معمر بن راشد ومرويات البصريين عنه في الصحيحين
الدكتور/ حسن عبة جي
قسم الدراسات الإسلامية ـ كلية التربية
جامعة الملك سعود
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأولين والآخرين ، وإمام الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد :
فهذا بحث بعنوان :" معمر بن راشد ، ومرويات البصريين عنه في الصحيحين " أقدِّمه للباحثين في مجال السنة خاصة ، وإلى طلاب العلم عامة ، معرِّفاً من خلاله بأحد الأئمة الذين حفظوا لنا السنة الشريفة ، ومبرزاً جانب الدِّقَّة والمنهجية عند الإمامين الجليلين البخاري ومسلم من خلال انتقاء أحاديث كتابيهما ، والتزامهما بما هو شرط لقبول بعض الأحاديث ، كأحاديث الإمام معمر بن راشد رحمه الله .
وقد اشتمل البحث على تعريف بالإمام معمر بن راشد ، مسلِّطاً الضوء على عدة جوانب مهمة في حياته : كجهوده الحديثية في مجال الرواية والتصنيف والرحلة ، وإمامته في السنة ، ومشاركته في العلوم الأخرى ، واتِّفاق الأئمة النُّقّاد على تعديله ، وكلامهم في ضبطه مع ذكر أسباب اختلاف الضبط عنده ، إضافة إلى ذكر اسمه ، وذكر عدد من شيوخه وتلاميذه ، وتحقيق سنة ولادته ووفاته .
ولما كانت أحاديث معمر في البصرة قد اشتملت على أغاليط وأوهام بينت سبب ذلك ، وذكرت شرط العلماء لقبول تلك الأحاديث ، وقمت بجمعها من الصحيحين خاصة ؛ للنظر في تحقق شرط القبول فيها ، حفاظاً على مكانة الصحيحين من أن تصل إليهما يد عابث ، فيضعِّف من الكتابين ماشاء ، أو يجترئ عليهما عدو حاقد، فيشكِّك في أصحِّيَّتهما ؛ بحجة اشتمالهما على مثل تلك الأحاديث .
وقسمت الموضوع إلى مبحثين :
المبحث الأول : ترجمة معمر بن راشد .
المبحث الثاني : مرويات البصريين عن معمر في الصحيحين .
وذكرت في الخاتمة خلاصة البحث وأهم النتائج التي توصلت إليها .
هذا ، وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد ، والإخلاص في القول والعمل ، إنه قريب مجيب .
* * *
المبحث الأول : ترجمة معمر بن راشد :
اسمه وكنيته ونسبته :
هو([1])مَعْمَر بن راشد ، أبو عروة بنُ أبي عمرو ، الأَزْديُّ مولاهم([2])، المُهَلَّبي([3])، الحُدّانيُّ([4])، البصري ، نزيل صنعاء اليمن([5]).
- ولادته ، وبداية طلبه للعلم :
ولد معمر سنة خمس أو ست وتسعين ، كذا عند الذهبي([6])، ولعل الراجح سنة ست وتسعين ؛ لما يلي :
1- قال أبو حاتم([7]): " يقال : إن معمراً أكبر من الثوري بسنة " .
فإذا كانت ولادة الثوري سنة سبع وتسعين([8]) ، فولادة معمر سنة ست وتسعين .
2- قال معمر : " خرجت مع الصبيان وأنا غلام إلى جنازة الحسن ، فطلبت العلم سنة مات الحسن([9]) .
ووفاة الحسن سنة عشر ومئة([10])، وكان عمر معمر وقتها أربع عشرة سنة .
قال معمر : " سمعت من قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فما شيء سمعته في تلك السنين إلا وكأنه مكتوب في صدري([11] ) .
فإذا كان عمر معمر سنة عشر ومئة ـ سنة وفاة الحسن ـ أربع عشرة سنة ، فإن ولادته كانت سنة ست وتسعين.
على أن الجمع بين القولين ممكن على تقدير أن الولادة حدثت أواخر سنة خمس وأوائل سنة ست ، فبعضهم ذكر هذا ، وبعضهم ذكر هذا ، وفي هذا الجمع يكون الفرق بين القولين ضئيلاً ، والله أعلم .
وكانت ولادته بالبصرة([12]).
وحُبِّب إليه العلم ، فبدأ حياته جادّاً في الطلب ، حريصاً على الإفادة ، دؤوباً ، حتى تميَّز بين أقرانه ، وتقدَّم على أهل زمانه ، شهد له بذلك الأئمة الكبار .
قال أحمد : " لاتضم أحداً إلى معمر إلا وجدته يتقدمه في الطلب ، كان من أطلب أهل زمانه للعلم([13] ) .
وفي رواية أخرى عنه : " لست تضم إلى معمر أحداً إلا وجدته فوقه([14] ) .
وتوَّج معمر علمه الذي أحبَّه وحرص عليه بالإخلاص وتصحيح النية في طلبه .
قال معمر : " لقد طلبنا هذا الشأن وما لنا فيه نية ، ثم رزقنا الله النية بعد " .
وقال أيضاً : " كان يقال : إن الرجل يطلب العلم لغير الله ، فيأبى عليه العلم حتى يكون لله " .
وعلَّق الذهبي([15])على القولين : " نعم ، يطلبه أولاً والحامل له حب العلم ، وحب إزالة الجهل عنه ، وحب الوظائف ، ونحو ذلك ، ولم يكن عَلِمَ وجوبَ الإخلاص فيه ، ولاصدق النية ، فإذا علم حاسب نفسه ، وخاف من وَبَالِ قَصْدِه ، فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها ، وقد يتوب من نيته الفاسدة ويندم ... " .
ورزق الله معمراً النية الصالحة فانتفع بعلمه ، وظهرت آثاره عليه .
فهو لايقبل عطايا الولاة ، فضلاً عن التودُّد لهم ليحظى بنوالهم ، ولما بعث إليه معن بن زائدة([16])والي اليمن بذهب رَدَّه ، وقال لأهله : " إن علم بهذا غيرنا لم يجتمع رأسي ورأسك أبداً([17] ) .
وهو لا يأكل طعامهم ، ويحترس من لقمة تدخل جوفه من عندهم .
قال يحيى بن معين :" سمعت أنه كان زوج أخت امرأة معمر مع معن بن زائدة ، فأرسلت إليها أختها بدانجوج([18])، فعلم بذلك معمر بعد ما أكل ، فقام فتقيأ([19] ) .
وهو لايأكل من مال النائحة ؛ لحرمة كسبها ، فقد أكل مرة فاكهة من عند أهله ، ثم سأل عن مصدرها ؟ فقيل : هدية من فلانة النوّاحة ، فقام فتقيأ([20]).
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على ورعه وتقواه وغيرهما من الخلال الفاضلة التي تُعَدُّ من ثمرات العلم ، ومن أخلاق حملته .
- رحلاته :
رحل معمر في طلب العلم ، وركب الصَّعْب والذَّلُول ، وتحمل المتاعب والمشاق ، يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجمعه ، ويطلب العلم ، ويفيد من الشيوخ .
قال أحمد([21]): حدثنا عبد الرزاق قال : قال ابن جريج : " إن معمراً شرب من العلم بأَنْقُعٍ([22] ) .
قال ابن الأثير([23]): " أي : إنه ركب في طلب الحديث كل حَزْن ، وكتب من كل وجه " .
وقد رحل معمر إلى جهات عديدة ، منها : الرُّصافة ، والكوفة ، وواسط ، والحجاز ، واليمن ، وغيرها .
قال معمر : " أتيت الزهري بالرُّصافة ، قال : فلم يكن أحد يسأله عن الحديث ، قال : فكان يُلْقي عليَّ([24] ) .
ولازم معمر الزهريَّ ، وأفاد منه علماً وفضلاً ، وازداد به نُبْلاً ونَجَابة ، حتى سُمِّيَ : معمراً الزهري ، منسوباً إليه .
قال حماد بن سلمة : " لما رحل معمر إلى الزهري نَبُلَ ، فكنا نسميه : معمر الزهري([25] ) .
وقال أبو حاتم : " انتهى الإسناد إلى ستة نفر أدركهم معمر وكتب عنهم ، لاأعلم اجتمع لأحد غير معمر ، من الحجاز : الزهري ، وعمرو بن دينار ، ومن الكوفة : أبو إسحاق ، والأعمش ، ومن البصرة : قتادة ، ومن اليمامة : يحيى بن أبي كثير([26] ) .
ولا أدري ، أرحل معمر إلى يحيى بن أبي كثير وهو في اليمامة ، أم رحل إليه وهو في المدينة ؟ فقد ذكروا في ترجمة (يحيى) أنه أقام بالمدينة عشر سنين([27]) .
وقال أحمد : " رحل ـ معمر ـ في الحديث إلى اليمن ، وهو أول من رحل . فقيل له : والشام ؟ فقال : لا، الجزيرة([28] ) .
وقال عَبّاد بن العـوام الواسطي : " قدم علينا معمر وشريك واسط ... ([29] ) .
وقيل لأحمد : عبد الله ـ يعني ابن المبارك ـ سمع من معمر ؟ قال : " سمع منه بمكة ... ([30] ) .
لكن تبقى الرحلة البارزة في حياة معمر تلك التي كانت إلى اليمن .
قال ابن سعد([31]): " كان من أهل البصرة ، فانتقل فنـزل اليمن " .
وقال أحمد : " هو أول من رحل إلى اليمن([32] ) .
ونزل من اليمن في صنعاء ، قال العجلي([33]): " سكن صنعاء ، وتزوج بها " .
وكان زواجه رغبة من أهل صنعاء في إقامته بينهم .
قال العجلي([34]): " لما دخل معمر صنعاء كرهوا أن يخرج من بين أظهرهم ، فقال لهم رجل : قَيِّدوه ، فزوَّجوه " انتهى .
وأقام بين ظهرانيهم عشرين سنة يحدثهم ويفيدهم ، حتى صار له فيهم كبير الأثر .
قال هشام بن يوسف ـ أحد تلاميذه فيها ـ : " أقام معمر عندنا عشرين سنة ، ما رأينا له كتاباً . يعني : أنه كان يحدثهم من حفظه([35] ) .
وتخلَّلَتْ إقامتَه في اليمن رحلةٌ إلى البصرة مسقط رأسه ، وذلك بقصد زيارة أمه .
قال عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي : " كنت بالبصرة أنتظر قدوم أيوب من مكة ، فقدم علينا ومعمرٌ مُزامِلُه ، قدم معمر يزور أمَّه([36] ) .
- شيوخه :
إن مثل معمر بن راشد في كثرة رحلاته ، وشدة حرصه على العلم وسماع الحديث ، وتوافر الشيوخ له ، قد يكون متعذراً استقصاء جميع من سمع منه وأفاد .
وقد ذكر المِزِّيُّ([37])من شيوخه سبعة وخمسين شيخاً ، غالبهم ممن له رواية عنهم في أحد الكتب الستة ، واقتصر الذهبي([38])منهم على أربعة وعشرين شيخاً ، ويبقى عدد كبير من شيوخه ليس لهم ذكر عندهما ، ومن هؤلاء :
آدم بن أبي أوفى ، وإبراهيم بن أبي حُرَّة ، وإبراهيم بن عقبة ، وإسحاق بن راشد ، وإسماعيل بن شَرْوَس، وإسماعيل أبو سعيد ، وبُدَيل بن مَيْسرة العُقَيلي ، وبُرَيد بن أبي مريم السَّلُولي ، وبِشْر بن حرب النَّدَبي ، وبكر بن عبدالله بن شَرْوَس ، وتميم بن حويص الأزدي ، وتميم بن عبد الرحمن ، وجعفر بن محمد بن عَبّاد ، وحفص بن سليمان المِنْقَرِي ، وحرام بن عثمان الأنصاري ، وذَوَّاد - وقيل : داود - العُقَيلي ، والزبير بن عَرَبي ، وزياد بن جيل ، وزياد بن مسلم ، وزيد بن رُفَيع ، وسلمة بن وَهْرام ، وسليمان بن عبدالله بن عُلاثة ، وسيف بن فلان العَنَـزي ، وشَدّاد بن جابان ، وصالح بن مِسْمار ، وعبد الله بن عبدالرحمن ، وعبد الحكيم بن فلان بن يَعْلَى ، وعبد الرحمن بن عقبة ، وعثمان بن يَزْدُويَهْ ، وعثمان الجَزَري ، وعدي بن عبد الحميد ، وعدي بن الفُضَيل ، وعلي بن الحكم البُنَاني ، وعلي بن أبي طلحة ، وكثير بن سُوَيد الجَنَدي ، ومحمد بن زيد العَبْدي ، ومحمد بن السائب الكلبي ، ومحمد بن عمرو بن مِقْسَم ، ومحمد بن كثير المِصِّيصي ، وهارون بن رِئاب ، ويحيى بن شهاب المدني ، ويحيى بن عبدالله بن بَحِير ، ويحيى بن مختار ، ويزيد مولى معمر ، ويزيد الرِّشك ، ويونس بن خَبَّاب .
ذكرهم البخاري في " التاريخ الكبير "، أو ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ، مع النصِّ على أن معمراً روى عنهم .
- تلاميذه :
حرص طلاب العلم على اختلاف طبقاتهم على حديث معمر ، وتسارعوا إلى السماع منه ؛ لعلمهم بأنه لم يبق في زمانه أعلم ولا أجمع للحديث منه .
قال عبد الرزاق : سمعت ابن جريج يقول : " عليكم بهذا الرجل - يعني معمراً - فإنه لم يبق أحد من أهل زمانه أعلم منه([39] ) .
وقال أبو حاتم : " انتهى الإسناد إلى ستة نفر أدركهم معمر وكتب عنهم ، لا أعلم اجتمع لأحد غير معمر([40] ) .
وقد بلغ من حرصهم على السماع منه أن رحلوا إليه .
قال العجلي([41]): " رحل إليه سفيان الثوري([42])، وسمع منه هناك " . يعني : في صنعاء .
وقال السمعاني([43]): " أبو سفيان محمد بن حميد اليشكري المعمري : إنما اشتهر بهذه النسبة لرحلته إلى معمر بن راشد بصنعاء ، وتحصيله كتبه وحديثه " .
وتفاوتت طبقات الآخذين عنه ، فكان منهم من هو في عداد شيوخه ، ومنهم من هو من أقرانه ، وجم غفير من تلاميذه .
فأما من روى عنه وهو في طبقة شيوخه : فأيوب السَّخْتِياني ، وعمرو بن دينار ، وأبو إسحاق السَّبيعي ، وغيرهم .
وأما من روى عنه وهو من أقرانه : فسفيان الثوري ، وشعبة بن الحجاج ، وسعيد بن أبي عَرُوبة ، وغيرهم .
قال ابن أبي عَرُوبة : " وقد نبَّلْنا معمراً " يعني : بروايته عنه([44]).
وأما من روى عنه وهو في طبقة تلاميذه فكثيرون ، منهم : إسماعيل ابن عُلَيَّة ، ورباح بن زيد الصنعاني ، وعبد الواحد بن زياد ، وغيرهم .
ولازمه بعضهم ملازمة طويلة ، وسمع منه حديثاً كثيراً ، مثل : محمد بن حميد اليشكري الذي اشتهر بنسبته إليه .
قال النووي([45]): " قيل له المعمري لأنه رحل إلى معمر بن راشد ، وقيل : لأنه كان يتَّبَّعُ أحاديث معمر " .
ومثل : عبد الرزاق بن همام الصنعاني ـ صاحب المصنَّف ـ فقد رُوي عنه أنه قال : " جالست معمراً مابين الثمان إلى التسع "([46]).
لذا قال أحمد : " إذا اختلف أصحاب معمر في حديث معمر ، فالحديث حديث عبدالرزاق "([47]).
ومنهم من كانت ملازمته يسيرة ، مثل : إبراهيم بن خالد الصنعاني ، سمع من معمر حديثاً واحداً([48]).
وآخر من حدث عنه : محمد بن كثير الصنعاني ، فهو آخر أصحابه موتاً ، بقي إلى آخر سنة ست عشرة ومئتين([49]).
وقد ذكر المِزِّيُّ([50])من الرواة عن معمر ثلاثة وأربعين راوياً ، واقتصر الذهبي([51])منهم على عشرين فقط ، وبقي عدد كبير من الرواة عنه ليس لهم ذكر عندهما ، مثل :
الحسين بن عيسى الحنفي ، وخلف بن أيوب العامري ، وعبد الله بن عمر بن مسلم الجَنَدي ، وعبد الرحمن بن حسن التميمي ، وعثمان بن مطر الشيباني ، وعلي ابن أبي طلحة الهاشمي ، والقاسم بن الحكم الأنصاري ، ومحمد بن حفص الحصني ، ومحمد بن دينار الطّاحي ، ومحمد بن يحيى المَأْرِبي .
ذكرهم البخاري في " التاريخ الكبير " ، أو ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " مع النصِّ على روايتهم عن معمر .
ـ إمامته في علم الحديث :
يُعَدُّ معمر واحداً من اثني عشر إماماً جمعوا الأصول من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانهم .
قال علي بن المَديني : " دار حديث الثقات على ستة ، رجلان من البصرة ، ورجلان من الكوفة ، ورجلان من الحجاز ، فأما اللذان من البصرة : فقتادة ، ويحيى ابن أبي كثير ، وأما اللذان بالكوفة : فأبو إسحاق ، والأعمش ، وأما اللذان بالحجاز : فالزهري ، وعمرو بن دينار ، ثم صار حديث هؤلاء إلى اثني عشر ..." وذكر منهم معمراً([52]).
وقال أبو حاتم : " انتهى الإسناد إلى ستة نفر أدركهم معمر وكتب عنهم ، لاأعلم اجتمع لأحد غير معمر"([53])، والستة هم المذكورون في النص السابق .
فاجتمع له من حديث الأئمة الثقات مالم يجتمع لغيره ، وبلغت محفوظاته مبلغاً كبيراً ، حتى فاق بذلك جميع أقرانه :
قال ابن المديني : " جُمِع لمعمر من الإسناد مالم يُجْمَع لأحد من أصحابه "([54]).
وقال ابن جريج : " عليكم بهذا الرجل ، فإنه لم يبق أحد من أهل زمانه أعلم منه "([55]).
وبلغ مجموع الأحاديث التي سمعها منه عبد الرزاق خاصة عشرة آلاف حديث .
قال مُؤَمَّل بن يِهَاب : قال عبد الرزاق : " كتبت عن معمر عشرة آلاف حديث "([56]).
كما حرص بعض شيوخ معمر على سماع حديثه وكتابته .
قال معمر : " حدثت يحيى بن أبي كثير بأحاديث ، فقال : اكتب حديث كذا وكذا . فقلت : أما تكره أن تكتب العلم ياأبا نصر ؟ فقال : اكتبه لي ، فإن لم تكن كتبت فقد ضيعت . أو قال : عجزت "([57]).
وحديث معمر مروي في الصحيحين ، ومسند أحمد ، والسنن الأربعة ، وغالب دواوين الإسلام .
وقد صنَّف معمر جامعاً يُعَدُّ من أوائل المصنفات الحديثية عامة ، وأول مُصنَّف باليمن على وجه الخصوص .
قال الرَّامَهُرْمُز ِيُّ([58]): " أول من صنَّف وبوَّب ـ فيما أعلم ـ الرَّبِيع بن صُبَيح بالبصرة ، ثم سعيد بن أبي عَروبة بها ، وخالد بن جميل الذي يقال له : العبد ، ومعمر باليمن ... " .
وقال الأُبِّي([59]): " أول تأليف وُضِعَ : كتاب ابن جريج ، وضعه بمكة في الآثار وشيء من التفسير عن عطاء ومجاهد وغيرهما من أصحاب ابن عباس ، ثم كتاب معمر بن راشد اليماني باليمن ، فيه سنن ، ثم الموطأ ، ثم جامع سفيان الثوري ، وجامع سفيان بن عيينة ، في السنن والآثار وشيء من التفسير ، فهذه الخمسة أول شيء وضع في الإسلام " .
و "جامع " معمر برواية عبد الرزاق عنه ، طبعه الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في آخر " المصنف " لعبدالرزاق ، ويبدأ من صفحة (397) من الجزء العاشر ، وينتهي بنهاية الجزء الحادي عشر ، وقد بلغ عدد رواياته بالترقيم المطبوع (1614) ألفاً وستَّ مئةٍ وأربعَ عشرةَ روايةً .
وإضافة لما تقدم : يُعَدُّ معمر من الأئمة النُّقّاد الذين يعتمد قولهم في توثيق الرجال وتجريحهم ، وهو معدود في الطبقة الأولى منهم :
قال الذهبي([60]): " فنشرع الآن بتسمية من كان إذا تكلم في الرجال قُبِل قوله ، ورُجِع إلى نقده ، ونسوق مَن يسَّر الله تعالى منهم على الطبقات والأزمنة ، والله الموفق للسداد بمَنِّه .
الطبقة الأولى : شعبة بن الحجاج العَتَكي ، وأبو عمرو الأوزاعي ، ومعمر ابن راشد ..." إلى آخر من ذكر .
وقال السخاوي([61]): " فلما كان عند آخر عصر التابعين وهو حدود الخمسين ومئة ، تكلم في التوثيق والتضعيف طائفة من الأئمة ... وممن إذا قال في هذا العصر قُبِل قولُه : معمر ... " إلى آخره .
ومن أقواله في الرجال : " عامة علم ابن عباس من ثلاثة : عمر ، وعلي ، وأُبيِّ ابن كعب "([62]).
وقولُه : " كان الزهري في أصحابه مثل الحَكَم بن عُتَيبة في أصحابه ، ينقل حديث بعضهم إلى بعض "([63]).
وقوله : " ما عدَدْتُ عَمْراً([64])عاقلاً قط "([65]).
وقال عبد الرزاق : قلت لمعمر : مالك لم يكثر عن ابن شَرْوَس؟([66]) قال : " كان يُثَبِّج الحديث "([67]).
وقال أيضاً : " ما رأيت أحداً بصنعاء إلا وهو يُثَبِّج الحديث إلا خَلاد بن عبدالرحمن([68] ) .
إلى غير ذلك من الأقوال والأحكام القيِّمة ، الجديرة بالجمع والدراسة .
ـ مشاركته في العلوم الأخرى :
لم يكن لدى معمر الجمودُ الذي يَقْصُره على سماع الحديث وأدائه ، وجمع طرقه ورواياته ، كعامة النَّقَلة والرواة ، فقد كانت له اهتمامات شتى ، ومشاركات متنوعة .
فقد اهتم ـ إضافة إلى جمع الحديث وروايته ـ بفقه الحديث ، ولغته ، وشرح غريبه ، وتوضيح مبهمه ، والاستنباط منه ، وشارك في معظم العلوم المتصلة بالسنة .
قال الذهبي([69]): " معمر بن راشد الإمام الحجة ... أحد الأعلام ، وعالم اليمن " .
وقال أيضاً([70]): " كان من أوعية العلم مع الصدق والتَّحَرِّي والورع والجلالة وحسن التصنيف " انتهى .
ومن الأدلة على سعة علمه ، ومشاركاته المختلفة :
قوله عقب حديث منصور عن أبي وائل قال : اشتكى رجل منا بطنه يقال له : خيثم بن عداء ، فنُعِت له السَّكَر ، فقال له عبدالله بن مسعود : " إن الله لم يكن ليجعل شفاءكم فيما حرم عليكم([71] ) .
قال معمر بعد هذه الرواية : " والسَّكَر يكون من التمر يخلط معه شيء "([72]).
وقال ابن معين([73]): حدثنا عبد الرزاق قال : سألت معمراً عن الخَرْق يكون في الخُفِّ ؟ فقال : " إذا خرج من مواضع الوضوء شيء فلاتمسح عليه ، واخلع " .
ورَوَى معمر([74])حديثَ ابن عمر مرفوعاً : " الشُّؤْم في ثلاثة : في الفرس ، والمرأة ، والدار " .
ثم قال : " وسمعت من يفسر الحديث يقول : شؤم المرأة إذا كانت غير وَلود ، وشؤم الفرس إذا لم يُغْزَ عليه في سبيل الله ، وشؤم الدار جار السوء " .
وأخرج إسحاق بن راهويه([75])بسنده إلى موسى بن أبي شيبة الجَنَدي ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردَّ شهادة رجل في كذبة .
قال معمر : " ما أدري ما تلك الكذبة ، أكذب على النبي ، أو غير ذلك ؟ " .
ولفظه عند ابن عبد البر([76]): " لا أدري أكذب على الله ، أو على رسوله ، أو كذب على أحد من الناس؟" .
وروى ابن الجارود([77])بسنده : إنما العُمْرَى([78])التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : هي لك ولِعَقِبِكَ ... الحديث . ثم قال : قال معمر : وكان الزهري يفتي به .
وروى معمر([79])بسنده إلى مسروق قوله : من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنـزير فلم يأكل ولم يشرب حتى يموت دخل النار . وإلى قتادة قوله : يأكل من الميتة مايبلغه ، ولايتضَلَّع منها .
ثم قال معمر : " ليس في الخمر رخصة " يعني للمضطر .
وأخرج البيهقي([80])من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في غسل واحد .
قال معمر:" ولكن لانشك أنه كان عليه- الصلاة والسلام - يتوضأ بين ذلك " .
ومن توضيحه للمبهمات : قوله عقب حديث عائشة رضي الله عنها : استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث .
قال معمر عقبه : " وبلغني أن الرجل كان عيينة بن حصن " أخرجه إسحاق([81]).
ومن نقده للمتون : قوله في زيادة " النار جبار " على حديث أبي هريرة مرفوعاً : " العجماء جبار .. " : " لاأُراه إلا وهماً " أخرجه البيهقي([82]).
ومن اهتمامه بلغة الحديث : سؤاله أئمة اللغة عن الألفاظ الغريبة الواردة في الأحاديث .
يقول معمر : " قلت لأبي عمرو بن العلاء([83]): ما العُثان؟ فسكت ساعة ، ثم قال : هو الدخان من غير نار([84]) .
ومن ترجيحاته : أنه ذكر اختلاف عائشة وابن عباس في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء ، فعائشة نفتها ، وابن عباس أثبتها ، فقال معمر : " ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس([85]) .
إلى غير ذلك من النقول الدالة على سعة علمه ، وتنوع مشاركاته ، واتساع دائرة معارفه .
- عدالته :
اتفقت كلمة الأئمة النقاد ممن عاصر معمراً ومن جاء بعده على أنه عدل ثقة فاضل مأمون جليل القدر ، وإليك بعض شهادات أئمة الجرح والتعديل :
قال عبدالرزاق : قيل للثوري : ما منعك من الزهري ؟ قال : قلة الدراهم ، وقد كفانا معمر([86]).
وقال الحُميدي : قيل لابن عيينة : أهذا الحديث مما حفظتَ عن معمر ؟ قال : نعم ، رحم الله أبا عروة([87]).
وأخرج النَّسائي([88])حديث لعن المنافقين في القنوت من طريق معمر ، ثم قال : " لم يرو هذا الحديث أحد من الثقات إلا معمر " .
ونقل المِزِّيُّ([89])عن النسائي أيضاً قوله : " معمر بن راشد الثقة المأمون " .
وقال ابن سعد([90]): " كان معمر رجلاً له حلم ومروءة ونبل في نفسه " .
وقال ابن معين : ثقة([91]).
وقال يعقوب بن شيبة : " معمر ثقة ، وصالح التثبُّت عن الزهري([92]) .
وقال عمرو بن علي الفلاس : " معمر من أصدق الناس([93]) .
وقال العجلي : " ثقة رجل صالح " ([94]) .
وقال ابن حبان : " كان فقيهاً متقناً حافظاً ورعاً " ([95]).
وقال ابن حزم([96]): " ثقة مأمون " .
ووثَّقه الدارقطني([97])أيضاً .
وقال الذهبي([98]): " الإمام الحافظ شيخ الإسلام ... كان من أوعية العلم ، مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف " .
وقال أيضاً([99]): " الإمام الحجة ... أحد الأعلام ، وعالم اليمن " .
وقال ابن حجر([100]): " ثقة ثبت فاضل " .
فهذه النقول وغيرها تؤكد عدالة معمر ، وإن كانت بعض ألفاظهم تدل على ماهو أشمل من ذلك ، فهي تتناول إلى جانب تعديله : تثبته وضبطه أيضاً ، لكن الأخير فيه تفصيل ، وقد أفردت له النقطة التالية .
- ضبطه :
وإذ ثبتت عدالة معمر عند الأئمة ، فإن لهم تفصيلاً في ضبطه : مادرجته ؟ ، وهل كان معمر ضابطاً في أوقاته كلها ؟ ، ضابطاً لحديث شيوخه جميعهم ؟ .
فيقال في الجواب : لم يكن الضبط لدى معمر على درجة واحدة يحمل النقاد على حكم واحد فيه إثباتاً أو نفياً ، فقد كان ضبطه متفاوتاً ، فهو ضابط في حين ، غير ضابط في حين آخر ، وضابط في مكان ، غير ضابط في مكان آخر ، وضابط لحديث شيخ ، غير ضابط لحديث شيخ آخر ، مما حمل الأئمة على الكلام في ضبطه ، والنظر في حديثه ، والتمييز بين مايقبل ومايرد منه .
قال عبدالرحمن بن مهدي : " اثنان إذا كتبت حديثهما هكذا رأيت فيه ، وإذا انتقيتهما كانت حساناً : معمر ، وحماد بن سلمة "([101]).
وسئل أحمد([102]): كيف معمر في الحديث ؟ فقال : " ثبت ، إلا أن في بعض حديثه شيئاً " .
وقيل لسفيان : إن معمراً يقول في حديث اجتناب الأسقية : عن عطاء بن يزيد الليثي ؟ فقال : " لم يحفظ " قال : " أخبرني عبيدالله بن عبدالله " ثم قال : " أخطأ معمر " ([103]).
وقال الذهبي([104]): " أحد الأعلام الثقات ، له أوهام معروفة احتملت له في سعة ماأتقن " .
وقال ابن حجر([105])ـ وقد أشار إلى رواية لمعمر خالف فيها إسناداً ومتناً ـ : " وهو خطأ من معمر ، وإذا كان لم يضبط المتن ، فلا يُتَعجَّبُ من كونه لم يضبط الإسناد " .
ويمكن إرجاع اختلاف الضبط عند معمر إلى :
1ـ مايتعلَّق بالسن التي تَلقَّى فيها .
2ـ مايتعلَّق بالشيخ الذي سمع عنه .
3ـ مايتعلَّق بالمكان الذي أدّى فيه .
4ـ مايتعلَّق بأمرٍ طرأ عليه .
5ـ مايتعلَّق بأمرٍ خارجٍ عنه .
أولاً : اختلاف ضبطه بالنظر إلى السن التي تَلقَّى فيها:
لم يكن ضبط معمر للمرويات التي سمعها وهو صغير في قوة ضبطه لما سمعه بعد ماكَبِر واتَّسعَتْ مَدارِكُه ، فقد كان اهتمامه في الصغر منصرفاً إلى جانب من المرويات دون جانب ، غير مدقِّق في الأخبار من حيث صحتُها وسلامةُ أسانيدها .
ويُمَثَّلُ لهذا بمروياته عن قتادة ، فقد سمع معمر منه في أول طلبه وهو صغير.
قال ابن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : قال معمر : " جلست إلى قتادة وأنا صغير ، فلم أحفظ عنه الأسانيد "([106]).
وجاء النصُّ عند الباجي([107])هكذا : " فلم أحفظ عنه إلا الأسانيد " .
وأياً كان هو الصواب فإنه يدل على أن اهتمامه كان منصرفاً إلى جانب واحد ، فلم يجمع في حفظه بين الأسانيد والمتون .
وهذا النصُّ يقيد قوله الآخر : " سمعت من قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فما شيء سمعته في تلك السنين إلا وكأنه مكتوب في صدري "([108])، فيكون معناه : من المتون فقط ، أو من الأسانيد فقط .
يضاف إلى هذا : أنه روى التفسير عن قتادة بأسانيد منقطعة .
قال عبدالرزاق : سمعت مالكاً يقول ـ وسألته عن معمر فقال ـ : إنه لولا ! قلت : لولا ماذا ؟ قال : لولا روايته عن قتادة([109]).
وجاء الخبر عند الذهبي([110])هكذا : قال عبدالرزاق : قال لي مالك : " نعم الرجل كان معمر ، لولا روايته التفسير عن قتادة " .
وعلَّق الذهبي قائلاً : " يظهر على مالك الإمام إعراض عن التفسير لانقطاع أسانيد ذلك ..." .
من أجل هذا ، ضعَّف الأئمة حديث معمر عن قتادة .
قال الدارقطني في " العلل "([111]): " سيء الحفظ لحديث قتادة .. " .
وقدَّموا رواية غيره من الثقات عن قتادة على روايته عنه .
قيل لأبي داود([112]): شيبان([113])أحبُّ إليك في قتادة من معمر ؟ قال : نعم .
ولم يعُدُّوا مخالفة معمر لغيره من الثقات عن قتادة علة قادحة في صحة الخبر .
أخرج البخاري([114])من طريق سعيد بن أبي عَروبة قال : حدثنا قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مابال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ... " الحديث .
وخالف فيه معمر ، فرواه عن قتادة مرسلاً ، أخرجه عبدالرزاق([115])عنه .
قال ابن حجر([116]): " وهي علة غير قادحة ؛ لأن سعيداً أعلم بحديث قتادة من معمر " انتهى .
وليس في الصحيحين من حديث معمر عن قتادة سوى ثلاثة أحاديث أخرجها مسلم([117])في المتابعات ، وحديث رابع ذكره البخاري([118])تعليقاً .
ثانياً : اختلاف ضبطه بالنظر إلى الشيخ الذي سمع عنه :
لم يكن ضبط معمر لحديث شيوخه الذين سمع منهم على حد سواء ، فقد ضبط حديث بعضهم ، ولم يضبط حديث بعضهم الآخر .
فمن شيوخه الذين ضبط حديثهم : الزهري([119])، وهو محمد بن مسلم بن عبيدالله ابن عبدالله بن شهاب ، أبو بكر المدني ، الإمام المشهور ، أخذ عنه خلق كثير ، ومن أبرز تلاميذه الثقات : مالك بن أنس ، وسفيان بن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة ، وصالح بن كَيْسان ، ويونس بن يزيد ، وزياد بن سعد ، ومعمر بن راشد ، وغيرهم .
قال عبد الواحد بن زياد : قلت لمعمر : كيف سمعت من ابن شهاب؟ قال : " كنت مملوكاً لقوم من طاحية([120]) ، فأرسلوني بِبَزٍّ أبيعه ، فقَدِمْتُ المدينة ، فنزلت داراً ، فرأيت شيخاً والناس حوله يعرضون عليه العلم ، فعرضتُ عليه معهم "([121]).
ولمعرفة درجة ضبط معمر لحديث شيخه الزهري ، جمعت أبرز أقوال الأئمة في تحديد الراوي الأثبت في الزهري والأضبط لحديثه .
قال علي بن المديني : كان يحيى ـ القطان ـ يقول : " أصحاب الزهري : مالك ، وسفيان ، ومعمر "([122]). كذا باستخدام واو العطف المقتضية مطلق الجمع .
وفي نقل آخر عنه جاء التعبير بـ " ثم " المقتضية للترتيب بين الثلاثة ، وذلك حينما سأله عثمان بن أبي شيبة : مَن أثبت في الزهري ؟ فقال : " مالك ، ثم ابن عيينة ، ثم معمر "([123]).
وكان عبد الرحمن بن مهدي لايقدم على مالك أحداً([124]).
وقال محمد بن عبدالرحيم صاعقة : سمعت علياً قال : " أثبت الناس في الزهري : سفيان بن عيينة ، وزياد بن سعد ، ثم مالك ، ومعمر ، ويونس من كتابه "([125]).
وقال ابن الجنيد([126]): سئل يحيى بن معين وأنا أسمع : مَن أثبت من روى عن الزهري ؟ فقال : " مالك بن أنس، ثم معمر ، ثم عُقَيل ، ثم يونس ، ثم شعيب والأوزاعي والزُّبَيدي وسفيان بن عيينة ، وكل هؤلاء ثقات " .
وقال عثمان بن سعيد الدارمي([127]): سألت يحيى بن معين قلت : ابن عيينة أحب إليك في الزهري أو معمر ؟ قال : معمر . قلت : معمر أحب إليك أو صالح بن كَيْسان ؟ قال : معمر أحب إليّ . قلت : فمعمر أحب إليك أو يونس ؟ قال : معمر .
وقال أحمد : معمر أثبت من سفيان([128]).
واختلفت الرواية عنه في المفاضلة بين مالك ومعمر ، فمرة قدم مالكاً([129])، ومرة قال : " معمر أحبهم إليَّ وأحسنهم حديثاً وأصح ، وبعده مالك "([130]).
وقال ابن شاهين([131]): " شعيب بن أبي حمزة ليس به بأس ، هو أعلم بالزهري من يونس ، ومعمر " إلى غير ذلك من النقول .
وهذه المفاضلة ـ كما ترى ـ بين فاضل وأفضل ، وضابط وأكثر ضبطاً ، وليست بين فاضل ومفضول ، وضابط وغير ضابط ، فهي لاتفيد إلا عند التعارض ، وذلك بتقديم حديث من ترجح أنه أثبت وأضبط ، مع اتفاقهم جميعاً على أن كل من ذكر هو من أهل الثقة والضبط ، صرَّح بهذا ابن معين فقال : " وكل هؤلاء ثقات "([132]).
فمعمر كمالك وسفيان وغيرهما ممن ذكر ، جميعهم حفاظ أثبات ضابطون لحديث الزهري ، يتراوح الواحد منهم بين الطبقة الأولى والتي تليها ، ولاينزلون بحال عن رتبة الحفاظ الضابطين .
ولعل أفضل السبل في التعامل مع حديثهم عند اختلافهم على الزهري : مانقله النسائي([133])عن عبدالله بن المبارك أنه قال : " الحفاظ عن ابن شهاب ثلاثة : مالك ومعمر وابن عيينة ، فإذا اجتمع اثنان على قول أخذنا به وتركنا قول الآخر " . قال النسائي : " وذكر ابن المبارك هذا الكلام عن أهل الحديث " .
وحديث معمر عن الزهري معتمد عند الشيخين ، وافر في الصحيحين([134]).
ومنهم : عبدالله([135])بن طاوس بن كيسان ، أبو محمد اليماني ، الثقة .
قال معمر : قال لي أيوب ـ السَّخْتِياني ـ : " إن كنتَ راحلاً إلى أحد فارحل إلى ابن طاوس ، وإلا فالزم تجارتك "([136]).
وقال معمر : " ما رأيتُ ابنَ فقيه مثل ابن طاوس "([137]).
ورواية معمر عن ابن طاوس صحيحة .
قال ابن معين : " إذا حدثك معمر عن العراقيين فخالفه ، إلا عن الزهري ، وابن طاوس ؛ فإن حديثه عنهما مستقيم "([138]).
وفي الصحيحين عدد من الأحاديث من رواية معمر عن عبدالله بن طاوس([139]).
ومنهم : هَمّام([140])بن مُنَبِّه ، أبو عقبة اليماني ، الثقة .
قال هشام بن يوسف : " عرض معمر على همّام بن مُنبِّه هذه الأحاديث ، إلا أنه سمع منها نيِّفاً وثلاثين حديثاً([141]) .
قلت : العرض يكون بقراءة الطالب والشيخ يسمع ، والرواية به صحيحة عند جمهور العلماء ، وروى معمر عن شيوخه : الزهري ، وأيوب السَّخْتِياني ، ومنصور ابن المعتمر صحة الرواية به .
قال معمر : " رأيت أيوب يُعرض عليه العلم فيجيزه ، وكان منصور بن المعتمر لايرى بالعرض بأساً " .
وقال عبدالرزاق : " أخبرنا معمر عن منصور وأيوب والزهري أنهم يرون العرض "([142]).
ولعل التنبيه في خبر هشام على أن تحمل معمر عن شيخه همّام كان غالبه عرضاً ، يرجع إلى اختلافهم في الأفضل : العرض أم السماع ؟
فذهب مالك والبخاري ومعظم علماء الحجاز والكوفة وغيرهم إلى المساواة بينهما .
وذهب جمهور علماء المشرق إلى ترجيح السماع .
وذهب أبو حنيفة وابن أبي ذئب وغيرهما إلى ترجيح العرض([143]).
وكأن معمراً يرى رجحان السماع على العرض ، فتراه يعتذر عن وهم وقع له في حديث بأنه تحمَّله عَرْضاً .
ففي حديث الزهري عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال أبو بكر الحميدي : قال سفيان: سمعت معمراً حدثه عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه . فقلت له : يا أباعروة ، إنما هو عن أبي بكر بن عبيد الله . فقال معمر : إن هذا مما عرضنا . ثم صار سفيان بعدُ ربما قال إذا حدث بهذا الحديث : فقال لي معمر : إنا عرضنا([144]).
وعموماً فقد شهد الأئمة بصحة رواية معمر عن همّام ، ووصفوها بالقوة .
قال الذهلي : قلت لابن المديني : محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أحبُّ إليك أم : معمر ، عن همّام ، عن أبي هريرة ؟ قال : " محمد أشهر ، وهذا أقوى "([145]).
وجعل الذهبي الأسانيد الصحيحة على مراتب ، فاحتلَّت رواية معمر عن همّام المرتبة الثانية .
قال الذهبي([146]): " فأعلى مراتب المُجْمَع عليه : مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر . أو : منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله . أو : الزهري ، عن سالم ، عن أبيه . أو : أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة .
ثم بعده : معمر ، عن همّام ، عن أبي هريرة ... " إلى آخر المراتب .
وبهذه الترجمة جملة من الأحاديث التي أخرج الشيخان عدداً منها([147]).
ومن شيوخه الذين لم يضبط حديثهم : ثابت([148])بن أسلم البُنَاني ، أبو محمد البصري ، الثقة .
فقد ذهب الأكثر إلى تضعيف رواية معمر عن ثابت .
قال ابن معين : " معمر عن ثابت ضعيف "([149]).
وفي رواية أخرى عنه : " حديث معمر عن ثابت مضطرب كثير الأوهام "([150]).
وقال ابن المديني : " في أحاديث معمر عن ثابت أحاديث غرائب منكرة " وذكر أنها تشبه أحاديث أبان بن أبي عياش([151]).
وقال العقيلي([152]): " أَنكَرُهُمْ عن ثابت معمرٌ " .
وقال ابن رجب([153]): " ضُعِّف حديثه عن ثابت خاصة " .
لكن سئل أحمد عما روى معمر عن ثابت ؟ فقال : " ماأحسن حديثه ! " ثم قال : " حماد بن سلمة أحبُّ إليَّ ، ليس أحد في ثابت مثل حماد بن سلمة ... "([154]).
وقال مرة أخرى([155]): " معمر حسن الحديث عن ثابت " انتهى .
وهذا محمول على مالم ينكر من رواية معمر عن ثابت ، وفي " صحيح مسلم " حديثان من روايته عنه .
الأول : " لاتقوم الساعة على أحد يقول : الله الله " . تابع معمرٌ فيه حمادَ بن سلمة ، عن ثابت([156]).
والثاني : أن رجلاً خياطاً دعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث . تابع معمرٌ فيه سليمانَ بن المغيرة، عن ثابت ، إضافة إلى أن مسلماً في هذه الرواية قد أخرج الحديث عن "معمر ، عن ثابت البُناني وعاصم الأحول" فروى له مقروناً بآخر([157]).
وعلَّق البخاري([158])بالجزم رواية لمعمر عن ثابت ، تابع فيها معمر حماداً .
وأما عموم روايته عن ثابت فهي ضعيفة ، ومن ذلك :
ما أخرجه عبد الرزاق([159])قال : أخبرنا معمر ، عن ثابت البُناني ، عن أنس قال : خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - على جُلَيْبِيبٍ امرأةً من الأنصار إلى أبيها ... الحديث ، وفي آخره : ثم فزع أهل المدينة ، فركب جليبيب ، فوجدوه قد قتل ، ووجدوا حوله ناساً من المشركين قد قتلهم .
قال ابن رجب([160]): " أخطأ ـ معمر ـ في إسناده ، إنما رواه ثابت ، عن كنانة ابن نعيم ، عن أبي برزة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن ثابت([161]) .
ومنهم : هشام([162])بن عروة بن الزبير الأسدي ، الفقيه ، الثقة ، وعاصم([163])بن بهدلة أبو بكر الكوفي ، المقرئ ، الصدوق ، ورواية معمر عنهما ضعيفة .
قال ابن معين([164]): " حديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي النَّجود وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطرب كثير الأوهام " انتهى .
وفي الصحيحين حديثان مرفوعان من رواية معمر عن هشام بن عروة مقروناً بآخر :
ففي البخاري([165]): حديث " كُسِفَتِ الشمسُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " .
وفي مسلم([166]): حديث " حُجِّي واشتَرِطي أنَّ مَحِلِّي حيث حبَسْتَني " .
أخرجاهما من طريق معمر ، عن الزهري وهشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة .
وعند البخاري من رواية معمر عن هشام أيضاً حديثان موقوفان :
أحدهما : قال عروة : كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف ... الحديث([167]).
والآخر : قال الزبير : ضُربت يوم بدر للمهاجرين بمئة سهم([168]).
وليس في الصحيحين شيء من رواية معمر عن عاصم بن أبي النَّجود أصلاً .
فهذه نماذج من شيوخ معمر ، يقاس من لم يذكر منهم على من ذكر ، وقد علم بما تقدم تفاوت ضبطه لما رواه عنهم .
يتبع