إكسير الحياة
نهى الطرانيسي


رأيت الخطوط تأتي وتذهب، لا أمل ولا مجيب، فقط أسير بخطوات ثقيلة لا أقدر على تخطِّيها، فإذا بها تمضي ولا ترجع، ماذا أفعل سوى المضيِّ، وانتظار انتظام الخطوط، وعودة الأمل المفقود؛ ليأتي من بعيد بنظرة باهتة شاحبة، فاقدة الإحساس والدفء، ما أشبعتني ولا أدفأت برودة ألمي؟! لا أعلم كيف استمرَّ أو كيف سيستمرُّ هذا الحال؟! أسير بمفردي، لا أعلم أين أغدو بوَحدتي؛ لعلِّي أجد أملي ودفئي، فألتقطَ الحب والعطف من نظرات الناس، مسكن يؤويني حتى أجد إكسير الحياة، فلكل منَّا إكسيره الخاصُّ في هذه الحياة!

أخذتني قدماي إلى شاطئ البحر، جلست فوق رماله المبلَّلة، كانت مُرحِّبة للغاية بالزائرين والقادمين، تلتصق بهم وكأنها تخبرهم: لن أتركك، ولن تغادرنا وأنت حزين هكذا!

نظرت إليك يا بحر؛ لعلِّي أجد الجواب منك مع ضربات أمواجك المتتالية الغاضبة، وكأنك تكتم سرًّا مؤلِمًا لم تَعُد تَقدِر على تحمُّله، فأرسلتَ أَكُفَّكَ تصكُّ السدود بأصواتها الهائجة، لعلها تُشعر الناس بما في داخلك.

عجِبت من الناس الذين يأتون إلى البحر ليستريحوا ويفيضوا بأحزانهم، لكن لِمَ العجب وفي داخلنا أيضًا مَدُّ بحرٍ غاضب نَلِده بهدوءٍ وصمتٍ ميتٍ نُهديه إليك؛ ليُغذيك، وما تغذيت إلا على سموم وأحزان فصِرت أسدًا هَصُورًا؟!

أصبحت أخشاكَ يا بحر، لم أعُد آمنُك على غيري، ولا عليَّ، من أتاك هَرَبًا من المصاعب والآلام، ابتلعتَه ولفظَته جامدًا يابسًا، تعلوه زُرقتك التي ختمتَ بها على جسده!

ما اكتفيت يا بحرُ، كضباع مليئة بالغدر والجبن تأكل الفريسة الجاحظة العينين، يسيل رَمقُها الأخير مِن شفتيها، ويصارع نبضات قلبها المتشبِّث بالحياة، وما رحِمتَها، فتَخور قواها أمام الغدر والخيانة، لستَ ملجئي يا بحر؛ كي أَهمس إليك بما بداخلي.

السماء من الأفق البعيد مع ملتقى البحر تَغمِز لي: أنا مَلْجَؤُك، هدِّئ مِن رَوعك، وأزِحِ الهمَّ عن فؤادك، احْكِ واسْرُد!
رأيت السماء زرقاءَ، والسحاب يطوفها بسرعة كسرعة الطائفين بالبيت العتيق، يا إلهي، ما لهذه الأمور أصبحت مؤلِمة لها ولنا؟!
ما اعتدنا أن تكون الشمس حارقة تُميت الآلاف، وتقضي على الأخضر واليابس، وتميت القطرة في جوف الأرض، وتُشقق وجه المرتجي ندًى يُحيي الدماء في معدته الخاوية.

قفزت من مكاني هرَبًا، خشيت أن تتملَّكني أشباح أفكاري بعد أن أَفشيت سرَّها، فتقومَ بإلقاء أقصى العقوبة عليَّ، فأموتَ بأي وسيلة، ويُوضَعَ على قبري زهرٌ نما من الدموع والدماء المتجمِّدة، فازداد ذاك الزهرُ حُمرةً وألَمًا، تكاد ترى الندى يَقطُر من سيقانه عند قِطافها!


يا ألله، يا إلهي! تعلَّمتُ وفهِمت الدرس، تغيَّرت قوانين الطبيعة، لم يَعُد البحر كما هو، ولا السماء صفحة هادئة نُرسل إليها ابتسامات الأمل والحب، حتى كادت الأرض تَصرخ وتَضِجُّ مِن كثرة مَن أُلِقيَ عليها، وكثرة الناشبين فيها، كله بأيدينا، ما نُبرئ أنفسنا!!



__________________