هو الغريب
نورا عبدالغني عيتاني



بهِ عطشٌ عميقٌ لأُنسٍ لا ترويهِ إلاَّ العزلة.. في أنفهِ روائحُ شتَّى، وعلى صدرهِ غمامةُ صيفٍ عابرة، مرَّت طويلًا قربَ يدهِ؛ لكنَّهُ لم يلقِ التحيَّةَ عليها، لئلاَّ تلامسَ أساه؛ فهوَ وحدَهُ الحريُّ بهذا الأسى.. مع ذلك، فهو لم يحسِن إزاحتَها على أيِّ حال، لكيلا يبعثرَ وحدتَها.. على جبينهِ خطّانِ طويلان، لا يلتقيان إلاّ حين يفترقان... ثلاثُ بسماتٍ تقطرُ من فيه، وحبّةُ حنانٍ ليسَ إلاّ يرميها لثغرِ الزمن، قبلَ أن يرحلَ عنهُ عُنوةً.. لا،.. ليس عنوةً، بل ربّما عن سابقِ إصرارٍ وترصّد، لكنّهُ لا يملكُ تحديدَ الوقتِ اللازمِ لذلك..

هوَ يعرفُ الإقامةَ جيّدًا؛ لأنّهُ خبرَ العبور.. وإنّهُ يكفيهِ لكي يتشبّعَ بالحضورِ الكاملِ أن يغلقَ جفنيهِ ويمشي إلى داخلهِ بكل خفّةٍ وهوادة؛ ليشعرَ إثرها بامتلاءٍ عجيب، ويستيقنَ أخيرًا بأنّهُ قد ارتوى.. يطلقُ صافرةَ الإنذارِ كلّما مرّ جذعٌ جارحٌ قبالةَ عينِه، ويقبضُها حينَ يلوحُ لهُ مرورُ ذلكَ الجذعِ بسلام، دونَ تصادمٍ أو ضحايا.. لكنّهُ لا يعرفُ كيفَ يطفئُ ذلكَ الجرسَ العميقَ الصارخ، الذي يضجُّ في أعماقِهِ بشدّةٍ وبصخبٍ كلّما لاحت لهُ جيوشٌ مِن جحافلِ الأغصانِ المتشابكة التي تحيطُ بهِ بشدّةٍ وبقوّة؛ لتقبضَ أنفاسه، تعتصرَها، وتنتزعَ آخر رمَقٍ من حُبيباتِ السكونِ المزهِر فيها.. ولعلّهُ يدركُ كيف، ولكنّهُ لا يحبُّ اقتلاعَ الأشجارِ من جذورِها...

يشذّبُها بين الحين والحين، يحاولُ تخليصَها من عقَدها العقيمةِ المتداخلة، وقد يجرحُ يدَهُ مرّاتٍ ومرّات، لكنّهُ لا يبالي؛ فهو يحسنُ احتمالَ الألم، إلاّ أنّهُ لا يحسنُ اقتلاعَ الأشجارِ من جذورِها، حتّى ولو كانت تؤذيه..

هوَ يعرفُ النهايات؛ لأنّهُ خبرَ البداياتِ طويلًا.. كلُّ نهايةٍ في عُرفِهِ هي بدايةُ تجدّدٍ لحياةٍ نسيَ أن ينعى ولادتَها؛ لأنّهُ ملَّ صمتَ المآتم... ستارةُ عزلةٍ تزيحُ عنهُ غيابَه، يُسدلُها على رأسهِ كافّةً، على وجههِ وبريقِ عينيه، لئلّا تبغتهُ شمسُ النهارِ القويّةِ الضاربة، المحدّقةِ في عينيهِ بقوّةِ حريقٍ يشبُّ بسرعة، فتحيلهما رمادًا... هوَ لا يعرفُ الانطفاءْ، لأنّهُ لم يشتعِلْ يومًا بكلّيّة.. لم يترك الفرصةَ للحرائقِ أن تمتدَّ لداخلِ عمقهِ وتنشبَ فيه.. وهو يدركُ تمامًا أنّ الماءَ الزلالَ الذي يسيلُ في داخلهِ رغمَ كلّ هذا الألم، لن يكفَّ يومًا عن التدفّقِ والمسير.. وبرغمِ اشتعالِ بعضِ الأغصانِ المتشابكة فيه، هو لا يريدُ اقتلاعَ تلكَ الأشجار أو انتزاعها من جذورها، لأنّه لا يتقنُ فنّ الأذى، ولأنّهُ لا زالَ يؤمنُ بقدرةِ الماءِ الذي يتدفّقُ فيه على إحياءِ كلِّ تلكَ الغصون وبثّها من يباسِها يومًا ما.. ولعلَّ ذاك اليوم قد اقترب...