قصتي مع سعد بن معاذ...!

حمزة بن فايع الفتحي



• من السير الخاطفة للفؤاد، الجاذبة للروح، المُلهبة للعزمات، والموشحة بالبركات..! ولا زلت متعجبا من تلك الزعامة المتفردة، وما يحمل من شجاعة نادرة، وشمم باذخ، وإيمان عجيب، ومتابعة صادقة، وتفان في الدعوة كبير.... رغم عمره الدعوي اليسير، ولكن الإنجازات ضخمة في غاية السمو والزخارة، فرضي الله عنه وأرضاه ....! قال فيه الذهبي( السيد الكبير الشهيد أبو عمرو الأنصاري الأوسي الأشهلي ، البدري الذي اهتز العرش لموته .....).

• من سادات الأنصار، بل سيدهم ومقدّمهم، وشيخهم وإمامهم قال فيه صلى الله عليه وسلم يوم حصاد بني قريظة: ( «قوموا إلى سيدكم » )، فاستوجب السيادة بشهادة المجتبى المختار صلى الله عليه وسلم ، وهنا وقفات من سيرته ...:

• العمر المبارك: والعجيب في سيرته لبثه في الإسلام (ست سنوات) فقط، أسلم وعمره إحدى وثلاثون سنة، ولكنه قدّم فيها العجائب، وأتى بالنفائس والمكاسب..! ترجم له الحافظ رحمه الله، وذكر أن سيرته من أعظم السير بركة وثمارا..!

• مما يدل على ذلك وضخامة عمله في الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وقد أهديت له حلة من حرير فتعجب الصحابة من طيبها ولينها فقال:( «أتعجبون من لينها، والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة ألين منها وأطيب » )..؟! فهذه مناديل فكيف بالمغانم والأفاضيل..؟!

• القيادة المؤثرة: أسلم على يد سفير الإسلام للمدينة، مصعب رضي الله عنه، ومن طريق أسعد بن زُرارة رضي الله، ثم تأمل كيف رسَخ الإيمان في قلبه وتحول إلى داعية يحذر قومه، ويأمرهم بالنجاة والخير والفلاح ( فوالله إن كلامكم وكلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تؤمنوا بالله ورسوله ).

• وكان في اختيار أسعد بن زرارة لمصعب رضي الله عنه، أن يلاقي القادة أبلغ دليل على النباهة الدعوية، فقد قال لمصعب : ( أي مصعب جاءك والله، سيدُ مَن وراءه من قومه، إن يتبَعك لا يتخلف عنك منهم اثنان )...!

• فانظر كيف وظّف زعامته القبلية ومنصبه المعتلي لخدمة الإسلام والدعوة، وهي رسالة لكل ذي منصب ومكانة، أن لا تغريه مكانته، فينسى دعوته ورسالته...!

• القرار السريع: تحضر غزوة بدر، فيطمع رسول الله في معرفة رأي جماهير الأنصار، وقد تعينت المعركة خارج المدينة، وبيعتهم تنص على النصرة داخلها، فيردد( «أشيروا علي أيها الناس» ) فيتكلم المهاجرون مرة ومرات،ولكنه يرجو الآخرين، فيفطن سعد لذلك( لكأنك تريدنا يا رسول الله...) !

• وترنّمْ بعد ذلك، وعطّر وجدانك بكلمات مذهبة محبّرة، مفعمة بكل ينابيع الحزم والبطولة والشمم، كُتبت على سناء الخلود، وتلقفتها معالي الأمجاد ( صِل حبلَ من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذتَ كان أحبَّ إلينا مما تركت....)..

• وإنّ قائداً بطلا يغير بنود معاهدة تاريخية، ويستعد بالمدد والفداء، بدون معارضة من سادات القوم، لهو قيادي من طراز نادر، وفذ من أفذاذ الرجال الدواهي، قاضٍ على صحبه وجماعته....!

• الشروط الإضافية: زاد تكاليف، والتزم التزامات حملها نفسه وقومه، وأشياء لم تذكر سابقا، وزادها التطبيق المباشر، والامتثال الآني : ( فاظعن حيث شئت، وصِل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت،وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت،...إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء...).

• التتابع القيادي: المُشعر بالحب والإخلاص، والامتثال النبوي، والتبعية الشرعية، فلا قيادة تعلو على أمر الله ورسوله، ولا سيادة تتعمد الحياد والمخالفة، فنفاذه في قومه جعله يسارع لتنفيذ أمر المصطفى الكريم عليه الصلاة والسلام، وما ذاك إلا بسبب الإيمان الباسل، واليقين الراسخ بصدق الرسالة، وانتصار الصابرين ، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب....!

• التحدي اليقيني: وفِي الخندق يتجلى إباؤه الضيم وشممه الإسلامي المتين ، ويقينه العالي،الذي لا تكدره الأموال، أو تغره النفائس...! حينما يعرض صلى الله عليه وسلم حلا ماديا يصالح فيه (غطفان) على ثلث ثمار المدينة، ليضعضع الجيش المكي وأحزابه،فيستشير السعدين، فيقول سعد: ( يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يَطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرىً أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك وبه ، نعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنت وذاك . فتناول سعد بن معاذ الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا ...!

• وهنا وبرغم الحصار الأحزابي وشدة البرد والجوع، يرى الاستبسال في التصدي، وعدم التراخي ، وما ذاك إلا لقوة إيمانه وعلاء صبره، وإدراكه أن الأحزاب منهزمون، والنصر آت، والعاقبة للمتقين الصابرين ( { وليُنصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} ) [سورة الحج] .

لا هوادة مع الخونة: نقَضة العهود، وبائعي المبادئ والأخلاق، وحق المعرفة والجوار، وقد استبان ذلك في موقفه من بني قريظة، فقد قال في دعاء مشهور :

• ( اللهم إن كنت أبقيتَ من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ، اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة ).

• القضاء العدل: استدعي سعد للقضاء في بني قريظة كما دعا الله بذلك، فقال: ( تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ ، وَتَسْبِي ذُرِّيَّتَهُمْ، فَقَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ، وفِي رواية( بحكم الملك )» .

• وهنا ذابت عنده علائق الجاهلية وما كان بينه وبين أحلافه ومواليه، وصدق الله في يوم عزيز، وساعة محاكمة رهيبة، لم يجامل أو يداهن ويدار، بل سطَع بالحق، وصدع بالبرهان، وقضى بالقسطاس المستقيم، فلله دره من قائد فذ، وزعيم واعٍ مفوه...!

• إن هذه السيرة بكل معانيها ودروسها لخير لنا تعلمها، وتعليمها الأبناء والصغار، حتى يروا أن آباءهم كانوا منارات يُهتدى بها، ومعالم يستضاء برفعتها، وأن صحبتهم للمصطفى الكريم لم تكن مجرد شرف اسمي، بل كانت جدا وعملا، وتطبيقا خالصا، نالوا عليه رضا الرحمن، وحسن العاقبة في جنات النعيم( {فمنهم من قضى محبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} ) [سورة الأحزاب] .


فاللهم انفعنا بسيرهم، واجعلنا على آثارهم مقتدين،، والله الموفق..