تيار العصرانيين الجدد بين التجديد والتغريب
محمود طراد
حينما أنزل الله -تعالى- القرآن خاتماً للكتب مع آخر الأنبياء والرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - أنزل في القرآن ما جعله: مهيمناً على الرسالات السابقة، وصالحاً لإصلاح الزمان والمكان إلى قيام الساعة، قال -تعالى-: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: 48)، وقد جمع الله فيه من الكليات والقواعد ما تعجز العقول عن الوصول إليه بغيره، أمر فيه بالعلم والعدل والعمل وحفظ العهود، حكى فيه قصص السابقين وما تحمله من عبرة، وجعل العبرة في ذلك بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. لكن بعض التغريبيين اليوم وهم يتلونون بمجموعة من الألوان تحت مجموعات من المصطلحات، يحاولون الانسلاخ عن القرآن بدعوى العصرانية ومواكبة العصر والتخلي عن التخلف؛ فمن هم؟ وما أبرز ملامحهم؟
ما العصرانية؟
العصرانية حركة فكرية نشأت داخل الأديان الكبرى اليهودية والنصرانية ثم الإسلام، وقد عُرِفت هذه الحركة في الفكر الديني الغربي باسم العصرانية (Modernism)، وهي وجهة نظر في الدين، مبنية على أن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة، يستلزمان إعادة تأويل النصوص الدينية والعبادات التقليدية تأويلا جديدا معاصرا حسب المفاهيم الفلسفية المعاصرة، وهذا ابتداء يناقض صريح القرآن، الذي جاء فيه خطاب الله -تعالى- للنبي وأصحابه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(البق رة: 137)؛ فهذه الحركة لا تسعى لتجديد الدين، لكنها تسعى لتطوع مبادئ الدين لقيم الحضارة الغربية باسم العصرانية.
العصرانيون من قديم الزمن
كانت العصرانية انقضاضاً على التعاليم الدينية عموماً حتى أن البابا (بيوس العاشر) قد أصدر منشورين عنها عام 1907 م وأطلق عليها هذا الاسم (العصرانية)، ووصفها بالكفر والإلحاد، بل قال: إنها حركة جمعت كل عناصر الهرطقة القديمة، وقد تشابهت هذه الحركة مع الدعوات المنتسبة للإسلام التي تدعو إلى تفسير بعض قضايا الإسلام تفسيراً مادياً عقلياً، حتى تتلاءم مع الأفكار الغربية وقيم حضارتها الثقافية الحديثة التي انبهروا بها، وقد تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم - قديماً بقوم سيقومون بتقليد غير المسلمين في الصغير والكبير؛ فقال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعاً بذراع»!
العقل مقدم على النقل عند العصرانيين
يزعم العصرانيون أن البشرية لم تعد في حاجة إلى قيادتها من السماء، وأنها بلغت سن الرشد، ولها الآن أن تباشر شؤونها بنفسها، حتى صرّح أحدهم بذلك قائلاً: «فلقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان النبوة؛ من حيث إعلان إنهائهاً كلية وتخليص البشرية منها»؛ فقد عد صاحب هذه المقولة أن الرسالة انتهت بموت النبي- صلى الله عليه وسلم -، وأن القيادة الآن ليست لما تركه من نصوص، وإنما للعقل البشري، الذي يستطيع بزعمهم الآن معرفة الخير والشر الدنيوي والأخروي دون حاجة إلى هداية الوحي.
البحث عن أحكام فقهية جديدة
يقول أحد العصرانيين: «ولم تعد بعض الأحكام التي كانت تمثل الحق في معيار الدين منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم»! ذلك رغم أن الفقه هو (العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية)، لكن يسعى كتّاب التيار العصراني التغريبي إلى الوصول لمجموعة من الأحكام الفقهية مع إقصائهم لهذه الأدلة والنصوص، بل يرفضون الإجماع ويستهزؤون به، مع أن مصادر الفقه الإسلامي جاءت صريحة في القرآن لا تحتاج إلى تأويل، في مثل قوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} (النساء: 59)، وفي مثل قوله -تعالى-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) ومثل قوله -تعالى- عن الإجماع: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} النساء: 115).
خطأ العصرانية الأكبر
أكبر الأخطاء التي وقع فيها التيار العصراني التغريبي هو عدم معرفة العلاقة بين العقل والنقل، وزعم التعارض بينهما، والحق ما قاله الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في ذلك «ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارض الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح»، ولو تأملنا ما يروجه العصرانيون اليوم من تعارض بين العقل والشرع؛ فلن نجد سوى شبهات فاسدة يعلم العقل بطلانها، والواجب على المؤمنين شرعاً أن يكون التقديم للشرع لا لغيره؛ لأن وظيفة العقل أن يكون مصدقاً للشرع في كل ما أخبر به.
مصائب الاعتراض بالعقل على النقل
يقع معارضو الشرع بالعقل في مجموعة من المزالق، منها:
1- التشبه بإبليس -لعنه الله- حين اعترض على الأمر بالسجود لأبينا آدم وقال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف: 12)؛ فلما عارض إبليس الأمر بعقله، كانت نتيجة ذلك الإبعاد عن الجنة؛ فقال الله له: {اخرج منها فإنك رجيم}.
2- التشبه بغير المسلمين في اعتراضهم على الشرع؛ فهم الذين قالوا حين جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف: 31)، وكما قال الإمام ابن تيمية: «والداعون إلى تمجيد العقل إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل».
3- تقدم الهوى على الوحي: يقول الإمام اين القيم: «وكل من له مسكة عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه، إنما ينشأ من تقديم الرأي على الوحي والهوى على العقل».
العصرانيون يعادون كتب التراث
بما أن العصراني يبحث عن أحكام فقهية جديدة، وتشريعات جديدة، وتفسيرات جديدة؛ فكان ولابد ألا يكون هناك تصالح بينه وبين الكتب الموروثة وهم يعترفون بذلك، يقول أحدهم: «في ضوء الظروف الجديدة وتوسع المعرفة الإنسانية، لا يمكن الاعتماد في فهم القرآن على التفاسير القديمة»، بل يتهمون كتب التراث بأنها تشتمل على مجموعة من الخرافات، ويرون أنه وبسبب المعرفة الحديثة وتطور العلوم، لا مانع من معارضة أقوال المفسرين الأوائل، وهذا يعني أن مفاهيم القرآن الكريم تتغير بتغير الزمان.
معاداة كتب التراث إقصاء للسنة
لا يغيب عنا جميعاً أن كتب التراث تحوي ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فعله وما أقره، والدعوة إلى إقصاء كتب التراث دعوة إلى إقصاء السنة أو إنكارها، وعدم الاعتراف بحجيتها في الأحكام وللعصرانيين مجموعة من المحاولات مع السنة التي تؤدي في النهاية إلى هذه النتيجة، منها:
1- تقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية.
2- موقفهم من أحاديث الصحيحين.
3- موقفهم من الفقه والفقهاء.
4- تقديم أحكام القرآن وحده وتأخير أحكام السنة، ومع هذا تكون وقفتنا القادمة إن شاء الله.