قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - وقد سئل عن رجلين تناظرا، فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله؛ فإنَّا لا نقدر أن نَصِل إليه بغير ذلك - فقال رحمه الله: «إنْ أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله؛ فهذا حق؛ فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه، وما أعدَّه لأوليائه من كرامته، وما وعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله تعالى من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها، وأمثال ذلك، إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده...
وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه كالحُجَّاب الذين بين الملك ورعيته؛ بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه؛ فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم؛ فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله؛ كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس؛ لقربهم منهم والناس يسألونهم؛ أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك؛ أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج؛ فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ وهؤلاء مشبِّهون لله؛ شبَّهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أندادًا؛ وفي القرآن من الرَّدِّ على هؤلاء ما لم تتسع له هذه الفتوى؛ فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس يكونون على أحد وجوه ثلاثة:
إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه: ومَن قال: إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بتلك بعضُ الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم؛ فهو كافر؛ بل هو سبحانه يعلم السِّرَّ وأخفى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع ولا تُغَلِّطه المسائل، ولا يتَبَرَّم بإلحاح الملحين.
الوجه الثاني: أن يكون الملك عاجزًا عن تدبير رعيته ودفع أعدائه، إلا بأعوان يعينونه، فلا بد له من أنصار وأعوان؛ لذُلِّه وعجزه؛ والله سبحانه ليس له ظهير ولا وليٌّ من الذُّلِّ؛ قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)﴾ [سبأ: 22].
وقال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)﴾ [الإسراء: 111].
وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه وربه ومليكه؛ فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه؛ بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم، وهم في الحقيقة شركاؤهم في الملك؛ والله تعالى ليس له شريك في الملك.
والوجه الثالث: أن يكون المَلِك ليس مريدًا لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرِّك يُحرِّكه من خارج؛ فإذا خاطب المَلِكَ مَن ينصحه ويعظِّمه؛ بحيث يكون يرجوه ويخافه، تحرَّكت إرادة الملك وهِمَّته في قضاء حوائج رعيَّته؛ إما لِمَا حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لِمَا يحصل من الرغبة أو الرهبة؛ والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها؛ ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده، أو يُعْلِمُه ما لم يكن يعلم، أو مَن يرجوه الرب ويخافه؛ وهذا بخلاف الملوك؛ فإنَّ الشافع عندهم قد يكون له مُلْك، وقد يكون شريكًا لهم في الملك، وقد يكون مظاهرًا لهم، معاونًا لهم على ملكهم؛ وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، والملك يقبل شفاعتهم؛ تارة بحاجته إليهم، وتارة لخوفه منهم، وتارة لجزاء إحسانهم إليه ومكافأتهم ولإنعامهم عليه؛ حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته؛ لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد؛ حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه؛ فإذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه أو أن يسعى في ضرره؛ وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس؛ فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة. والله تعالى: لا يرجو أحدا ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد؛ بل هو الغني»اهـ([1]).
[1])) «مجموع الفتاوى» (1/ 121- 129)، مختصرًا.