ابن ​فضلان

أحمد أمين

باحث في التاريخ الإسلامي






يمتلئ تاريخنا العربي بآلاف الرحلات العلمية، والثقافية، والسياسية، التي قام بها علماء المسلمين ورحالتهم، منها ما تم نشره وتقديمه للقارئ، وكثير منها تم تجاهلها ونسيانها، وتركها حبيسة بطون الكتب.


ومن تلك الرحلات رحلة السفير أحمد بن فضلان إلى بلاد الصقالبة والبلغار وروسيا والدول الإسكندنافية (الدنمارك، السويد، فنلندا، النرويج، وآيسلندا).


تلك الدول التي أصبحت تدين بالفضل لابن فضلان ورحلته التي وثقها بنفسه بعد عودته إلى بغداد، لتصبح كتاباته تلك هي أول وصف موثق لهذه الدول في تلك الحقبة الزمنية المظلمة في تاريخ هذه الدول.


وقد وصف جغرافيتها، وعادات شعوبها، وحالتها الاجتماعية والسياسية والدينية، لتصبح كتاباته وسجلاته المرجع التاريخي الأول للباحثين في حياة تلك الدول والشعوب.


التعريف بصاحب الرحلة



هو أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد (1)، عاش ما بين النصف الثاني من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع الهجري (التاسع والعاشر الميلادي).


كان من موالي فاتح مصر محمد بن سليمان المنفق الكاتب (2).


كان ابن فضلان رجل دولة ذا عقل راجح وبصيرة ثاقبة، وفهم وعلم يؤهلانه إلى استنباط الأمور وإدراك الحقائق وتفهم عادات وتقاليد الشعوب المختلفة، فضلا عن كونه كاتبا وأديبا.


كان ابن فضلان رجلا تقيا ورعا، شديد الإيمان بالله، عظيم التمسك بدينه وأخلاقه وتقواه، لا يخون الأمانة ولو خانها رفاقه، ولا يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طوال الرسالة، فتراه يتضرع إلى الله أن ينجيه من شر ما يلقاه، ويبرأ إليه من شرور الناس الذين يراهم في طريقه، ويتقزز من القذارة والأوساخ، ويهوله أن يرى النساء إلى جانب الرجال، بل يفزعه أن يراهن في عري مخجل، فيدعوهن إلى التستر، وكم ستر وجهه حين تكشف النساء عن عوراتهن.


وكان يرتجف لسماع أسئلة ملؤها الكفر، فيستغفر الله لسائله حين يقول له: «ألربنا عزوجل امرأة؟».


وغمه أن يسجد أقوام لخشب ينحتونه على أشكال مخزية، أو يتخذوا أربابا كثيرة، فيتلو للحال آية الله الكريمة: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} (الإسراء:43).


وقد غضب ابن فضلان لانتهاك حرمة المسلمة حين ذكر أن ملك الخزر اليهودي يغصب المسلمة على الزواج منه (3).


بداية الرحلة



بدأت الرحلة عندما أرسل ملك الصقالبة (4)، الذي دخل في الإسلام هو وشعبه، إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله (5) عام 921م، يطلب منه أن يرسل إليه من يعلمه أمور الدين الإسلامي ويبني له مسجدا، ويساعده في بناء بعض القلاع؛ لكي تحميه من قبائل اليهود الخزر (6) الذين عاثوا فسادا في أراضيه.


وأراد ملك الصقالبة أيضا أن يعلن دخوله في طاعة الخليفة وانضواءه تحت لواء الخلافة ليستظل بحمايتها وأمنها، وتصبح قوته مهابة، فأرسل الخليفة وفدا مكونا من بعض علماء الدين وبعض رجال الدولة، وجعل على رأسهم أحمد بن فضلان (7)؛ نظرا لمكانته العلمية والثقافية وإحاطته بعلوم الشريعة التي تؤهله أن يكون مشرفا على الفقهاء والمعلمين خلال تلك الرحلة.


وعلى الرغم من اتساع رقعة دولة الصقالبة، وسعة خراجها، وكثرة أموالها، فإن ملكها أرسل إلى الخليفة مستنجدا به، ومعلنا خضوعه للطاعة والولاء، وهذا الأمر يدعو إلى الزهو من جانب بغداد، ويوضح هيبة الخليفة، ويرسم مكانة السلطان في أوروبا آنذاك، خصوصا حين يستنجد به ملك لمملكة واسعة، ويسعى معه إلى حلف ثقافي ديني عسكري، كما نعبر عن ذلك اليوم (8).


وقد تم تشكيل وفد للسفارة تكون من أربعة أشخاص رئيسيين:


1ــــ أحمد بن فضلان (رئيس الوفد).


2ـــ تكين التركي.


3ـــ بارس الصقلابي.


4ــــ سوسن الرسي.


وقد تولى هؤلاء أمر الترجمة؛ لمعرفتهم وانتسابهم إلى تلك البلاد التي سوف يمر بها ابن فضلان، وكان بصحبتهم بعض الفقهاء والمعلمين وبعض من الخدم.


مسار الرحلة



غادرت السفارة بغداد في الحادي عشر من صفر عام 309هـ/21 يونيو 921م، ووصلت إلى بلغار في الثامن عشر من المحرم عام 310هـ/12 مايو 922م؛ وقد مرت في طريقها بهمدان والري ونيسابور ومرو وبخارى، ومر أيضا ببلاد الترك (9)، حيث التقى ابن فضلان في سبتمبر من عام 921م بوزير السامانيين (10) والعالم الجغرافي الشهير الجيهاني (11).


وكانت الرحلة ممتلئة بالمغامرات والمشاق والصعوبات السياسية والانفتاحات على الآخر المختلف ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.


وصلت سفارة ابن فضلان إلى ملك الصقالبة، الذي رحب بهم واحتفى بقدومهم، وقرأ عليه ابن فضلان كتاب الخليفة، وأعلن ملك الصقالبة الخضوع والانضواء تحت لواء الخلافة، وبعد ذلك قام الفقهاء والمعلمون بتعليم الصقالبة بعض آيات القرآن وبعض الأمور الفقهية.


وأنشأ ابن فضلان مسجدا كبيرا للصقالبة، وأشرف على بناء بعض القلاع وتحصينها.


وقد سلم ابن فضلان لملك الصقالبة كمية كبيرة من الأدوية كان قد طلبها ولم تكن معروفة عند الصقالبة ففرحوا بها كثيرا.


مدة الرحلة



استغرقت الرحلة حوالي 4 سنوات، منها أحد عشر شهرا في طريق الذهاب، طاف خلالها ابن فضلان وأعضاء سفارته، فيما كان يسمى في ذلك الوقت ببلاد الشمال (الدول الإسكندنافية)، أو بلاد مقاتلي الفايكنج الشرسين، والذين كانوا عبارة عن قبائل وثنية همجية، تقوم حياتها على السرقة والنهب، فاحتك بهم ابن فضلان، وتحدث عنهم باستفاضة، وأطلق لقلمه العنان ليسجل للتاريخ كل ما تقع عليه عيناه، واصفا حياتهم ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم.


كما تحدث ابن فضلان عن بلاد الروس (روسيا)، ووصفها بدقة بالغة، وتحدث عن حياتهم الاجتماعية وعن دياناتهم المختلفة وعاداتهم الغريبة.


مشاهد من الرحلة



قدم ابن فضلان في رسالته وصفا دقيقا لتلك الدول التي زراها، مبينا طبيعتها الجغرافية والسكانية، واستفاض في الحديث عن طقسها ومناخها، ثم وصف بعد ذلك الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية لتلك الدول.


في ذلك التوقيت، كانت تلك البلاد غارقة في ظلام عميق وجهل مطبق وعادات غريبة؛ لذلك كان ابن فضلان يندهش كثيرا مما يراه، مثل: قتل الجارية ودفنها مع سيدها حتى تخدمه في العالم الآخر.


ووصف ابن فضلان الروس بقوله: «ورأيت الروسية وقد وافوا بتجاراتهم، فنزلوا على نهر إتل، فلم أر أتم أبدانا منهم، كأنهم النخل شقر حمر، ومع كل رجل منهم فأس وسكين وسيف لا يفارقوه أبدا» (12).


كما تكلم عن تقاليد وعادات هذه الشعوب عند موت أحدهم، وكيف يتم حرق جثثهم بعد الموت في مراسيم وطقوس تصاحبها تضحية بشرية.


كما تناول ابن فضلان الحياة الاقتصادية للروس، والتي كانت تقوم على تجارة الرقيق الأبيض، وبيع الفراء التي كانوا يتحصلون عليها من صيدهم الوفير في تلك المناطق.


أما عن حياتهم الدينية، فقد ذكر ابن فضلان عبادتهم للأوثان، وعدم معرفتهم بالأديان السماوية.


أما عن العلوم الطبية لدى تلك الدول، فلم يكونوا يعرفون عنها شيئا، وإذا مرض أحدهم حملوه وحده في خيمة بعيدة، ووضعوا معه طعاما وشرابا حتى يبرأ أو يقتله المرض فيحرقون جثمانه.


وكذلك وصف طرق تناول طعامهم وأنواعه، التي كان يراها ابن فضلان مقززة، فهو القادم من بغداد، عاصمة العالم آنذاك، مدينة العلم، ففي الوقت الذي كانت تنعم فيه بلاد المسلمين بنور العلم، كانت أوروبا غارقة في ظلام الجهل، لذا تأثر كثير ممن التقى بهم ابن فضلان بعلمه ومعرفته وثقافته.


وقد ذكر ابن فضلان في رسالته رؤيته لغرائب وعجائب في تلك الرحلة، فذكر أنه رأى جثمان رجل طوله اثنتا عشرة ذراعا، ورأسه كأكبر ما يكون من القدور، وأنفه أكبر من شبر، وعيناه عظيمتان، وأصابعه كل واحدة شبر.


وقد تحدث ابن فضلان أيضا عن الطقس البارد الذي تشتهر به تلك البلاد، خاصة خوارزم (13)، فقال: «ورأيت نهر جيحون وقد تجمد تماما، وسُمك الجليد تسعة عشر شبرا، وكانت الخيل والبغال والحمير والعجل تجتاز عليه كما تجتاز على الطرق، وهو ثابت لا يتخلخل» (14).


وقال أيضا: «كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت إلى البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنت أدنيها إلى النار».


أثر رحلة ابن فضلان العلمي والثقافي



كان لرحلة ابن فضلان الفضل الكبير في معرفة عادات وتقاليد تلك الشعوب التي مر بها أثناء رحلته، وتعتبر رسالة ابن فضلان هي المرجع الأول للباحثين عن حياة تلك الشعوب في تلك الحقبة.


وقد تناولت كتب الجغرافيا والرحلات رسالة ابن فضلان، التي ذكر فيها رحلته، باهتمام كبير، وأصبح مصدرهم الأول في توثيق حياة تلك الشعوب وعاداتها ووصف جغرافيتها وطبيعتها.


ومن أشهر من نقل عن أحمد بن فضلان ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان»، ونقل عنه أيضا القزويني في كتابه «آثار البلاد وأخبار العباد».


كان لرحلة ابن فضلان صدى واسع في بلاد أوروبا، وتلقفها الباحثون الغربيون بالبحث والتدقيق والمراجعة، وخرجت عشرات الكتب والمراجع التي تتحدث عن ابن فضلان ورحلته العلمية الثقافية، والتي كان لها الفضل الأول في معرفة جوانب الحياة المختلفة، وطبيعة الشعوب في تلك الفترة الحالكة السواد في ذلك الجانب من العالم، وقد ترجمت رحلة ابن فضلان إلى معظم اللغات الأوروبية، وصدر عنها الكثير من التحليلات والمناقشات.


يقول المستشرق فرهن في مقدمة دراسته لابن فضلان: «إن تاريخ روسيا، وما جاورها في العصور القديمة، غير معروف، وما زال غامضا مبهما في أكثر نواحيه، ولم يضئ من جوانبه أحد من الأوروبيين، فإذا كان الغرب قد أغفلوا روسيا، فإن العرب والشرقيين قد تحدثوا عنها، فألقى العرب أنوارا كثيرة على تاريخ الغرب القديم، وأدلوا بمعلومات نافعة، وخاصة عن البلغار وروسيا في عهدها البعيد» (15).


ابن فضلان في عيون الغرب



وفي تناول المصادر الغربية لرحلة ابن فضلان، نسج حولها الكثير من الأساطير والروايات الخيالية، والتي كان ابن فضلان مصدر إلهامها، وهو بطلها، كرواية «آكلي الموتى»، لمايكل كريتشتون (1974م)، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي «الفارس 13»، من بطولة أنطونيو باندايراس، ومعه الممثل المصري عمر الشريف.


ويوضح الفيلم الفارق الكبير بين ابن فضلان القادم من بغداد بعلمه وأدبه وحنكته، وبين قبائل همجية بلا علم ولا أدب.


ويظهر الفيلم أيضا تأثر مقاتلي الفايكنج بابن فضلان وشجاعته وجرأته، وإن كان كريتشتون في روايته حاول كثيرا الانتقاص من قدر ابن فضلان ووصفه بالجبن والخوف، محاولا أن يبخس ابن فضلان حقه ويقلل من شأنه، لكن رسالة ابن فضلان تبرز شجاعته وإقدامه على الدخول في بلاد غريبة يمتاز أهلها بالشراسة والقسوة، حتى بعد أن نصحه أمير خوارزم في بداية الرحلة بعدم التوغل في بلاد الترك؛ خوفا عليه منهم، لكن ابن فضلان رفض وأكمل رحلته بشجاعة وبسالة حتى أدى سفارته وواجبه، وعاد إلى بغداد ليدون تلك الرسالة الخالدة، التي تجلت فيها آيات العظمة والقوة عند المسلمين، مبرزا ذلك الدور القوي لحبل الخلافة، الذي كان بمنزلة الأمن والأمان لمن يلجأ إليها وينضوي تحتها.






الهوامش



(1) الأعلام للزركلي، (1/195- 196).


(2) أحد قادة العباسيين الذي أعاد مصر إلى الخلافة العباسية مرة أخرى بعد أن استقل بها أحمد بن طولون.


(3) رسالة ابن فضلان، تحقيق سامي الدهان، ص:26-27.


(4) الصقالبة: هم سكان شمال القارة الأوروبية، وكانوا يسكنون على أطراف نهر الفولغا، وتقع عاصمتهم بالقرب من «قازان» اليوم في خط يوازي مدينة موسكو.


(5) أحد خلفاء العباسيين (297 - 357هـ / 910 - 968م).


(6) قبائل يهودية كانت تسكن منخفض الفولغا جنوب روسيا.


(7) انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي، (1/322).


(8) رسالة ابن فضلان، تحقيق د. سامي الدهان، ص:23.


(9) ما يعرف اليوم بدول وأقاليم أوزبكستان وأذربيجان وتركمانستان وقرغيزستان وكازاخستان.


(10) سلالة تركية حكمت بلاد ما وراء النهر وأجزاء من فارس وأفغانستان (261هـ/875م - 389هـ/999م).


(11) عالم جغرافي مسلم، عاش في القرن الرابع الهجري، استطاع رسم الكرة الأرضية، وتحديد موقع مكة المكرمة عليها بدقة شديدة.


(12) رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة، الناشر: دار السويدي، أبوظبي، ص:100.


(13) إمبراطورية من العصور الوسطى كانت في وسط آسيا ضمت بخارى وسمرقند ومعظم بلاد فارس في زمن السلاجقة الترك في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وغزاها المغول بقيادة جنكيز خان وقضوا عليها (1218 – 1224).


(14) معجم البلدان لياقوت الحموي، (2/186).


(15) رسالة ابن فضلان، تحقيق سامي الدهان، ص:29.