطان يأتي المصاب فيغريه بـ(لو) حتى إذا استعملنا ضعف قلبه وعجز وظن أنه سيغير من قدر الله شيئا، وهو لا يستطيع أن يغير من قدر الله شيئا؛ بل قدر الله ماض ولهذا أرشده عليه الصلاة والسلام أن يقول: (قَدَّرُ اللّهُ. وَمَا شَاءَ فَعَلَ)؛لأن ذلك راجع إلى قدره وإلى مشيئته.

    هذا كله من النهي والتحريم راجع إلى ما كان من استعمال (لو) أو (ليت) وما شابههما من الألفاظ في التحسر على الماضي وتمني أن لو فعل كذا حتى لا يحصل له ما سبق، كل ذلك فيما يتصل بالماضي.
    أما المستقبل أن يقول: لو فعلت كذا وكذا، في المستقبل، فإنه لا يدخل في النهي؛ وذلك باستعمال النبي عليه الصلاة والسلام لذلك حيث قال مثلا "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" ونحو ذلك من الأدلة، فاستعمال (لو) في المستقبل الأصل فيه الجواز إلا إن اقترن بقول القائل (لو) يريد المستقبل: اعتقاد أن فعله سيكون حاكما على القدر؛ كاعتقاد بعض الجاهليين: لو حصل لي كذا لفعلت كذا. تكبرا وأنفة واستعظاما لفعلهم وقدرتهم، فإن هذا يكون من المنهي؛ لأن فيه تجبرا، وفيه تعاظما، والواجب على العبد أن يكون ذليلا؛ لأن القضاء والقدر ماضٍ، وقد يحصل له الفعل، ولكن ينقلب على عقبيه، كحال الذي قال الله جل وعلا فيه ?وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكَوُنَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا ءَاتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ(76)ف َأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ بِمَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ?[التوبة:75-77] فإنهم قالوا: لو كان لنا كذا وكذا وكذا لفعلنا كذا وكذا، فلما أعطاهم الله جل وعلا المال (بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ)، فهذا فيه نوع تحكم على القدر وتعاظم، فاستعمال (لو) في المستقبل إذا كانت في الخير، مع رجاء ما عند الله بالإعانة على أسباب الخير،فهذا جائز.
    أما إذا كان على وجه التجبر والاستعظام فإنه لا يجوز؛ لأن فيه نوع تحكُّم على القدر .......[كفاية المستزيد]

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •