من بكائيات رندي المشرق
أ. د/ حسن الشافعي





هو البكاء لنا في الأرض عنوان

لا تحسب الدهر ينسى طبعه أبدا

هو الزمان كما شاهدته غير

ميراثك المر يا رندي حولنا

مضيت أنظر في إشبيليا دنفا

قصر ابن عبادٍ المرموق مكتئب

أين الوفود لدى الساحات ناظرة

أين الحراسات عند الباب قائمة

وإذ دخلنا فلا حس ولا خبر

هذي المقاصير كم فاضت مشاعرها

أين الأرائك في الأركان منضدة

أين القيان تناجي العود محتضنا

أين الخيال وأين الشعر منتشيا

وقاعة الغبطة الكبرى مسربَلة

لا شيء يبقى على الأيام مكتملا

منارة الجامع العليا منكسة

لكم تنزل في شرفاتها ملك

وكم تصعد من أركانها نغم

وكم تخشع في أكنافها نفس

زالت منابرنا غامت ملامحنا

أرض الجمال تغشاها الحداد وكم

رحلت أرمق من إشبيليا رحما

فأسلموا الدار للأعداء من سفه

لكن غرناطة التوحيد ما فتئت

وعند غرناطة حطت رحائلنا

أما الهموم فما حطت وما رحلت

هذي الديار حماها إخوة نُجُب

كادت تغالب حينا بؤس عيشتها

دور ابن أحمر مازالت معالمها

يشع منها جمال الفن حاضرة

لكن زوارها أشتات مرتعة

هم استباحوا مقاصيرا مبجلة

لا يعرفون لدى الأبواب حرمتها

أعراضنا أصبحت أعراض متجرة

من يهمل اليوم لا يَلحى غدا أحدا

يا من يرجِّي نهوض الشرق ثانية

لا يصنع المجد بالألفاظ نطلقها

ولا العواطف هاجتها مخادعة

انظر لخطو الألى خطوا مصائرنا

ماء المآقي تملت منه غدران

«فلا يغر بطيب العيش إنسان»

«من سره زمن ساءته أزمان»

إلى بكاة وكل الشرق حيطان

والعين غائمة والقلب أسيان

قد شفه الوجد فاضت منه أحزان

إذن الدخول عناها الحال والشان

وكل شيء تراتيب وديوان

إلا حنين يمض اللب ولهان

حب ووجد وإعتاب وتحنان

أين النمارق في الردهات ألوان

فتكشف السر من نجواه ألحان

فالدهر ينشد والأيام آذان

بالذل ينعق في أرجائها الجان

«لكل شيء إذا ما تم نقصان»

قد أثقلتها نواقيس وصلبان

قد شاقه الذكر توحيد وإيمان

مضمخ بخشوع القلب رنان

قد هيمته تسابيح وقرآن

شاهت مشاهدنا والحق ميزان

ماس التبختر تهفو منه أردان

قد مزقته بنو عم وإخوان

إذ لوث القلب بالأحقاد شيطان

تغالب الموج بعد الموج بحران

دار لأجدادنا كانت هي الخان

وطائر الحزن في الأجواء حومان

وللعدو من الأجناد طوفان

حتى أجاها لبؤس العيش سجان

تغالب القرن بعد القرن أركان

أفضت إليها مواريث وعرفان

لم يدعهم لدخول القصر سكان

عقائل الحمر أشياء ودكان

ولا يراعون معنى أينما كانوا

من يشتري؟ ولجاه الفَلسِ سلطان

فالأمر جد ودفع الله فرقان

أحاسن الخلق منهاج وميزان

ولا الهتاف تعالى منه بركان

سوق السياسة بالتزييف ملآن

واستوعب الدرس فالماضي هو الآن