سنن الله في الكون «بين السقوط والنهوض»​



منتصر الخطيب




قال الله تعالى: { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}


(آل عمران:137-140).


تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها بيان لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الحضارات والدول والمجتمعات والمنظمات والأفراد، لا تتغير ولا تتبدل، مما يدخل تحت مسمى السنن الكونية.


ويزخر القرآن الكريم بتأصيلات رائعة في موضوع السنن، فهو دائما يوجه أنظارنا إلى استنطاق التاريخ واستقراء الحوادث والأسباب التي حطت أقواما ورفعت آخرين؛ لاستكشاف سنن الله تعالى في الكون.


ونحتاج في التعرف إلى سنن الله في الكون إلى استخدام أدوات النظر والمعرفة العقلية، وقراءة التاريخ الإنساني المكتوب، كما نبه إلى ذلك القرآن الكريم في عدة آيات، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)} (الروم:9-10).


1- السنن الكونية: فالسنن الكونية هي نواميس الله تعالى وقوانينه الأزلية التي تضبط حركة المخلوقات من أجرام وكواكب ومركبات.. وغيرها. وكل ذلك في تكامل وانسجام، من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، بحيث يؤدي كل منها ما خلق لأجله من دون أدنى خلل أو تخلف، إذ ليس الجميع سوى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل:88)، فهو سبحانه الذي أبدع: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } (الفرقان:2). فالكون – إجمالا - تحكمه قوانين دقيقة مبنية على أساس العلل والمعلولات، والأسباب والمسببات، وليس هناك مجال للفوضى والعبث، ولم يكن خلق السماوات والأرض صدفة ولعبا: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (الأنبياء:16).



2- السنن الاجتماعية: أما السنن الاجتماعية أو سنن الله في المجتمعات، فقد ظهر هذا المصطلح عند بعض علماء الاجتماع المسلمين المعاصرين، اقتباسا من لفظة السنة الواردة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } (آل عمران:137)، وقوله سبحانه: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } (الأحزاب:62).. وغيرهما من الآيات. ويعنون بها تلك القوانين المطردة والثابتة التي أودعها الله في الحياة البشرية، والتي تشكل إلى حد كبير ميكانيكية الحركة الاجتماعية وتعين على فهمها. إنها إذن المبادئ الأساسية التي تحكم حركة التاريخ البشري في ماضيه وحاضره ومستقبله، وتتناول من جهة أخرى طريقة الله في معاملة البشر، وتتناول أيضا ما يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة.



ولاشك أن من أهم شروط التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية في الأفراد والمجتمعات، أن نفهم فهما شاملا رشيدا هذه السنن، وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي، أو ما نعبر عنه بـ «فقه السنن».. ذلك الفقه الذي يحيلنا القرآن الكريم إليه في مواضع كثيرة، ويأمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائه ومعرفة حقيقته، واليقين بأن هذه الحياة لم تخلق عبثا، وإنما تخضع لسنن وقوانين، وتتبع أمر البشر في اجتماعهم وما يحدث بينهم من الصراع والتدافع الحضاري، وما يتبع ذلك من الحرب والنزال والملك والسيادة والتداول الحضاري، وأن ذلك يجري على طريقة قويمة، وقواعد ثابتة. من سار على سنن الله ظفر بالفوز، وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر، وإن كان صديقا أو نبيا.


وإذا كان الأمر بالنسبة إلى الكون وسننه ونظامه واضحا ودقيقا، فهل هو كذلك بالنسبة إلى سنن الله في الحياة الاجتماعية؟ نعم، فإن السنن الكونية وسنن الله في الحياة البشرية متعانقتان مطردتان لا تتخلفان ولا تتوقفان، والقرآن يكرر هذه الحقيقة بالنسبة إلى الحياة البشرية حين يقول: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } (آل عمران:137)، ويقول في آية أخرى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } (الأحزاب:62).


إن النظر في ملكوت السماوات والأرض يهدينا إلى معرفة السنن الكونية، والنظر في تاريخ الأمم وأحوال المجتمعات يهدينا إلى معرفة السنن الاجتماعية، وكل منهما - تبعا للمنهج القرآني - ذو أهمية في الحياة العملية للإنسان. غير أن التمييز بينهما يغدو أمرا ضروريا تقتضيه منهجية البحث للتفريق بين الظواهر الطبيعية وكيف تحدث؟ والظواهر الاجتماعية وكيف تعمل؟


ولهذا، فإن الاستفادة من السنن وملاحظة الأمثلة والأحداث، تقدمان للناس بصرا ومعرفة عملية، حتى لا يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم، أو تنقذهم إذا وقعوا فيها.


وقد فطن ابن تيمية - رحمه الله - لهذا الأمر حين قال: «إن السنة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار»، مما يقتضي تبديل بعض ما في العالم وفق ما وقع كثير منه في الماضي وسيقع في المستقبل، فعلم أن هذه السنن دينيات لا طبيعيات (...) فقوله تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } (فاطر:43) دليل على أن هذا من مقتضى حكمته، وأنه يقضي في الأمور المتماثلة بقضاء متماثل لا بقضاء مخالف (1).


سنة التمكين



التمكين لدين الله في الأرض هو هيمنة منهاج الله على ما عداه من المناهج على الأرض، والقدرة التامة لعباد الله على التصرف في أرض الله حسب منهاجه، حسا ومعنى؛ بأن تصطبغ الحياة بصبغة الإسلام كما أراده الله. فالمراد من سنن التمكين إذن؛ قانون الله المطرد في خلقه، ونظامه الحاكم المهيمن في أفعالهم، الذي إذا اتبعه عباده أقدرهم على التصرف في أرضه والهيمنة عليها، وجعل لهم مكانة مكينة في كيفية التعامل مع مفرداتها وإحسان توظيفها.


وهذا قد يحصل للمؤمن ولغير المؤمن، فقد قال سبحانه عن عاد: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } (الأحقاف:26).


وتبرز لنا الآية كيف أن الله تعالى يعدل بين عباده، وسنته واحدة فيهم، من حيث إنه ركب فيهم أدوات الإدراك، وهم يعيشون في كون واحد له سنن ثابتة، وقد يصل كل منهم عن طريق تلك السنن إلى القوة والتمكين، وقد يكون بعضهم أكثر قدرة وإمكانات مثل: ثمود قوم صالح - عليه وعلى نبينا السلام - فقد كان هؤلاء: { يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ } (الحجر:82).


ولكن هذا كله يمكن أن يزول ليكون هباء؛ إما بسبب السنة الكونية الثابتة هنا، وهي عدم خلود شيء من مخلوقات الله تعالى، وأنه لا بد لكل أول من آخر: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (القصص:88)، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ, وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (الرحمن:26-27)، أو بسبب السنة الشرعية في أن المعاصي تذهب الخير والبركة. والآية التي تتكلم عن قوم هود - عليه وعلى نبينا السلام - توضح ذلك؛ يقول سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُ م بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (الأنعام:6).


فندرك من هذا ارتباط السنة الكونية بالسنة الشرعية، فالشيء يبقى مستقرا في مكانه ما دامت أسباب استقراره قائمة، ولكن يختل استقراره، وربما يزول إذا حدث شيء في الأسباب.


فالتمكين تصل إليه الأمة بمعرفة أسبابه الكونية والشرعية، فتأخذ بها، وقد يتحقق بإذن الله، ولكن بقاءه مرهون بالمحافظة على تلك الأسباب، قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج:41).


وهذا يؤكد لنا أن الالتزام بالسنن الكونية تتحقق نتائجه بالالتزام بهذه السنن وما يترتب عنها، لأنها متعاضدة متكاملة، مصداقا لوعد الله تعالى في الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (النور:55).


فالتمكين قد يحصل لأي عبد من عباد الله تعالى إذا أخذ بالأسباب، ثم وافق ذلك مشيئة الله. ولكن سنة الله الثابتة أن بقاء التمكين له مقومات وشروط، وإلا زال: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج:41)، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140)، فقضت مشيئته سبحانه عدم استمرار الدولة الظالمة الفاسدة وإن كانت قوية أو مسلمة، رأفة بعباده، ولأنه لا يحب الفساد. ومن خلال تدبر هذه السنن الإلهية نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه تفسيرا شرعيا سليما ينفعنا في تقييم حاضرنا وتوقع مستقبلنا؛ وإن كان الكثير منا اليوم لا يملك القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وكشف اللثام عن حقيقة هذه السنن وتبدلها بين عوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، وعوامل الهدم والخوف والجوع والمرض.


يقول منير شفيق في معرض حديثه عن صحابة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «والأحاديث الصحيحة كثيرة في إبراز مزايا الصحابة ودرجتهم العالية في سلم الذين أسلموا وصدق إيمانهم وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده. وهذا كله لا ينفي عنهم بشريتهم.. وإن كانت لهم من ميزة خاصة حرم منها من أتى بعدهم، فقد جاءت من وجودهم في زمن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، وسبقهم إلى الإسلام وتتلمذهم على يد النبي المعلم القائد.. أما ما عدا ذلك فما حصلوه يمكن أن يحصله غيرهم من الرجال والنساء إن فقهوا. فالقرآن الذي هداهم وعلمهم هو القرآن الذي بين أيدينا، والسنة التي نهلوا منها هي السنة التي في الصحاح والأخبار المؤكدة..» (2).


سنة السقوط



ما يقصد بالسقوط الحضاري من خلال القرآن ليس هو دائما زوال الأمم من الوجود وفناء أفرادها في العدم، لكن المقصود بالسقوط الحضاري هو الانهيار الداخلي للمجتمعات، وذهاب قوة الأمم وعزتها وهوانها على الأمم الأخرى، وذلك عندما تذوب في غيرها، وتنمحي شخصيتها المعنوية والروحية، وهذا ما هو كائن في حياة الأمم التي سقطت حضاراتها. فكثيرة هي الأمم والحضارات التي غابت عن مسرح الحياة الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فاستوعبتها حضارات أمم أخرى هي أشد وأبقى حتى صارت جزءا منها لا ينفصل، وأنشئت على أنقاض كيانها الحضاري حضارات جديدة.


ولعل أوضح مثال على ذلك هو حضارة العرب البائدة، كقوم عاد وثمود، الذين بلغوا شأنا عظيما في التحضر، فقد حكى القرآن الكريم بعضه للاعتبار، ودلت عليه بقايا الدهر وأبحاث التاريخ. والثابت أن هؤلاء العرب وغيرهم من الأمم الهالكة لم يستأصلوا استئصالا كليا تاما، وإنما أهلك الله الظالمين والكافرين منهم، وأنجى رسلهم والذين آمنوا منهم ليستمروا في عمارة الحياة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)} (الفجر:6-9).


وقد جرت سنة الله أن يعامل البشر حسب ما عملوا، فهو سبحانه لا يزيل ما بقوم من العافية والنعمة والرخاء والهناء ويبدلها بالآلام والأمراض والنوازل والفتن والأحداث.. وغيرها من ضروب العقاب الرباني، حتى يزيلوا هم ويغيروا، فيجحدوا النعمة ويعلنوا الكفر والمعاصي ويتظاهروا بالفحش والمنكر والفساد، فتكون النتيجة أن تحل بهم قوارع الدهر، وينزل بهم عذاب الله.


وآفة الحضارات البائدة التي نقرأ عنها في بطون التاريخ، أو تلك التي بقيت أطلالها منثورة هنا وهناك، هي الفساد أو الإفساد في الأرض بجميع أشكاله وأنواعه: فساد العقيدة (الشرك) وفساد العلاقات بين أفراد الأمة (بترك التواد والتعاون، مما يؤدي إلى العداء والتباغض ثم الظلم)، وفساد النفوس (بالغرور والتكبر والعجب)، وهذا هو الفساد الذي ظل القرآن الكريم يكرر الحديث عنه، ويكثر التحذير منه، ويلفت نظر الإنسان إلى مغبات التورط في أسبابه؛ لتفادي السقوط في المصائب التي لابد أن يتحملها الإنسان على نتائجه. فعملية السقوط تبدأ عندما تتغير النفوس وتخلد إلى غرائزها، فترتكب الأخطاء، وتتراكم، لتتحول إلى أمراض اجتماعية، فإذا استفحل الفساد، واستشرى الظلم، وفسق الناس عن أمر ربهم، حق عليهم قول الله تعالى: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} (الإسراء:16- 17).


وقد عبر عن ذلك د. مالك بن نبي بمصطلح «القابلية للاستعمار» التي تؤدي إلى الاستعمار في كتابه «شروط النهضة» (3). وينطبق هذا على قابليات عدة؛ كالقابلية للتخلف، والقابلية للسقوط الحضاري، وهي في حد ذاتها سنة. وهو المعنى نفسه الذي ذهب إليه في قوله: «فإن التخلف الذي يعاني منه المسلمون إنما يتمثل في أنهم تحولوا من الإبداع إلى «التبعية»، وأن أمرهم آل بعد الإنتاج والتصدير إلى الاستيراد والاستهلاك..» (4)، وبتعبير آخر يقول: «إن الأمة الإسلامية تقع اليوم، بكل موازينها الفكرية ومشاعرها الوجدانية، في منطقة «الجاذبية الغربية»، فهي مهما تحركت لا تتقلب إلا ضمن سلطان التأثر بها والالتفاف حولها..» (5).


وسقوط الحضارة كما يؤكد القرآن ناتج أساسا عما تكسبه أيدي الناس: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30). ويأتي الظلم بوصفه أحد أبرز المكاسب السيئة التي ترتكبها الحضارة بأي شكل من الأشكال. ولعل فرعون أحسن نموذج يقدم للتدليل على أثر الظلم في سقوط الحضارات وانتقال الحضارة من بعده إلى بني إسرائيل، يقول الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } (الأعراف:103).


وما ذكر الله تعالى أمة أصيبت بالدمار والهلاك، إلا وقد ذكر بجانب ذلك جريمتها وفسادها في الأرض وانحرافها وفسوقها عن أمر ربها، حتى يعلم الناس أن ما يصيبهم من حسنات وسيئات، أو فرح وقرح أو سعادة وشقاء فبما كسبت أيديهم. وإذا تجاوز الظلم والفساد مستوى الأفراد، الذين لا يشكلون القاعدة أو الظاهرة العامة، إلى مستوى دائرة الأمة، أخذت تلك الأمة في الهبوط من علياء الكرامة والعز إلى درك الذل والهوان حتى تحين ساعة الدمار والسقوط.



التغيير ما بين سنتي التمكين والسقوط



بعد هذا الحديث عن سنن التمكين وسنن السقوط، تظهر بين السنتين الحاجة إلى سنة التغيير الاجتماعي والحضاري؛ إذ من المعلوم أن هذه السنة هي أم السنن في القرآن الكريم، وهي قطب الرحى الذي تدور حوله السنن الاجتماعية الأخرى؛ لأنها الأصل الأصيل للقرآن باعتباره كتاب هداية، فإن الله تعالى إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل لتغيير الأنفس والمجتمعات، وإخراجها من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.


وهذه الآية في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد:11) هي قاعدة التغيير وأساسه، وهي من الكليات القرآنية التي تنبثق عنها فروع وجزئيات كثيرة. فالتغيير هو انتقال وتحول من وضع إلى وضع آخر، ومن حال إلى حال أخرى، ولأنه سنة عامة، فوجب التركيز هنا على الجانب الإيجابي منه، وهو التغيير نحو الأحسن؛ حيث قضى الله تعالى أنه لا يغير واقع مجتمع حتى يبدأ أفراده بتغيير ما بداخل أنفسهم من عقائد ومفاهيم وأفكار وأخلاق، ويصلحوا أحوالهم وأوضاعهم، فيغير الله تعالى حينئذ ما بهم، ويأخذ بأيديهم.


إن الأقوام والمجتمعات لا تتغير إلا بمغير، وهو مغير من داخلها، لا من خارجها، وهو أن تغير ما بأنفسها ليغير الله ما بها، أي تغييره من الشر إلى الخير، ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الغواية إلى الرشد، ومن الكسل إلى العمل، فيغير الله حالها من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة، ومن التشرذم إلى الوحدة، ومن الانفراط إلى التماسك، ومن القنوط إلى الأمل، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الاستضعاف والسقوط إلى التمكين والبناء أو إعادة البناء. يقول د. جودت سعيد: «ومن أكبر الظلم الذي ينزله الإنسان بنفسه أن لا يرى العلاقة التسخيرية الموجودة بين الإنسان والكون والمجتمع (الآفاق والأنفس)، فيهمل نفسه ولا يضعها في المكان الذي يسخر «الآفاق والأنفس» على أساس السنن المودعة فيهما.. إن تغيير ما بالنفس، سواء كان في مجال الوعي أو كان مترسبا منسيا بكل محتوى النفس الظاهر والباطن، إن هذا التغيير من مهمة الإنسان، وكلما كشف سنن التعامل مع النفس كان قادرا على إحداث التغيير، فمن هنا تتأكد الحاجة إلى ضرورة تحصيل علم سنن تغيير ما بالنفس» (6).


إن أساس كل تغيير- وفق سنة الله الاجتماعية التي لا تتبدل ولا تتحول- هو «التغيير النفسي» أو بتعبير القرآن «تغيير ما بالأنفس»؛ فجعل القرآن علاقة عضوية وثيقة العرى بين تغيير ما بداخل النفس وتغيير الواقع الاجتماعي، خلافا لقوانين المادية التاريخية التي تجعل الإنسان كائنا سلبيا لا إرادة له إزاء قوة المادة أو قوة الاقتصاد ووسائل الإنتاج.


وقد تنبه إلى ذلك علامة المسلمين عبدالرحمن بن خلدون في تأصيله لعلم العمران البشري، يقول د. محمد الفاضل بن عاشور: «وقد كان العلامة ولي الدين بن خلدون.. أجدر من طأطأت له الرؤوس اعترافا بدقيق تحليله لهذه المشكلة - يقصد مشكلة الحضارة - وإجلالا لحسن عرضه إياها وحكم بيانه لها؛ لأنه تناولها على منهج دراسي نظري مؤصل مفصل، إذ نظر إلى طبيعة الدولة الإسلامية ومقوماتها، وفكك بين الأصول التي قامت عليها والواقع الذي آلت إليه، ورجع إلى النفسية الفردية للمسلم بين عهد السلف وعهد الخلف يضبط حقيقتها.. فجعل شؤون السياسة والعمران والصناعة والعلم في الدولة الإسلامية تبعا لشأن «الدين»، وجعل الحقيقة الأولى للدين، التي هي «العقيدة» الفردية، أصلا وأساسا لذلك كله، فأخذ يدرس مشكلة فساد الدولة وركود ريح العمران في عصور الإسلام اللاحقة عن عصوره السابقة وانتقاص الصنائع وتلاشي ملكات العلوم واختلال طرائق التعليم في الأمصار الإسلامية لعهده، جاعلا ذلك كله راجعا إلى اختلال الحقيقة الأولى للدين التي هي أساس العمران الناشئ به والدولة القائمة عليه؛ أعني العقيدة الدينية. فرد ذلك كله إلى صورة تكون الفرد تكونا إيمانيا، يرتبط من جهة بالدين الإسلامي في عقيدته، ويسري منه إلى كل ما انبثق عن تلك العقيدة من مظاهر عمرانية وصناعية وفكرية» (7).


فالتغيير الاجتماعي في التصور الإسلامي إذن يحدث من داخل الإنسان وبإرادته ووفق اختياره، والله سبحانه وتعالى يعين الإنسان على إحداث هذا التغيير، فهو من يحدث هذا التغيير الاجتماعي بتغيير الأنماط القيمية والعقائدية والمعيارية، فإذا تغير ذلك انعكس إيجابيا على السلوك الخارجي للفرد والمجتمع، وبالتالي على النظم والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية. يقول الإمام ابن عطية الأندلسي في تفسير آية التغيير: «ومعنى هذه الآية الإخبار بأن الله عزوجل إذا أنعم على قوم نعمة، فإنه بلطفه ورحمته لا يبدأ بتغييرها وتكديرها حتى يجيء ذلك منهم بأن يغيروا حالهم التي تراد وتحسن منهم، فإذا فعلوا ذلك وتلبسوا بالتكسب للمعاصي أو الكفر الذي يوجب عقابهم، غير الله نعمته عليهم بنقمته منهم، ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد " صلى الله عليه وسلم" ، فكفروا وغيروا ما كان يجب أن يكونوا عليه، فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار، وأحل بهم عقوبته» (8).


إن الفرق الأساسي بين الإسلام وغيره من الفلسفات المادية الحديثة، أن الإسلام وضع للإنسان محورا مستندا إلى قوانين كونية واجتماعية، ينطلق منها إلى التفكير والحركة والبناء، بينما الفلسفات المادية حطمت هذا المحور، وهذه الثغرة الخطيرة في الحضارة هي التي قادت تلك الفلسفات المادية إلى هذا الدمار الذي يشكو منه اليوم الكثير من مفكري الغرب وفلاسفته.


الهوامش





1- الفتاوى، ج:3، ص:267، وانظر كذلك: ج:13، ص20.


2- بين النهوض والسقوط، منير شفيق، الناشر للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة:1992، ص:32، وما بعدها.


3- شروط النهضة، مالك بن نبي، ص:145.


4- منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، ص:157.


5- نفسه، ص:166.


6- انظر كتاب جودت سعيد «حتى يغيروا ما بأنفسهم»، مؤسسة دار الفكر، بيروت، ص:166-186.


7- الفاضل بن عاشور، روح الحضارة والثقافة الإسلامية، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وصدر كذلك ضمن سلسلة «في التنوير الإسلامي»، عدد:65.


8- المحرر الوجيز، لابن عطية الأندلسي، ج:3، ص:198.