لطائف في الآيات


الشيخ قدري عبدالوهاب


ما أجملَ أن نعيشَ مع كتاب الله العظيم، وما ألذَّ أن ندرس كلماته التي جاءت باللسان العربي المبين؛ فقد بثَّ ربُنا -جل جلاله- في كلماته روحًا من أمره، وجعله نورًا يهدي به من يشاء: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (سورة الشورى:52)، وإن من كلماته: «متشابهات القرآن اللغوية»، التي منها: «ألفاظ متقاربة في المعنى العام، مفترقة في المعنى الخاص»؛ مما يجعل لها الأثر البالغ في تفسير القرآن، وفهمِ معانيه فهمًا دقيقًا سليمًا، وفقهِ أحكامه، وحفظ آياته، وهذا ما أحاول بيانه لك أيها القاريء الكريم في هذه السلسلة المباركة .

- قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } (غافر:78).

- وقال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } (غافر:85).

فأنصحك كي لا يختلط عليك الحفظ في قوله تعالى: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } وقوله تعالى: {وخسر هنالك الكافرون} أن تنظر بدقة وتدبر إلى الآية الأولى تجد أنها تتكلم عن الحق: {قُضيَ بالحق}، ومن المعلوم أن ضد الحق هو الباطل ولذلك ختمت الآية بقوله: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ }، والآية الثانية تتكلم عن الإيمان، وضد الإيمان هو الكفر فكانت الخاتمة {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}.

- والآية التالية التي يقع فيها اللبس والخلط لدى القراء والحفاظ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام:151). {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (الإسراء:31).

فآية الأنعام قدّمت رزق الآباء على الأولاد؛ لأن الفقر واقع موجود بالفعل فقد رزق الرجل، وآية الإسراء تتكلم عن الفقر المتوقع والمنتظر في المستقبل، فهو يقتل من أجل الفقر المنتظر فقدم رزق الأولاد فكل تقديم وتأخير على حسب السياق القرآني، وهكذا بلاغة القرآن وبيانه وعظمته.

- ولتناول آية أخرى لزيادة البيان، قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } (الذاريات:19). وقال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج:24-25)، فبعض الناس يلتبس عليه الأمر ولا يعرف التفرقة بين هاتين الآيتين؛ فتجده يقرأ في سورة الذاريات ويقول: {وفي أموالهم حق معلوم}، وهذا خطأ؛ لأن سورة الذاريات تتحدث عن مقام الإحسان وقيام الليل والاستغفار في وقت السحر وكل هذا من باب الإحسان، {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين}؛ ولذا تكلم فيها عن الإحسان ومنها صدقات التطوع فلم يقل معلوم؛ لأن معلوم هي الزكاة المفروضة ذات النصاب المقدر شرعا وهذا من واجبات الإيمان التي ذكرت في سورة المعارج.

وهكذا- أخي القارىء الكريم- لو نظرت بتفكر وتدبر لعرفت أن كل كلمة في القرآن جاءت في مكانها؛ وهذا القرآن كتاب محكم في كلماته وعباراته وأسلوبه، ليس فيها اختلاف ولا تناقض فيجب على قراء وحفاظ القرآن أن يراعوا ذلك وأن يقرؤوا الكتب التي تهتم بهذا الجانب البلاغي والبياني في القرآن، ومن أجمل ما قرأت في ذلك كتب الأستاذ فاضل صالح السامرائي؛ فقد أحسن وأجاد وأتقن والتزم فيها بعقيدة أهل السنة والجماعة خلافا لصاحب الكشاف وهو الإمام الزمخشري الذي برع في هذا الجانب إلا أن لعقيدته الاعتزالية أثرا غير محمود العاقبة لمن يقرأ كلامه.

ولذا نوصي بكتب الدكتور فاضل صالح السامرائي؛ حيث خلت كتبه من الجوانب السيئة، وجمع لك فوائد كتب السابقين أجمعين، وتميزت كتبه عن كتب السابقين بالدقة والترتيب والتنظيم والعقيدة الصحيحة. وفي النهاية أقرأ بعين الإنصاف والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه, ونستكمل في المقال القادم هذه الرحلة المباركة. المباركة.