بوح في الظلام


د. أمل القاسم


سألتني صديقتي: أين يدرس ابنك الصغير؟ أجبتها بكل فخر: يدرس في مدرسة اخترتها بعد طول عناء وحرصت على أن تجمع بين علوم الدين والدنيا، وأن تتميز بقوتها في لغتنا الأم ولغة العصر، وفيها كذا وكذا، وبدأت أعدد لها، حتى غسلت مخ صديقتي، وصورت لها هذه المدرسة، على أنها مدرسة القرن القادم تقنيةً، والقرون الأولى تاريخاً وأصالة.
عدت إلى منزلي بعد طول عناء في العمل، وتجمعت الأسرة حول المائدة، ولكن ابني الصغير كان متجهم الوجه، مقطب الجبين، زائغ النظرات، لم يكد يرفع يده إلى فمه حتى عمد إلى كأس الماء، شربه بسرعة وحمد الله، ثم هرول إلى غرفته، ناديته: عبدالله، تعال، لم تأكل جيداً. ولكن لا مجيب.
ولأنني كنت جد متعبة، وكذلك والده وأخواه، فقد أنهينا وجبتنا على عجل، ثم ذهب كل واحد منا يلتمس فراشاً وثيراً يتمدد عليه، علّه ينال قسطاً من الراحة بعد عناء يوم شاق.
فتحت بعدها عيني وابتسامة الرضا تعلو ثغري، كان هناك شيء يشغلني قبل أن أنام، تذكرت.. إنه عبدالله.. وبعد لحظات، قضيت فيها مشاغلي الخاصة، بحثت عن ابني في أكثر من مكان ..أخيراً وجدته.. تحت الطاولةّ!! ومعه مجسم صغير لرجل.. وهو يتكلم معه.. كلاماً أطار عقلي... كلمات لم تسمعها أذني من قبل تخرج من فمه الصغير.. ثم بدأ يضرب المجسم وهو يردد "تراني بصفقك"!
- عبدالله .. يا عبدالله ..
- نعم يا أمي..
- اخرج، ماذا تفعل؟
- ألعب يا أمي ..
- حسناً، أحضر دروسك .. أين حقيبتك؟
فتحت الحقيبة.. وبدأنا بمراجعة الدروس درساً درساً.. ثم أخرجت المصحف، وما أن رآه حتى اغرورقت عيناه بالدموع وتغير وجهه، وبحركة سريعة وضعت الكتب في الحقيبة ولملمت أغراضه، ثم اقترحت عليه أن نلعب تلك اللعبة التي يحبها، ابتسم ثغره العذب موافقاً، وبدأنا نلعب ونضحك ونتنافس ثم غلبته في لعبة، واشترطت عليه أن نتعشى معاً.. أكل بنهم لأنه جائع، كما أن وقت نومه اقترب، وهو – بالمناسبة – من أهم الأوقات، فهو وقت المصارحة، وبث الكلام الذي لا يخرج إلا في الظلام.
- أمي، أنا لا أحب التلاوة!!
- أي تلاوة يا بني؟
- تلاوة القرآن الكريم.
- استغفر الله، لا تقل ذلك يا بني، القرآن ربيع القلب، وجلاء الحزن، وشفاء النفس.
- أستغفر الله يا أمي، ولكن أنا لا أحب معلم التلاوة.
- لماذا؟ المعلم إنسان فاضل، علينا احترامه.
- ولكنه يا أمي سيء الألفاظ، فظ القلب، بذيء اللسان، أتصدقين يا أماه، إنه لا يناديني باسمي، وإذا اشتد غضبه علي يقول إنني حيوان، اليوم قالها لي.. نعم قالها لي. وبدأ ينشج.. تمالكت نفسي، ومسحت دمعة سقطت من عينيه.
- عبدالله، أهذا المعلم هو ذلك المجسم الذي كنت تضربه تحت الطاولة؟
ردَّ بخجل: نعم يا أمي ... أنا أكرهه.
- ولماذا يناديك بهذه الكلمة؟
- لا أعرف ، ليس أنا فقط، بل ينادي زملائي أيضاً بمثل هذه الكلمة، فكلنا حيوانات في حديقته، أقصد في فصله.
وبرعب شديد أردف قائلاً: لا يا أمي، لا تدعيه يفعل، ليتني لم أقل لك شيئاً، وبدأ يشهق باكياً، ثم تمتم ....
بالأمس قال كلاماً بذيئاً لزميلي، فاشتكاه زميلي لوالده، فاتصل والده بالمدرسة، وحاول التفاهم مع المعلم، فما كان من هذا الأخير إلا أن زاد لزميلي الكيل، وأشبعه هزؤاً وسخرية.
أطرقت... ومرت دقائق... ثم قلت له: حسناً يا بني، كما تشاء، مصارحتك لي هي الأهم، ولكن ما رأيك في قصة جميلة وقصيرة، عن المعلم الأول وعن أول معلم في الإسلام .
لمعت عيناه، وبرقت ثناياه، وهز رأسه موافقاً.
يا بني .. ليس كل معلم أو معلمة على هذا النحو، بل إن المعلم يفترض فيه أن يكون على قدر كبير من سمو الأخلاق ودماثة الخلق، ووداعة الجانب؛ لأنه مرب قبل أن يكون معلماً، ولنا في رسولنا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
ولأنني يا بني لن أوفيه حقه من الوصف، فسأكتفي بوصف المولى الكريم له حين قال عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم:4)، وقال سبحانه وتعالى : {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران، 15).
ولأنه عليه الصلاة والسلام يدرك أهمية دور المعلم، لذا فقد انتقى من أصحابه أطيبهم لساناً، وأرقهم قلباً، وألينهم جانباً، ليرسله إلى أنصاره في المدينة – وقد كانوا قلة وقتذاك – ليعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، ويدعو إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
بعث الرسول صلى الله عليه وسلم "مصعب بن عمير" رضي الله عنه، فكان يسمى في المدينة بـ "المقرئ"، ولأن له لساناً زكياً، فقد استطاع أن يرغّب الكثير في دخول الدين القويم، حتى إنه ما بقي في المدينة بيت إلا دخله الإسلام، ساعده في ذلك حسن خلقه وحلاوة لسانه، فأحبه الصغير قبل الكبير، وتجمع حوله الكثير، وكان ممن أسلم على يديه: سعد بن معاذ سيد الأوس، وهو ـ كما تعلم يا بني ـ الصحابي الكريم الذي اهتز له عرش الرحمن عندما مات، وبإسلام سعد رضي الله عنه، أسلم قومه كلهم لم يتخلف منهم أحد.
فانظر يا بني كيف أن حسن الخلق، والكلمة الطيبة تنتج خيراً كثيراً، والدين المعاملة.
- أمي، ما رأيك أن تكلمي المدير ليجلب لنا مصعب بن عمير ليدرسنا التلاوة؟
- صدقت يا بني، ما أحوجنا لمثل هذا المعلم، الذي جمع الخلق والعلم والدين، فكن أنت ذلك المعلم يا بني.
- سيكون قدوتي – من الآن فصاعداً – خير البشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا كبرت فسأكون معلماً كمصعب بن عمير.
ثم غط في نوم عميق، وابتسامة عذبة تعلو شفتيه.