الباقيات الصالحات[1]
لعل أَجْمَع المعاني وأَشْمَلها في تفسير (الباقيات الصالحات) أنها جميع أعمال الحسنات؛ فتشمل - أول ما تشمل - الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام، وما يَتبع كُلًّا منها من نَوَافِل الخير وأعمال البر.
وتُشِير إليها إِجْمَالًا سورة العصر التي يُؤْثر عن الإمام القرشي الشافعي رحمه الله أنه قال فيها: لو لم يَنزل على الناس سورة غيرها لَكَفَتهم، كما يُشير اليها إِجْمَالًا كذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ)).
ولقد جَدَّ كثيرٌ من العلماء في حَصْر هذه الشُّعَب وتحديدها في أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن:
فأعمال القلب: المعتقدات والنيات، وأعلاها الإيمان بالله وتوحيده، ووَصْفُه بكل كَمَالٍ وتنزيهه عن كلِّ نقصٍ، وأنه ليس كمثله شيء؛ وعن التوحيد يصدر كل خير.
ومن أعمال اللسان: الدعاء والذِّكْر والاستغفار، ومن الذِّكْر التَّهليل والتسبيح والتكبير و((لا حول ولا قوة الا بالله))، وهي كَنْز من كنوز الجنة.
ومن أفضل الذِّكْر قراءة القرآن العظيم، والصلاة على النبي الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
ومن أعمال البدن: التطهير حِسًّا وحُكْمًا، ومنها إطعام الطعام وإكرام الضيف، ومنها تربية الأولاد وصلة الرحم، ومنها إمَاطة الأذى عن الطريق.
وأَبْقى صُحْبَة وأَكْرَمُها، هي صُحْبَة الباقيات الصالحات، التي يَدَّخِرها العاملون ذخيرة لهم، وأَنَسًا في قبورهم حين يُفَارق الميت أهله وماله وولده، وأَعَزَّ أصحابه، ولا يبقى له إلا ما قَدَّم من هذه الباقيات الصالحات؛ روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ)).
يدعو النبي صلى الله عليه وسلم كل فَرْد من أُمَّته أن يختار أَنِيسَه في وَحْشَته، وجَليسَه في وَحْدته، وطائره في عُنُقِه، يوم يُقال: ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 14].
وليس للمَرْء صاحب أَبْقَى وأَدْوَم، وآنس وأكرم، مِنْ عَمَلٍ صالحٍ خالصٍ، يكون رَائده في حياته، وبَشيره بعد مماته، ونُوره الذي يمشي به في الدنيا، ويسعى بين يديه في الآخرة.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
[1] مجلة الإسلام - السنة الثالثة والثلاثون - العدد 18 بتاريخ 2 من شهر جمادى الأولى 1383 - 20 من شهر سبتمبر 1963.

https://www.alukah.net/sharia/0/132212/