فارتقب إنهم مرتقبون





د. خالد راتب








حالة الترقب تنتاب الإنسان دائما، يحاول معرفة ما تسفر عنه الأيام والوقائع من أحداث، والناس يترقب بعضهم بعضا، وتزداد هذه الحالة عند الخصومة، والكل - إلا ما رحم ربي - ينتظر خطأ الآخر، أو يتمنى له مصيرا سيئا... وتظهر مخرجات هذا الترقب في معاملات الناس بعضهم مع بعض، وهناك ترقب ليله صعب ونهاره شديد، ولكن فرجه قريب، وهو ترقب المظلوم الذي يظل ليله رافعا يديه يدعو على ظالمه، ينتظر عدل السماء في جبابرة وطغاة الأرض، الذين نهبوا الأموال والخيرات، وأذلوا العباد، وأضاعوا مستقبل الشباب، وحرموا الناس من حقوقهم، فقد كبتوا حرية البشر، وضيقوا عليهم حتى كادوا أن يحرموهم الهواء وقطرة الماء!



وكما أن المظلوم يترقب عدل الله وسيف انتقامه من الظالم، فإن الظالم مترقب ومنتظر الأخذ الأليم، الذي لا يستطيع الإفلات منه، ولكنه يكابر ويحاول أن يظهر في مظهر المتماسك، ولكن هيهات هيهات، فإن أخذ الله أشد مما يتوقع الظلمة، قال " صلى الله عليه وسلم" : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (1)، قال ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102).



فالترقب من الظالم يقابله إمهال من الرب، فمن حكمة الله في تعامله مع خلقه -حتى الظلمة- أنه لا يأخذهم من أول مرة، ولكن يترك لهم فترة من الزمن لعلهم يتوبون، ولكن أكثر الظالمين يظنون الإمهال بوادر رضا من الله عليهم، ولكنه الإمهال الذي يتبعه الاستدراج، قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُ ُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} (الأعراف:182-183). بحيث كلما طغى الظالم زيد له في العطاء، لدرجة أنه يظن أنه على الجادة والصواب، وأن من ظلمه هو المخطئ، ولو كان هؤلاء مظلومين ما أصابتهم تلك المحن، ولوكان ظالما ما زاد الله له في المنح، وهذا ظن قاصري النظر، حيث يظن المنع في كل الأوقات عقابا، ويظن العطاء في كل وقت منحة، وهذا لعدم فهم كثير من الناس لحكمة الله في المنع والعطاء، فيأتي القرآن ليصحح هذه المفاهيم ويوضح ويبين لكل من كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد خطأ هذا الفهم: {فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونعمه فَيَقول رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الفجر:15 و16).



إن الإمهال وفتح أبواب كل شيء على الظالمين لكي يزدادوا إثما، حتى إذا أخذهم، أخذهم بحق، وهذا قمة العدل حتى في الأخذ، حيث ترك الله لهم فرصا كي يرجعوا عن ظلمهم، ولكنهم ازدادوا طغيانا وبعدا، قال تعالى: { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (آل عمران:178)، لأن صب العذاب على الظالمين لا يكون إلا بعدما يكثر فسادهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ (14) } (الفجر:6-14).



إن الترقب والتربص، سواء كانا من المؤمنين أو من غيرهم، مؤلمان، ولكن الذي يهون على المؤمنين أنهم يرجون وجه الله، ويرجون منه -سبحانه- ما لا يرجوه أهل الباطل، قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } (النساء:104).



وكذلك المنافقون يتربصون ويترقبون ما يحل بالمؤمنين من الفتن والأزمات والحروب، فإن مَنّ الله على عباده المؤمنين بالخير والغلبة، انتظروا نصيبهم، وإن حل بهم غير ذلك أظهروا ولاءهم للأعداء، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (النساء:141).



إن تربص المنافقين والأعداء بالمسلمين ظاهرة طبيعية، وله مسوغاته، أما أن يتربص المسلم بالمسلم، والأخ بأخيه، وأبناء الوطن بعضهم ببعض.. فهذا ما لا مسوغ له، وليس له محل من الإعراب!



إن صاحب القلب الحي والفكر الحر ليألم أشد الألم عندما يرى حلقة الترقب والتوجس والصراع قد أحاطت بالمسلمين، ووجهوا ضرباتهم إلى نحورهم، وتركوا عدوهم في مأمن يشاهد المسلمين داخل حلبة المصارعة يحاول كل منهم أن يقضي على الآخر.



وهذا التربص ينذر بكارثة إن لم يتغمدنا الله برحمته أولا، ثم بتضافر جهود المخلصين وأصحاب الفكر المستنير في العمل على لم شمل أبناء الأمة الإسلامية وتذكيرها بثوابتها، التي منها: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:92).



وتذكيرها بالتواد والتراحم والتواصي بالحق والصبر: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:3).



هذه هي النقطة الأولى في لم شمل المسلمين.. التذكير والإخلاص في النصيحة، والتذكير بالتراحم والتواصي بالحق والصبر، ولكن هذا لا يكفي فلابد من اتباع هذه الخطوة بخطوة عملية تتخطى مرحلة النصح والتذكير بالقول، وفق آليات مدروسة قابلة للتنفيذ؛ وذلك لأن أعداءنا يتحركون برؤية ومنهج ومخطط، ولا يستعجلون في تحصيل النتائج، فهم مترقبون ومتربصون بنا، يتابعون لحظة بلحظة ما يجري لنا، ومدى سير العالم الإسلامي نحو تحقيق أهدافهم.




كما أنه يجب -وليس طبيعيا- ألا ننتظر حلولا مستوردة من المتربصين بنا، ولا نظن، ولا مجرد الظن أن عدونا سيحل لنا مشاكلنا أو يخرجنا من أزماتنا، ومن يظن ذلك فهو أبله، بعيد عن دنيا الناس، يتعلق بالسراب.



إن ترقب العدو بنا يحتم علينا أن نعلي المصالح العامة على المصالح الشخصية، وإلا فلا عامة حققنا، ولا شخصية نلنا. ولنعلم أن التأخر في قراءة ما يحاك ويدبر، والتغاضي عن فهم حقيقة هذه التدابير، والتكاسل والتواني في إيجاد حلول عملية، ولو مرحلية، يزيد الأزمات، ومن يدفع الفاتورة كاملة هم المسلمون، فكما أن غيرنا يترقبون بنا فكذلك يجب علينا أن نكون مترقبين يقظين.





الهوامش




1- أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة هود، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم.