كان الناس على دين واحد هو دين الإسلام قروناً، حتى ظهر الشرك في قوم نوح،عليه السلام فكان نوح عليه السلام أول من أرسله الله تعالى رسولاً إلى الناس بعد ان صاروا امة واحدة على الشرك فدعاهم نوح عليه السلام إلى عبادة الله وحده، ونبذ الشرك ونبذ عبادة ما أحدثوه من أصنام واوثان.
وما إن بدأ دعوته الى الحق الواضح المبين من توحيد الانبياء والمرسلين عندها انقسموا حزبين وانقسموا فريقين، وتحزب اهل الشرك والتنديد فى مواجهة نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين ولكن سنة الله في خلقه جرت بأن يكون أتباع الرسل هم الضعفاء الفقراء من القوم، ولم يكن ذلك عيباً أبداً، لأن الشرف في التزام الحق واتباعه، وليس الشرف في اتباع الباطل ولو كان ذا مال وبنين؛ وقد قال تعالى عن هذه المواجهة والمفاصلة :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ ، أَن لاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ، فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ
إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرّأْيِ وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود:25/27].
قال ابن كثير رحمه الله :
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبده الأصنام أنه قال لقومه: ﴿إني لكم نذير مبين﴾ أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله، ولهذا قال ﴿أن لا تعبدوا إلا الله﴾ وقوله ﴿إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم﴾ أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذاباً موجعاً شاقاً في الدار الآخرة. ﴿فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ﴾ وهم السادة والكبراء من الكافرين منهم ﴿مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا﴾ أي لست بملك ولكنك بشر، فكيف أوحى إليك من دوننا! ثم ﴿مَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ كالباعة والحاكة وأشباههم، ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا، ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تروٍ منهم ولا فكر ولا نظر، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك، ولهذا قالوا ﴿بَادِيَ الرّأْيِ﴾ أي في أول بادئ الرأي.
﴿وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ يقولون: ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خلق ولا رزق ولا حال لما دخلتم في دينكم هذا ﴿بَلْ نَظُنّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ أي فيما تدعونه لكم من البرِّ والصلاح والعبادة والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها.
هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح، سواء اتبعه الأشراف أو الأرازل، بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأرازل ولو كانوا أغنياء. ثم الواقع غالباً أن من يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته؛ كما قال تعالى:﴿وَكَذَلِ كَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقْتَدُونَ﴾ ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات النبي قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
وقولهم ﴿بَادِيَ الرّأْيِ﴾ ليس بمذمة أو عيب، لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، بل لابد من اتباع الحق، لان رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، جاءوا بأمر جلي واضح الدلائل والحجج و البراهين، لا يحتاج الا الى التسليم والانقياد وقد جاء في الحديث أن رسول الله قال: [ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم] أي ما تردد ولا تروي، لأنه رأى أمراً جلياً واضحاً فبادر إليه وسارع .
وقوله: ﴿وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ قال: هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون، في ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأرذلون، وهم في الآخرة هم الأخسرون أ.هـ.
وهذه حال نوح عليه السلام مع قومه يبينها المولى جل وعلا :
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكّلْتُ فَأَجْمِعُوَاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثُمّ اقْضُوَاْ إِلَيّ وَلاَ تُنظِرُونَ فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:71/72].