سؤال المآلات

د عمرو عبد الكريم

إذا كان سؤال المقاصد يتعلق بالبواعث، فإن سؤال المآلات يتعلق بالغايات، وكلاهما من أشد أسئلة الوعي الحضاري إلحاحا على واقعنا المعاصر.

ففي مناهج التفكير الراشد التي تكرس الوعي الحضاري، تتساند الأسئلة وتتكامل دلالاتها لإدراك مناطات الأحكام وعللها وغاياتها، حتى يتسنى للمفكر والمجتهد تنزيل النصوص على الوقائع، وإدراك مراتب الأولويات، وأبعاد الموازنات، حيث تتساند مكونات هذه المنظومة المنهجية في إدراك فقه السنن (الشرعية والكونية)، وسنن الله في الآفاق والأنفس، وسنن السير في الأرض.

سؤال المآلات سؤال جوهري في إدراك عواقب الأحكام والرؤى، إذ لولا استصحاب المآلات لأمكن أن تؤدي الأحكام والآراء الاجتهادية إلى عكس مقصودها.

لذلك نجد أن النصوص الشرعية تضافرت على اعتبار المآلات، كما تكاتفت على بنائه وتأصيله النظرية العامة للشريعة؛ وتم استقراؤه من عامة النصوص ومفهوماتها.

يشير سؤال المآلات إلى ذلك النوع من أسئلة الوعي الحضاري التي تؤكد على أهمية إدراك المفكر والمجتهد لنتائج الحكم وعواقبه، وثمار العمل وآثاره، فالأحكام والمواقف والرؤى ليست أحكاما مجردة منبتة الصلة عن واقعها.

أصوليا؛ اعتبار المآلات يعني: أن المجتهد حين يجتهد ويحكم ويفتي عليه أن يقدر مآلات الأحكام والأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه، وألا يعتبر أن مهمته تنحصر في «إعطاء حكم شرعي»، بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته؛ وأن يصدر الحكم وهو ناظر إلى أثره أو آثاره، فإذا لم يفعل فهو: إما قاصر عن درجة الاجتهاد، أو مقصر فيها. (د. أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، الرباط: دار الأمان للنشر والتوزيع، ص:353).

ويؤصل الإمام الشاطبي لهذا الأمر بقوله: «النظر في مآلات الأفعال مقصود شرعا؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب؛ أو لمفسدة فيه تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصلح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود العاقبة جار على مقاصد الشريعة» (الموافقات، 4/194).

ولقد حفل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بتأصيل معتبر لأسئلة المآلات،

فالقرآن أكد على المسلمين ألا يسبوا أصنام المشركين إذا أدى إلى أن تسب الذات الإلهية، فقال سبحانه: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام:108). واتفق العلماء -كما يقول ابن العربي- على أن تفسير الآية: لا تسبوا آلهة الكفار؛ فيسبوا الله سبحانه وتعالى (أحكام القرآن 2/734).

وفي سورة الكهف نجد أن أفعال العبد الصالح كلها عللت بغايات مآلية: خرق السفينة {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (الكهف:71)، فعلل: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } (الكهف:79). وكذلك المنهج في مسألة قتل الغلام، وعملية بناء الجدار.

وفي السنة النبوية نجد أن النبي " صلى الله عليه وسلم" امتنع عن قتل المنافقين مع علمه بهم ومع علمه باستحقاقهم القتل، وقال: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي» (كما روى أحمد في مسنده).

كما تخلى النبي عن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم حتى لا يثير بلبلة بين العرب، وكثير منهم حديثو عهد بالإسلام، فقال مخاطبا عائشة رضي الله عنها: «ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم». قالت: فقلت يا رسول الله، أفلا تردها على قواعد إبراهيم. فقال: رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت» (كما رواه مالك في الموطأ)؛ وفي رواية أخرى: «لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم»؛ والحديث متفق عليه (باب نقض الكعبة وبنائها).

فلولا مراعاة المآلات والنتائج لوجب قتل المنافقين، وإعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم، ولكن الأول كان سيفضي إلى نفور الناس من الإسلام خشية أن يقتلوا بتهمة النفاق، والثاني يؤدي إلى اعتقاد العرب أن النبي يهدم المقدسات ويغير معالمها. (د. أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص:54).

ويقوم سؤال المآلات على ثلاثة أسس:

الأول هو استقراء تام للجزئيات حتى يمكن صياغة الكليات أو الوصول إليها، وهو أمر يعتمد على قراءة عميقة للأحداث التي تتشكل منها المواقف، ولذلك فالمفكر والمجتهد بحاجة إلى استقراء جزئيات الواقع، وتحديد العوامل التي تؤثر في مساره. وإذا كان علم الاجتماع يحدد عناصر الثقافة في: اللغة والعادات والقيم كما يقول مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة، فإن المفكر الذي يؤصل لقضايا الوعي الحضاري بحاجة إلى تحديد الإطار العام لعناصر الثقافة، وهو الإطار الحضاري الذي يجعل من الدين الوحدة الأساسية لتحليل الأحداث الجزئية والكلية، أو على حد تعبير بن نبي: استخدام الفكرة الدينية لتفعيل عناصر الحضارة وهي الإنسان والتراب والزمن.

الأساس الثاني هو: فقه السنن الكونية والحضارية التي زخرت بها آي القرآن الكريم (سنن الآفاق والأنفس وسنن الحضارات: التي تفسر قيامها وسقوطها).

الأساس الثالث هو: الاعتماد على آليات النظر الاستراتيجي المعتمد في الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية المعاصرة، وما تعتمده من مؤشرات تبنى عليها الخطط الاستراتيجية والتنموية (أنظر: د. يونس صوالحي، الشباب الإسلامي المعاصر، وضرورة الاجتهاد الدعوي).

وفي واقعنا المعاصر يفرض سؤال المآلات نفسه في كل القضايا المطروحة، فليس ثمة بديل عن إنارة سبيل الرشد إلا ضرورة النظر في عواقب كل فعل أو قول ليكون المباح منها مفضيا إلى يسر الناس في حياتهم، وليكون الحرام مفضيا إلى نبذ الشر والضر عنهم، وليكون الواجب مفضيا إلى جلب المصلحة لهم حتى لو شاب تلك المصلحة عنت محتمل في العادة، فإذا ما أدى الواجب إلى شدة عنت لا تحتمل في العادة تنزلت الضرورات ثم الحاجات لتفعل فعلها تيسيرا على الناس، وإذا ما أدى الحرام إلى شيء من ذلك كان مثل ذلك (د. عمرو عبدالكريم سعداوي، في فقه المآلات، جريدة المصريون 19 يناير 2010م).

والخلاصة: إن سؤال المآلات يمكّن المفكرين والمجتهدين من إدراك نتائج الأعمال اعتمادا على غلبة الظن القريب من القطع. وحتى يحصل هذا الإدراك لابد أن توزن الأعمال بميزان الشرع، ومعرفة الواقع، ورصد التحولات، وإدراك الثوابت والمتغيرات، كما يفرض على المهتمين معرفة كثير من أصول علم استشراف المستقبل، والقدرة على التحليل، ودراسة النتائج بناء على المعطيات الميدانية. ولعل ذلك ما يجنب الأحكام آثار الارتجالية وردات الفعل، ويجعلها قائمة على الدراسة والتمحيص، لا على الظن والهوى.



عرض كتاب

الإسلام بين الشرق والغرب

علي عزت بيجوفيتش

ترجمة محمد يوسف عدس

تقديم د. عبدالوهاب المسيري

مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات 1994م.


أشد ما لفت نظري إلى هذا الكتاب هو قول المفكر عبدالوهاب المسيري عنه إنه لو قرأه مبكرا في حياته لوفر من عمره ثمانية عشر عاما من السير في دروب الأفكار والفلسفات المختلفة.

يناقش هذا الكتاب أبرز الأفكار العالمية في تاريخ البشرية المعاصر، وللإجابة على كثير من الأسئلة التي تهم الجيل الجديد، فالهدف منه هو إنارة الطريق للبشرية التي تتجه إلى مركب جديد وموقف وسطي جديد في عصر المعضلات الكبرى والخيارات، وحيث لا يمكن فرض الأيديولوجيات المتضاربة على الجنس البشري، فإن الإسلام هو مستقبل الإنسان، لأنه يدعو إلى خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه.

وعن طبيعة هذا الكتاب، يقول مؤلفه في مقدمته إن هذا الكتاب ليس في اللاهوت، ولا مؤلفه من رجال اللاهـوت، إنه محاولة لترجمة الإسلام إلى اللغة التي يتحدث بها ويفهمها الجيل الجديد؛ إنه كتاب يتناول عقائد الإسلام ومؤسساته وتعاليمه بقصد اكتشاف موقع الإسلام في إطار الفكـر العــالمي، ويناقش عددا من الأفكار العالمية التي تهم البشرية من خلال دراسة متعمقة وموسوعية موجزة.

يشتمل الكتاب على قسمين رئيسيين: القسم الأول: يحمل عنوان المقدمات، ويتناول نظرات حول الدين بصفة عامة من خلال مناقشة موقف كل من الدين والإلحاد من قضية أصل الإنسان والقضايا الأخرى المتعلقة بها, ومنها: الخلق والتطور، الثقافة والحضارة، ظاهرة الفن، الأخلاق، الثقافة والتاريخ، والدراما والطوبيا.

أما القسم الثاني من الكتاب، فإنه مخصص للإسلام، فالإسلام -كما يقول المؤلف- ليس مجرد دين أو طريقة حياة فقط، وإنما هو بصفة أساسية مبدأ تنظيم الكون، فكما أن الإنسان هو وحدة الروح والجسد، فالإسلام وحدة بين الدين والنظام الاجتماعي، وكما أن الجسم في الصلاة يمكن أن يخضع لحركة الروح، فإن النظام الاجتماعي يمكن أن يخدم بدوره المثل العليا والأخلاق، هذه الوحدة الغريبة عن المسيحية وعن المذهب المادي معا، ميزة في الإسلام، بل هي من أخص خصائص الإسلام.

يبدأ علي عزت بيجوفيتش في الفصل الأول من كتابه مناقشة قضية أصل الإنسان؟ وماهية الحياة؟ وهي القضية التي تعد حجر الزاوية لكل أفكار العالم، فأي مناقشة تدور حول كيف ينبغي أن يحيا الإنسان تأخذنا إلى الوراء.. إلى حيث مسألة أصل الإنسان، وفي ذلك تتناقض الإجابات التي يقدمها كل من الدين والعلم، كما هو الشأن في كثير من القضايا.

ويكشف بيجوفيتش كيف أن العلماء على جهل بحقيقة ماهية الحياة وبدخائل النفس البشرية إلى حد لا يمكن معه أبدا الجزم بشيء على أي درجة من المصداقية، ويصل إلى حقيقة مهمة وهي أن آفة من تعرضوا لهذا السؤال هي الوقوف بعيدا عن نقطة الوسط.

ويؤكد المؤلف على أن الإنسان ليس مفصلا على طراز داروين، ولا الكون مفصلا على طراز نيوتن. ويقول: الإسلام هو الاسم الذي يطلق على الوحدة بين الروح والمادة، وهو الصيغة الأسمى للإنسان نفسه. فالإنسان في منظور الإسلام مخلوق كرمه الله، إنه الإنسان المكون من جسد وروح، والمسيطر بمنهج إلهي على الطبيعة التي سخرها الله له، وهو في كل هذا يسجد لله وحده، فهو سيد في علاقته مع الله.

ولا تقتصر الرؤية الإسلامية الوسطية في فكر بيجوفيتش على ما ذكر من قبل، ولكنه يرى أن هناك منظومة فكرية تحرك القدرات العقلية للإنسان إلى ما هو أبعد من العلاقات الطبيعية البسيطة المنظورة لبحث ما وراء الطبيعة. والغرض ليس فك هذه الرموز، إنما اكتساب التواضع والوعي بالجهل.

ويؤكد بيجوفيتش على أن وسطية الإسلام يمكن إدراكها من خلال حقيقة أن الإسلام كان دائما موضع الهجوم من الجانبين المتعارضين الدين والعلم.

ويوضح حقيقة مهمة من حقائق الإسلام بقوله من أجل مستقبل الإنسان ونشاطه العلمي، يعنى الإسلام بالدعوة إلى خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه، ومجتمع تحافظ قوانينه ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية على هذا الاتساق ولا تنتهكه، إن الإسلام هو البحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الداخلي والخارجي هذا هو الإسلام اليوم، وهو واجبه التاريخي المقدر له في المستقبل، إن الإسلام لم يكن مجرد أمة إنما هو على الأرجح دعوة إلى أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أي تؤدي رسالة أخلاقية.

وفي القسم الثاني من الكتاب يتناول معجزة الإسلام كوحدة ثنائية القطب، ويتناول جوانب من إعجاز كتاب الإسلام في صيغته المكتوبة، وهو القرآن الكريم، ويصف القرآن بأنه حياة.






في المفاهيم والمصطلحات الحضارية

مفهوم حرمة المسلم

كان عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- ينظر إلى الكعبة ويقول: «إن الله حرمك وشرفك وكرمك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله تعالى منك».

(عبدالله بن عباس)

في مفهوم التوكل

يقول الإمام أحمد بن حنبل:

«التوكل… قطع الاستشراف باليأس من الناس».

في مفهوم الاستبداد

يقول عبدالرحمن الكواكبي:

«المستبد عدو الحق وعدو الحرية وقاتلها، وهو يود أن تكون رعيته بقرا تحلب، وكلابا تتذلل وتتملق، وهو يرجع عن استبداده وظلمه إذا وقفت الرعية في وجهه وقاومت ظلمه واستبداده».