صناعة الشاهد الشعري في الدرس الأصولي: الإمام الشاطبي أنموذجا
محمد حماني







أولًا؛ لمحاتٌ من حياة الإمام الشاطبي:

هو الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، أبو إسحاق، الشهير بالشاطبي، لم تُسلِّط كتب التراجم المعتمدة الأضواء على مكان ولادته، ولا عن تاريخها، ولا عن كيفية نشأته؛ إلا أن الذي يبدو والله أعلم أن أصله كان من مدينة شَاطِبَة، وأنه ولِد في مدينة غرناطة قبيل سنة 720هـ.



نشأ على حب العلم، ومتابعة الدرس منذ نعومة أظافره، وكان مالكيَّ المذهب، يدل على ذلك أن علماء المالكية أدخلوه في عداد طبقاتهم، ولم ينازعهم في ذلك أحدٌ من أهل المذاهب الفقهية الأخرى، ووصفه المعتنون بالتراجم عمومًا بأنه مالكي المذهب، وقد تصدى الإمام الشاطبي لكثير من البدع التي انتشرت في زمانه، وأدَّت إلى ضَعف المسلمين، وتحدث بنفسه عن مقاومته للبدع والمبتدعة؛ قائلًا: "لم أزَل أتتبَّع البدع التي نبَّه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذَّر منها، وبيَّن أنها ضلالة، وخروج عن الجادة، وأشار العلماءُ إلى تمييزها والتعريف بجملة منها؛ لعلي أجتنبها فيما استطعتُ، وأبحث عن السنن التي كادت تطفئ نورها تلك المحْدَثات؛ لعلي أجلو بالعمل سناها، وأُعَدُّ يوم القيامة فيمَن أحياها"[1].



وله آثار علمية؛ منها: كتاب "الموافقات"، وكتاب "الاعتصام"، وكتاب "الإفادات والإنشادات"، وكتاب "المجالس"، وكتاب "المقاصد الشافية في شرح الكافية"، وله تآليف أخرى نُسبت إليه ككتاب "أصول النحو"، وكتاب "عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق"، وتُوفي رحمه الله في سنة 790هـ.



ثانيًا؛ مفهومُ أصول الفقه:

الأصل لغةً: أسفلُ كل شيءٍ، وقاعدةُ الشيءِ[2].



وما يهمنا مما اصطُلِح عليه هو القاعدة الكلية التي تنطبق على الجزئيات والفروع، فيقال مثلًا: "الأصل أن النص مقدَّم على الظاهر"، و"أن علم الكتاب قطعي".



والفقهُ لغةً: الفهمُ، وخُصِّص بعلم الشريعة عُرفًا[3]؛ فهو العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية[4]؛ فالحكم بوجوب الصلاة مثلًا مستنبطٌ من نص قوله تعالى: ï´؟ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ï´¾ [البقرة: 43].



وأصولُ الفقه: العلم بالقواعد التي يُتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية؛ وموضوعه: نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، وما يُبنى على ذلك من مراعاة العُرف، والمصالح المُرسلة، وغيرها.



ثالثًا: مفهومُ الشاهد الشعري:

الشاهدُ لغةً: اسم فاعل من الفعل شَهِدَ، و"شهد" أصل يدل على حضور وعلم وإعلام، أما الشاهد عند المفسرين، فقد قال الكفوي (توفي 1094هـ) في "الكليات": "شهِد بمعنى "بيَّن" في حق الله، وبمعنى "أَقَرَّ" في حق الملائكة، وبمعنى: "أقرَّ واحتجَّ" في حق أُولي العلم من الثَّقلين"[5].



والشواهدُ التي يُستشهد بها في التفسير، واللغة، والنحو، وغيرها متعددة؛ منها: القرآن الكريم، وكلام العرب نثرًا وشعرًا، ويدخل في النثر الحديث النبوي، والأمثال، والخطب؛ وغيرها، ومن أجل ذلك قُيِّد وصفُ الشاهد بالشعري؛ ليخرج ما عداه من أنواع الشواهد الأخرى.

أما الشاهد اصطلاحًا، فهو عند أهل العربية كما يقول التهانوي: هو الجزئي من التنزيل، أو من كلام العرب الموثوق بعربيتهم.



رابعًا؛ موقفُه من الشعر:

يقول أبو إسحاق الشاطبي (توفي 970 هـ): "وأما الإنشادات الشعرية؛ فإنما الشعر حسنُه حسنٌ، وقبيحه قبيحٌ، وفي القرآن الكريم في شعراء الإسلام: ï´؟ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ï´¾ [الشعراء: 227]، وذلك أن حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة، وكعبًا لما سمعوا قوله تعالى: ï´؟ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ï´¾ [الشعراء: 224]، فبكوا عند سماعها، فنزل الاستثناء، وقد أُنشد الشعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقَّت نفسه الكريمة، وذرَفت عيناه لأبيات أخت النضر؛ لما طُبع عليه من الرأفة والرحمة"[6].



يُستفاد من هذا أن أبا إسحاق الشاطبي يعتبر الشعر كلامًا يُنشد، وينقسم إلى شعر حسن، وشعر قبيح، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتأثر بسماعه للشعر، بمعنى: أنه كان يَسْتَنْشِدُ الشعرَ، ولم يُنْشِدِ الشعرَ، وفرقٌ بين "الاستنشاد"، و"الإنشاد"؛ فالأول: أن يطلب من أحد أن يُنشده شعرًا، والثاني أن ينشد الشاعرُ شعرًا؛ لذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم نُزِّهَ عن قول الشعر، ولم يُعلمه ربُّه الشعرَ، وإنما كان يطلب من الشعراء: حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة أن يُنشدانه شعرًا مفعمًا بالحكمة، والدفاع عن تعاليم الإسلام السمحة، وفيه قسمٌ كبيرٌ سُمِّيَ بـ"شعر الدعوة الإسلامية".



وسنرجع إلى ما قاله الإمام الشاطبي حول رؤيته النقدية بشأن الشعر بعد أن نقف عند بعض الألفاظ التي جاءت في الآية، ومن هاته الألفاظ ما يلي:

1 - الشعراءُ: اختلف العلماء في أسباب النزول في اعتبار سورة "الشعراء" مكية أو مدنية، وما يُفِيدُ من معرفة محل نزول السورة، وتَبَيُّنِ سببِه، هو استغراق حكم القرآن الشعراءَ كُلهم أجمعين، أم استقلاله بفئة دون الفئة الأخرى.



2 - الاتباعُ: تَبِعَ بالتخفيف، واتَّبَعَ بالتشديد على القراءتين، بمعنى اقتفى، وسار في أثر الغير، فإذا كان الشعر كلمة الشاعر إلى العالم من حوله التي هي فكره، ورؤيته إلى مَن هم مِن حوله، وموقفه من الوجود النفسي والخارجي عنه؛ فإن العالمين من حوله بين تابعٍ له، ومعارض له، وهو ما يناسب ما رُوي عن الضحاك في تفسير قوله تعالى: ï´؟ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ï´¾: "أن المراد من الآية هو الشاعران يتهاجيان، فيتَّبع هذا قومٌ، ويتبع ذاك قوم"[7].



3 - الغاوونَ: إن ما يسترعي الانتباه في الآية، ويثير الفهم فيها، أو منها، معنى الغواية، وسبيل الإغواء، فإذا كان المُغْوِي واحدًا هو الشاعر، والغاوون متعددين بحسب التفاسير، إذ هم إما القوم: قوم كل شاعر على حدة، وإما الرواة، أو السفهاء من الناس، أو ضُلالُ الجِن والإنْسِ، أو الفئامُ من الناس، فإن فعل الإغواء هو البؤرة، وعليه المدارُ.



ولكن بأي حال من الأحول؛ فالآيات لا تستبطن رؤية نقدية للشعر، فنحن نُنزه القرآن العظيم عن ذلك بكل تأكيد، وإنما الحاصل أن القرآن يطرحُ موقفًا من الشعر الذي كَثُر حوله القيل والقال، فجاء بالقول الفصل، فالغاية عندنا الوقوف عن بعض الآراء النقدية للإمام الشاطبي التي يمكن أن يستفيد منها النقدُ الأدبي والشعري في تحرير كثير من القضايا النقدية التي سال فيها مدادٌ كثير، وحسبي أن أقول: إن أبا إسحاق الشاطبي يعتمد معيارًا أخلاقيًّا وفنيًّا في قَبول الأشعار، وهو موقف يتأرجح بين الدين والفن:

أ - المعيار الديني الأخلاقي: يقول الإمام الشاطبي: "فجائز للإنسان أن ينشد الشعر الذي لا رفث فيه ولا يُذكِّر بمعصية، وأن يسمَعه من غيره إذا أنشد، على الحد الذي كان يُنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عمل به الصحابة والتابعون، ومَن يُقْتدى به من العلماء، وذلك أنه كان ينشد ويسمع لفوائد"[8].



ب ـ المعيار الفني: يقول الإمام الشاطبي: "إنهم ربما أنشدوا الشعر في الأسفار؛ تنشيطًا لكلال النفوس، وتنبيهًا للرواحل أن تنهض بأثقالها، وهذا حسنٌ"[9].



فهذا ما يسمى بـ"الشعر الحماسي" الذي يستنهض الهمَمَ، ويدفع الإرادة للإقبال على الشيء، وهذا مكانه الفن.



خامسًا: بواعثُ الاستشهاد بالشعر:

1 - باعثُ الإثبات:

من بين البواعث والدواعي التي جعلت أبا إسحاق الشاطبي يَستشهد بالشعر، هو إثبات بعض الألفاظ التي اعتمدها أهل البدع في كلامهم، يقول: "وقد كان من العرب من يجهل قدر الربوبية، فيقول:

رَب العِبَادِ مَا لَنَا وما لَكْ *** أَنْزِلْ عَلَيْنَا الغَيْثَ لاَ أبَا لَكْ



وقال الآخر:

لا هُم إِنْ كُنْتَ الذي بِعَهْدِي *** ولَمْ تُغَيرْكَ الأُمورُ بَعْدي



وقال الآخر:

أَبَنِي ليتني لا أُحِبكُمْ *** وَجَدَ الإِلهُ بِكمْ كَما أَجِدْ



وهي ألفاظ يفتقر أصحابها إلى التعليم، وكانوا قريبي عهد بجاهلية تعامل الأصنام معاملة الرب الواحد سبحانه، ولا تُنزهه كما يليق بجلاله... وتعلم اللسان العربي لإصلاح الألفاظ في الدعاء - وإن كان الإمام أعرفَ به - هو كسائر ما يحتاج إليه اللسان من أمر دينه..."[10].



ويستشهد كذلك في ذم البدع بقول مالك؛ فأنشد[11]:

وَخَيرُ أُمُورِ الدينِ مَا كَانَ سُنةً *** وَشَرُّ الأمورِ المُحْدَثَاتُ البَدَائِعُ



2 - باعثُ التأكيد:

استشهد أبو إسحاق الشاطبي بقول أبي بكر بن أبي داود؛ للتأكيد على أن أهل الرأي هم أهل البدع[12]:

وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرجالِ وقولَهم *** فَقَولُ رَسُولِ اللهِ أَزْكَى وأَشْرَحُ



كما أورد بيتًا شعريًّا للتأكيد على أنه يجب العمل بعلم العَالِم، لا بالنظر إلى عمله؛ يقول الإمام الشاطبي: "فإن العمل يُشبه التنصيص بالقول، بل قد يكون أبلغ منه في مواضع - كما تبين في الأصول - غير أنه لا ينزل ها هنا من كل وجه منزلته، بدليل أن العالم قد يعمل وينص على قُبح عمله، ولذلك قالوا: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سَلْه يصدقك، وقال الخليل بن أحمد أو غيره:

اعْمَلْ بِعِلْمِي ولاَ تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِي *** يَنْفَعُكَ عِلْمِي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي[13]



3 - باعثُ الرثاء:

ثم إن من البواعث وراء استشهاد أبي إسحاق الشاطبي بالشعر باعثَ الرثاء؛ حيث يستحضر أبو إسحاق الشاطبي قول الشاعر عروة بن أُذينة من قصيدة يرثي فيها عمر بن عبدالعزيز:



وأَحْيَيْتَ فِي الإِسْلاَمِ عِلْمًا وَسُنةً

وَلَمْ تَبْتَدِعْ حُكْمًا مِنَ الحُكْمِ أَضْجَمَا


فَفِي كُلِّ يَومٍ كُنْتَ تَهْدِمُ بِدْعَةً

وَتَبْنِي لَنَا مِنْ سُنةٍ مَا تَهَدمَا





4 - باعثُ الوعظ، والإرشاد:

هذا؛ ومن بواعث الاستشهاد بالشعر كذلك الإتيان به لأجل الوعظ والإرشاد، وسأستحضر هنا كلام الإمام الشاطبي بالرغم من طوله يقول: "أن يتمثل الرجل بالبيت أو الأبيات من الحكمة في نفسه؛ ليعظ نفسه أو يُنشطها، أو يحرِّكها لمقتضى معنى الشعر، أو يذكُرها لغيره ذكرًا مطلقًا، وذكر قصة الأبيات:



وَفُؤَادٍ كُلمَا عَاتَبْتُهُ

فِي مَدَى الهِجْرَانِ يَبْغِي تَعَبِي


لاَ أَرَاهُ الدهْرَ إلا لاهيًا

فِي تَمَادِيهِ فَقَدْ بَرحَ بِي


يَا قَرِينَ السوءِ مَا هذا الصبَا

فَنِيَ العُمْرُ كَذا فِي اللعِبِ[14]





سادسًا؛ كلمة أخيرة:

إن الاستشهاد بالشعر له أهميته في الدرس الأصولي؛ لكونه يُزيح الغموض عن بعض المعاني التي قد تستغلق على المتلقي، ومما يفسِّر قلة الشواهد الشعرية في كتاب "الموافقات"، هو اعتماد البعد التنظيري؛ عكس كتاب "الاعتصام" الذي هو الوجه التطبيقي لكتاب "الموافقات"؛ لذلك كَثُرتِ الشواهدُ الشعريةُ في "الاعتصام"؛ لأن الإمام الشاطبي بحاجة إلى الاستدلال بالشاهد الشعري على صحة ما يدَّعيه، ودفع كثير من البدع والشُّبهات، وقد استثنيتُ الشواهدَ الشعريةَ الموجودةَ في كتاب "المقاصد الشافية في شرح الكافية"؛ لأن الكتاب يندرج ضمن الشروح النحوية.





[1] أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، تح: سليم الهلالي، الطبعة الثالثة، (1436هـ/2015م)، دار ابن القيم، ودار ابن عفان، 1 /59.



[2] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تح: نديم مرعشلي، دار الكتاب العربي، ص 15.



[3] ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، مط. الخيرية، القاهرة، 3 /237.



[4] ابن الحاجب، مختصر المنتهى الأصولي، مطبوع مع شروحه، مط. الأميرية، بولاق، 1 /18.



[5] الكفوي، الكليات، تح: د. عدنان درويش/ ومحمد المصري، الطبعة الأولى، (1412هـ)، مؤسسة الرسالة، ص 527.



[6] مرجع سابق: (الاعتصام، 1 /345).



[7] أبو المظفر السمعاني، تفسير القرآن (تفسير السمعاني السلفي)، تحقيق، ذ. ياسر بن إبراهيم أبو تيميم - ذ. أبو بلال، غنيم بن عباس، الطبعة الأولى، (1997م)، دار الوطن للنشر، الرياض، المملكة العربية السعودية، ص 4 /72.



[8] مرجع سابق: (الاعتصام، 1 /250).




[9] نفسه.



[10] نفسه، 1/ 471 - 472.



[11] نفسه، 1 /133.



[12] نفسه، 2 /325.



[13] نفسه، 2 /93.



[14] نفسه، 1 /352-353.