سماحة ا​لإسلام.. وأباطيل خصومه



د. محمد محمـــود العطـــــــار




تعيش أمتنا الإسلامية في العصر الحاضر فترة عصيبة من تاريخها، إذ تتقاذفها الأمواج من كل الاتجاهات، وتكاد تعصف بها تيارات العولمة ومؤامرات الأعداء. ومن داخلها تتحرك عناصر خفية تسهم - بوعي أو بغير وعي - في تشويه صورتها والإساءة إلى عقيدتها، الأمر الذي جعل الإعلام الدولي يلصق بالإسلام تهم العنف والإرهاب والدموية والعدوان.


ويتخذ أعداء الإسلام من أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م ذريعة لنشر سمومهم ضد الإسلام والمسلمين. ولسنا هنا في موقف الدفاع عن الإسلام، لأن الإسلام قد أعلن منذ اللحظة الأولى أنه جاء رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107). فالإسلام إذن ليس في حاجة إلى من يدافع عنه، ولكن أبواق الشر صاخبة، وظلمات الباطل طاغية، وأصوات الكراهية والحقد عالية، الأمر الذي تسبب في حجب ضوء الحق عن الوصول إلى العقول والأفهام. ومن هنا راجت في الخارج مفاهيم خاطئة وأفكار مغلوطة عن الإسلام، واستقرت في أذهان الكثيرين في عالمنا المعاصر في نطاق لم يسبق له مثيل، وقد ساعد على ذلك ما شهده عالمنا المعاصر من ثورات وتطورات هائلة في عالم الاتصالات والمعلومات والأقمار الصناعية والقنوات الفضائية والإنترنت. وأصبح دين الرحمة يقترن في أذهان عامة الناس في الغرب بالإرهاب والتطرف والتعصب والانغلاق ورفض الآخر ومعاداة الحضارة والتقدم.


وفي هذا الجو المشحون بالمفاهيم المغلوطة والأفكار الخاطئة عن الإسلام والمسلمين، لم يكن مقبولا ولا معقولا أن نقف جامدين مذهولين من هول الصدمة، عاجزين عن فعل أي شيء لرد الهجمة الشرسة على الإسلام وتاريخه وحضارته، بل كان علينا أن نكشف للقاصي والداني، في داخل العالم الإسلامي وخارجه، عن قيم الإسلام الحقة وتعاليمه السمحة التي استظلت البشرية بظلها ونعمت بأمنها وأمانها قرونا عديدة من عمر الزمن (1).


فقد تسامح الرسول " صلى الله عليه وسلم" مع أعرابي جاء إليه وهو يقسم الغنائم، وقال له: يا محمد، أعطني من هذا فهو ليس مالك ولا مال أبيك. فأعطاه الرسول " صلى الله عليه وسلم" وقال له: «هل أرضيتك يا أعرابي؟». قال: لا، زدني. وكرر ذلك عدة مرات إلى أن قال له الرسول " صلى الله عليه وسلم" :«هل أرضيتك يا أعرابي؟». فما كان من الرجل إلا أن قال: أشهد أن هذه أخلاق الأنبياء.


وتسامح الرسول " صلى الله عليه وسلم" لأن المسألة كانت تتعلق بذاته هو. لكنه لم يتسامح عندما جاءه صحابي من أحب الناس إليه ليشفع في حد من حدود الله، وقال له " صلى الله عليه وسلم" : «يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها».


كما تسامح " صلى الله عليه وسلم" عندها ذهب إلى الطائف واستقبل أسوأ استقبال، وجلس " صلى الله عليه وسلم" تحت بستان وأخذ يدعو الله ويقول: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي».


ونزل سيدنا جبريل يقول له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (أي الجبلين). ولأن تلك الضربات توجهت إلى بدنه وإلى رأسه " صلى الله عليه وسلم" قال: «لا يا أخي يا جبريل لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عزوجل، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». كما تسامح " صلى الله عليه وسلم" عندما كان في غزوة أحد وشج وجهه الشريف، وكان يتلقى الدماء وهي تقطر من وجهه على يده ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟». فيقول له بعض أصحابه: ادع عليهم الله. فيقول: لا. لأن المسألة تتعلق بذاته " صلى الله عليه وسلم" ، ولكنه لم يتسامح عندما رأى بعض أصحابه يتكاسلون عن صلاة الجماعة، وقال في حديثه المشهور: «لقد هممت أن آمر بحطب فيجمع ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أخالفه إلى رجال يتخلفون عن صلاة الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم».


كما لم يتسامح أيضا في صلح الحديبية عندما أرسل سيدنا عثمان "رضي الله عنه" لكي يخبر المشركين أنه لم يأت لحرب وإنما أتى للعمرة، وأشيع بين المسلمين أن المشركين قد قتلوا سيدنا عثمان "رضي الله عنه" . هنا لم يتسامح، بل جمع أصحابه، وقال لهم: «بايعوني على الموت إذا كان المشركون قد اعتدوا على واحد من أصحابي، بايعوني على الموت». ونزل القرآن الكريم بعد أن بايع المسلمون نبيهم " صلى الله عليه وسلم" على الموت، نزل قوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح: 18).


وكان عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" بالشام، وقد حانت الصلاة وهو في كنيسة القيامة، فطلب البطريق من عمر أن يصلي بها، فاعتذر عمر قائلا إنه يخشى أن يصلي بالكنيسة فيدعي المسلمون فيما بعد أنها مسجد لهم، فيأخذوها من النصارى. ولا شك أن تلك سماحة تتخطى الحاضر إلى المستقبل، وتعتمد على بصيرة بعيدة، حيث يريد عمر "رضي الله عنه" ممن يجيئون بعده أن يكونوا سمحاء مثله (2).


إن دين الإسلام هو دين التسامح الذي تذهب معه كل الدعاوى الباطلة التي يحاول أن يلصقها به أعداؤه، معتبرين أن الإسلام دين إرهاب وعنف وتعصب.


إن عالمنا في أشد الحاجة إلى التسامح أكثر من أي وقت مضى؛ فالتعصب والانغلاق من شأنهما تغذية نار الكراهية بين الأمم والشعوب، والانزلاق إلى مزيد من الحروب والنزاعات التي تؤدي إلى التدمير العبثي لكل ما هو جميل في هذا العالم. ونحن جميعا مسؤولون عن كل ما يحدث إذا لم نبذل أقصى الجهود لمنع هذا التدمير العبثي.


الإسلام والتسامح



لقد تميزت الحضارة الإسلامية بشكل خاص عن باقي الحضارات بما تتسم به من معان وقيم صالحة لكل زمان ومكان، لأن مصادرها مستمدة من كتاب الله وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين، وتضم في حدودها غير المسلمين وترتبط مع جميع البشر بعدة روابط، فهي أمة وسط واعتدال وتسامح ترفض المفاهيم المنحرفة كالكراهية والعنف والعنصرية والاعتداء على الغير بأي شكل من الأشكال أو حتى على الحيوان والنبات.


كما ترفض كل ما ينجم عن هذه الأشكال من ظلم إنسان لآخر واضطهاد جماعة لأخرى، وجعلت مقياس التفاضل هو التقوى لقول الله تبارك وتعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13).


وقد قرر الإسلام وحدة الجنس البشري في المنشأ والمصير وفي المحيا والممات، وحث على التعاون والتعارف والعمل الإنساني المشترك، فالناس جميعا متساوون في الحقوق والواجبات.


وقد أمرت الشريعة الإسلامية بالعدل والتسامح والإحسان وإحقاق الحق وإبطال الباطل، وفي ذلك حماية لكرامة الإنسان، وأكدت الآيات القرآنية على ضرورة الحوار، الذي كان سمة ميزت الدعوة الإسلامية، قامت عليها منذ خلق البشر، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة:30-31)، وقال تعالى مؤكدا ضرورة الحوار بين أصحاب وجهات النظر المختلفة وأصحاب الحضارات المختلفة {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46).


وكذلك علم القرآن الكريم أتباعه ضرورة اتباع الأسلوب الهادئ الحكيم، وهو الأسلوب الذي يستميل قلوب المخالفين، ويجعلهم يستمعون إلى الرأي الآخر بقلوب مفتوحة من حوارات ومواقف متعددة وردت في القرآن الكريم بين أنبياء الله تعالى وأقوامهم ومن أرسلوا إليهم، فهذا حوار نبي الله إبراهيم عليه السلام مع النمرود يورده القرآن الكريم بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِي} (البقرة:258).


وعلى ذلك فقد جاءت الشرائع السماوية، التي ختمت بالإسلام، لإصلاح المجتمع الإنساني وتوجيه الأفراد والجماعات وجهة الخير وإبعادهم عن الشرور والآثام، وتوجيه المسلم إلى عبادة الله وحده لا شريك له رحمة بالإنسانية جميعا؛ لأنها وسعت كل شيء، وهي ميزان عدل بين الناس جميعا (3).


إن الإسلام أسس للتسامح أسسا راسخة، وعقد له مواثيق متينة، كان ذلك فيما يتعلق بواجب المسلمين بعضهم نحو بعض من تضامن وتواد أو ما يتعلق بحسن معاملتهم مع من تقضي الأحوال مخالطتهم من أهل الملل الأخرى، وقاعدة كل ذلك وأساسه هو ما ورد في القرآن الكريم وكلام رسول الله " صلى الله عليه وسلم" من أن الاختلاف ضروري في جبلة البشر، وذلك يعود إلى اختلاف المدارك وتفاوت العقول في الاستقامة، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:118-119)، وقوله تعالى: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)} (الحج:67-68).


ولقد دعا الإسلام الناس إلى الوحدة في دين الفطرة، وأراهم محاسنها، ولكنه لم يدع أتباعه إلى مناوأة من أعرض عن الدخول في تلك الوحدة واختار لنفسه الحالة الناقصة (4).


وإذا كان التسامح وحسن المعاملة وعدم التعصب أمورا مطلوبة من المسلمين في معاملتهم مع غير المسلمين، فإنها كذلك مطلوبة من غير المسلمين مع المسلمين، حتى تتم معاملة كل طرف للآخر في دائرة التعاون والتضامن، فلا يسيء أحدهم إلى الآخر، بل يتعاملون بروح الفريق الواحد في الوطن الواحد.


إن روح التسامح تعد اليوم أمرا ضروريا لا غنى عنه أكثر من أي وقت مضى. ويمكن القول إن روح التسامح يجب أن تسبق روح الفهم الصحيح. فالتسامح – الذي يعد شكلا من أشكال الهدنة العقلية – يجعل من السهل الوصول إلى الفهم الصحيح للآخرين (5).


مزاعم باطلة



نعجب أشد العجب إذ نقرأ لبعض أعداء الإسلام اليوم، ولبعض أعدائه بالأمس القريب والبعيد، تهجما عليه، واتهاما له بأنه دين التعصب الماحق للحرية، والإكراه القاضي على الاختيار، والجمود المانع من التطور.


هكذا افترى على الإسلام وعلى أتباعه شرذمة من أعدائه، ولا تزال لهذه الشرذمة أبواق تردد ما سبقوا به، وتزيد عليه أباطيل من عندها، طابعها الافتراء والادعاء والتجاهل والتجني، وبعضها يستجلب الضحك مما يحمل من جهل وسفسطة وهذيان.


وأغلب الظن أننا كنا نتلمس بعض العذر لهؤلاء المتهجمين، لو أنهم ترفعوا في تفكيرهم وفي تعبيرهم، واقتصروا على التنديد بحال المسلمين وضعفهم في الأمس القريب، ولم يتجاوزا إلى الإسلام نفسه من حيث هو عقيدة وتشريع وعبادة وسياسة ومعاملة.


ولكنهم خلطوا خلطا بين الإسلام وأتباعه، وزعموا أن ضعف المسلمين نتيجة لدينهم، متغافلين عما كان للمسلمين من قوة ومجد وحضارة وسلطان أيام استمساكهم بدينهم، واعتزازهم بتعاليمه، ومتجاهلين أن ما نزل بالمسلمين من كوارث الضعف والاستسلام والتخلف والانقسام، إنما كان عاقبة وجزاء وفاقا لانحرافهم عن الصراط المستقيم الذي شرعه الله لهم، فتقاسم أعداؤهم ديارهم، وخدروهم تخديرا ليخربوا أوطانهم باسم الاستعمار، وباسم الاحتلال، وباسم الوصاية، وباسم الانتداب.


بل لقد كان المستعمرون على يقين من أن الإسلام سر قوة المسلمين وعزتهم، فجعلوا معاولهم في حنق وقوة، يهجمون بها على حصون الإسلام ليقوضوها، فيزلزلوا ثقة المسلمين بأنفسهم وبدينهم، لكن طال عليهم الأمد، وأرهقهم الكد والجهد، ولم يبلغوا مما أرادوا، إلا أن تحطمت معاولهم، وضعفت سواعدهم، وأصم دوي الصخور الصلدة آذانهم، وبقي الإسلام كما كان أشم الحصون، أرسخ من الطود، متعاليا في عزة، متأبيا على القوى المجتمعة أن تنال منه، إلا ما ينال الوعل، يظل ينطح الصخرة حتى يضعف ويتحطم قرنه، ويدمى رأسه، فيرتد كسير القرن، حسير النفس، طليح الجسد (6).


ورغم علمهم بأن التسامح كان منهجا إسلاميا عبر التاريخ الطويل للإسلام، ومنه كان النموذج العملي في التسامح الذي أعطاه صلاح الدين الأيوبي للإنسانية، ولا يزال صداه يتردد في التاريخ، حين رفض القائد المسلم المنتصر أن يفعل بالصليبين مثل ما فعلوه بالمسلمين من مذابح راح ضحيتها ما يربو على سبعين ألفا من المسلمين. إن هذا النموذج يعرفه الغرب معرفة تامة، لذا يعرف صلاح الدين لديهم بالفروسية والنبل (7).


وما من شك في أن الإسلام يقتضي منا أن نرد عنه كيد الكائدين، لا بالسباب والأباطيل كما صنع أعداؤه، بل بالدرس، والاحتكام إلى البحث العلمي، والموازنات الكاشفة.


ولاشك أن الإسلام يقتضي منا أيضا أن نكشف عن بعض مزاياه؛ ليستبين للجاهلين من أتباعه بعض ما في دينهم من سمو، وحكمة، وسماحة، وصلاحية للتطبيق، ومرونة في مسايرة الزمن، فيشتد حرصهم على دينهم، ويعظم اعتزازهم بتشريعه، ويتسلحون بسلاح بتار يقضون به على ما يوجه إلى دينهم من أكاذيب وأباطيل (8).


خاتمة



يروى عن الإمام الشافعي قوله: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». لكن أناسا هذه الأيام قد أخذوا يحتكرون النجاة في الآخرة لأنفسهم، ويقولون إنهم الحق وما سواهم الضلال، وهو خلاف ما سارت عليه الأمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت، وأمر بالاعتصام بحبله. فهذا موضع يجب على المؤمن أن يثبت فيه، ويعتصم بحبل الله، فإن السنة مبتغاها على العلم والعدل والاتباع لكتاب الله وسنة رسوله». إن المشكلة التي يطرحها ذلك اللون من التفكير القائم على الإصرار على احتكار الحق والحقيقة والصواب ومصادرة حق الآخرين في الاجتهاد، إنما تكمن في بعدين؛ يتمثل الأول في منهجية الإقصاء الفكري التي تنشر العنف الفكري في المجتمع بما ينطوي عليه ذلك من خلافات وفرقة وتشتت ونزاع بين أبناء الأمة، بينما يتمثل الثاني فيما يمكن أن يؤدي إليه من عنف حقيقي، فالقتل والاحتكام إلى السلاح يبدآن بالخصومة الفكرية والإقصاء المذهبي أو العقائدي، وفي هذا البعد خطورة جمة تابعنا بعض فصولها خلال العقدين الأخيرين باستسهال البعض قتل المسلمين من دون حق.


لا تسأل بعد ذلك عن حجم التشويه الذي يصيب الأمة ودينها حين تعجز عن نشر ثقافة التسامح فيما بين أبنائها. وفي كل الأحوال، فإن القناعة بديمومة الاختلاف لابد منها، لأن قناعة بعض القوم بقدرتهم على صب الأمة في قالبهم بالقوة والعنف الفكري وغير الفكري هي المحطة الأولى للشرذمة، وربما لما هو أسوأ منها (9).


يبقى أن المجتمعات لا يمكن أن تتعايش وتبني نفسها من دون حد معقول من التسامح، وهو الأمر الذي اكتشفه الغرب بعد حروب طويلة طاحنة، أكانت حروبا أهلية أم حروبا بين الدول والقوميات. ومن العبث أن تستعيد الأمة في هذه المرحلة الحرجة كل أشكال المعارك الفقهية والخلافات المذهبية وتنسى العدو الواقف بالباب ويتربص بها الدوائر.


إن استعادة وحدة الأمة الإسلامية هي حجر الأساس في استعادة الدور الريادي للإسلام والمسلمين، وإذا ما بقي الحال على ما نحن فيه فلا أمل، كما أن الاشتغال بهموم الأمة الإسلامية بات اليوم من باب فرض العين على كل مسلم ومسلمة، لأنه يعني استعادة حيوية الجسد الواحد، وإيجابية التعامل مع ما يتوالى علينا من الكوارث والمصائب. ويجب علينا كعرب ومسلمين أن نصطحب دائما في كل أعمالنا أن الله سبحانه وتعالى حافظ لكتابه، وأنه دائما هو الغالب على أمره قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (الحج:40).






الهوامش





1- محمود حمدي زقزوق: تقديم - في التسامح في الحضارة الإسلامية، العدد 110، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1425هـ، ص:5.


2- عبدالفتاح مصطفى غنيمة: «جوهر الإسلام الحضاري بين التيسير والتسامح»، مجلة منبر الإسلام، السنة 63، العدد 5، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1425هـ، ص:58.


3- محمد سيد أحمد علي الدين: «من سمات خيرية الإسلام»، مجلة منبر الإسلام، السنة 65، العدد 10، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، شوال 1427هـ، ص:133.


4- محمد صلاح الدين المستاوي: (مرجع سابق)، ص:89.


5- محمود حمدي زقزوق: الإسلام والغرب، سلسلة قضايا إسلامية، العدد 101، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1424هـ، ص:67.


6- أحمد محمد الحوفي: سماحة الإسلام، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 2001م، ص:3-4.


7- محمود حمدي زقزوق: «الدروس والعبر في فتح مكة»، مجلة منبر الإسلام، السنة 63، العدد 10، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، شوال 1425هـ، ص:44.


8- أحمد محمد الحوفي: مرجع سابق، ص:5.


9- ياسر الزعاترة: «الأقوى أولى التسامح»، مجلة المعرفة، العدد 121، وزارة التربية والتعليم، المملكة العربية السعودية، ربيع الآخر 1426هـ، ص:42-43.