ابن بطال ومعالم منهجه في شرحه صحيح البخاري
د. محمد زهير عبد الله المحمد ([*])
ملخص البحث:
كثرت الدراسات حول صحيح البخاري شرحا ودراسة، وتفنن علماء الحديث وغيرهم في استخراج كنوزه، وبياني مسالكه وفوائده، وتعددت مناهجهم في الشرح.
فمنهم: من تناوله بالتفصيلي، ومنهم من ركز على جانب معين: من تفسير تراجمه، وبياني مناسبتها للأحاديث الواردة تحتها، واستنباط الفوائد والنكات الفقهية، والحديثية، والتربوية، والأدبية، واللغوية.
وجاءت هذه الدراسة لتبرز شرحا من الشروح المتقدمة للجامع الصحيح هو شرح ابن بطال القرطبي، من علماء المالكية المشهود لهم بالمكانة العالية في المذهب، والعناية التامة بالحديث كما ظهر من ترجمته. وكتابة هذا نهل منه كل من جاء بعده من الشراح، فتتبعوا أقواله، واقتبسوا منها، وكان أبرز المتأثرين به: ابن حجر في " فتح الباري "، إذ أكثر من النقول عنه، مؤيداً، أو مخالفا.
وامتاز هذا الشرح بأن غلب عليه الشرح الفقهي، ولكنه مع ذلك اشتمل على كثير من الفوائد الحديثية، واللغوية، والزهدية. فبينت الدراسة أهم معالم منهجه في الشرح، والتي تتلخص في النقاط الآتية:
- موضوعيتة وحياديته: فمع أنه من كبار المالكية يعرض جميع المذاهب والأقوال الفقهية في المسألة الواحدة ويذكر أدلتهم، ويناقشها بدوني تعصب، ويدور مع الدليل أينما دار، مما دفعه منهجه هذا لمخالفة رأي المالكية في عدد من المسائل.
- تعرضه لمنهج البخاري في اختيار أحاديثه وترتيبها: حيث تعقب البخاري في عدد من المواضع، واستشكل صنيعه فيها، مما دفع بعض العلماء وفي مقدمتهم ابن حجر للرد عليه.
- برز في منهج ابن بطال أنه كثيراً ما كان يتتبع تراجم البخاري، ويبين مقصود البخاري من إيرادها، ومدى مناسبتها للأحاديث الواردة تحتها، تارة بالموافقة وتارة بالمخالفة.
- ومن القضايا البارزة في هذا الشرح: أن ابن بطال غني عناية تامة بذكر الأحاديث الموصوفة بالاختلاف أو التعارض الظاهري، فكان له مسالك في دفعه، مع بروز شخصيته في النقد، ولذا يعد هذا الشرح من المراجع المهمة في هذا الباب.
- صرف ابن بطال قسطا وافراً من اهتمامه لبياني غريب الحديث، واعتمد في ذلك على مصادر مشهورة في اللغة والغريب.
ويمكن القول: إن شرح ابن بطال من الشروح المؤسسة لشرح صحيح البخاري، وقد حوى مادة غنية في معارف مختلفة، لا يستغني عنها كل راغب في فهم صحيح البخاري.
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير العباد محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الأطهار الغر الميامين، وبعد،
عني العلماء قديما وحديثا بدراسة الجامع الصحيح للبخاري، وذلك لمكانة الكتاب وصاحبه، فالكتاب موضوعه: صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه من النكات الجليلة، والدقائق الفقهية، وحسن الترتيب، مما تحار منه العقول. وصاحبه: ناقد كبير، وموسوعي متفنن، ذاع ذكره بين العامة والخاصة. ولذا أقبلوا عليه بالحفظ، والشرح، والاختصار، والدراسة. وكان من أقدم الجهود التي عنيت بشرح صحيح البخاري: جهود عالم مغربي، من كبار المالكية وهو ابن بطال القرطبي.
أهمية البحث، والأسباب الباعثة عليه:
1 - مما يبرز قيمة البحث: أن شرح ابن بطال من الشروح المتقدمة لصحيح البخاري، نهل منه كل من جاء بعده، فتتبعوا أقواله، واقتبسوا منها، تارة بالموافقة، وتارة أخرى بالمخالفة.
2 - امتاز كتاب ابن بطال بالشرح الفقهي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يجعل إبراز هذا المنهج من الأهمية بمكان في ضوء تعدد المناهج في شرح صحيح البخاري.
3 - حفظ شرح ابن بطال كثيرا من المصادر المتنوعة والمتقدمة التي لم تصلنا من خلال النقول عنها، فجاءت هذه الدراسة تعرف بتلك المصادر.
4 - بيان مدى دقة ما ادعاه الإمام الكرماني من أن غالب شرح ابن بطال في فقه الإمام مالك من غير تعرض لما هو الكتاب مصنوع له.
5 - إبراز معالم منهج ابن بطال فيما احتواه شرحه من فوائد كثيرة في اللغة، والحديث، والتفسير، والفقه، والمواعظ، ليظهر ما امتاز به هذا الشرح عن غيره من الشروح.
6 - بيان المنهج النقدي عند ابن بطال من خلال أحكامه على الأحاديث.
7 - لم أقف على من اعتنى بدراسة هذا الشرح غير ما جاء في مقدمة محقق الكتاب ، حيث ذكر ما امتاز به هذا الشرح باختصار - ورقة واحدة -، وعرف بابن بطال باختصار، وذكر منهجه - في ورقتين – باختصار شديد، دون تمثيل ولا نقد، ودون استقراء للمنهج، إذ القصد منه إخراج الكتاب. وهذا مما دفعني إلى هذه الدراسة([1]).
منهج البحث:
1- استقراء كتاب ابن بطال للوقوف على محتوى الكتاب، وطبيعة منهجه في الشرح.
2- وصف منهج ابن بطال في شرحه وصفا تحليليا، واستنباط أهم معالم منهجه في الشرح، وما امتاز به عن غيره.
3- تتبع المصادر التي استفاد منها ابن بطال في شرحه، والتعريف بها.
4- تتبع أهم الشروح التي تأثرت بشرح ابن بطال، وبخاصة ابن حجر في الفتح، للوقوف على أهم معالم هذا التأثر.
5- استنباط أهم معالم المنهج النقدي عند ابن بطال من خلال أحكامه على الأحاديث، واختيار أمثلة توضح ذلك.
خطة البحث:
اشتملت خطة البحث على مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة:
المقدمة: وفيها بيان أهمية الدراسة، والدراسات السابقة، ومنهج البحث.
المبحث الأول: التعريف بابن بطال وكتابه واشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: التعريف بابن بطال، من حيث: الاسم، والنسب، والكنية، والشهرة، ومكانته العلمية، ومذهبه الفقهي، وشيوخه، وتلاميذه، ومصنفاته.
والمطلب الثاني: التعريف بكتاب ابن بطال، من حيث: اسمه، وأهميته، وميزاته على باقي الشروح، وأهم مصادر ابن بطال في شرحه.
المبحث الثاني: معالم منهج ابن بطال في كتابه. واشتمل على ستة مطالب:
المطلب الأول: الاحتكام إلى الدليل، وعدم التعصب.
المطلب الثاني: رأيه في اختيار البخاري أحاديث صحيحه، وترتيبها.
المطلب الثالث: منهجه في الكلام على تراجم البخاري.
المطلب الرابع: موقفه من القياس، والظاهرية.
المطلب الخامس: منهجه في الأحاديث المتعارضة.
المطلب السادس: منهجه في اللغة والتفسير.
المبحث الثالث: تعقبات ابن حجر على شرح ابن بطال وذكرت فيه أهم أنواع تعقبات ابن حجر عليه.
الخاتمة: واشتملت على أهم نتائج البحث، وبعض التوصيات.
والله أسال أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني، وما كان فيه من صواب فمنه سبحانه، وما كان فيه من خطا فمني، واستغفره سبحانه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المبحث الأو ل
التعريف بابن بطال وكتابه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التعريف بابن بطال.
المطلب الثاني: التعريف بالكتاب.
المطلب الأول
التعريف بابن بطال
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته وشهرته([2]): هو العلامة علي بن خلف بن بطال القرطبي، البلنسي([3])، المغربي، المالكي، ويعرف بابن اللجام([4])، أبو الحسن. وشهرته: ابن بطال.
ثانياً: مكانته العلمية: لم أظفر في ترجمته على ما يتعلق بتفاصيل حياته، أو نشأته، وطلبه للعلم، لكن أفاد ابن بشكوال أنه كان من أهل العلم والمعرفة والفهم، وأنه مليح الخط، حسن الضبط، وأفاد من ترجم له أنه غني بالحديث عناية تامة، وأتقن ما قيد منه([5]).
وذكر القاضي عياض أنه من كبار المالكية، وكان نبيلاً، جليلاً، متصرفاً. وأنه استقضي بحصن (لورقة)([6]).
ثالثاً: مذهبه الفقهي: يعد ابن بطال من أعلام فقهاء المالكية الكبار كما ذكر القاضي عياض([7]). وقد ذكر الكرماني في مقدمة شرحه للبخاري أن غالب شرح ابن بطال في فقه الإمام مالك من غير تعرض لما هو الكتاب مصنوع له([8]).
ولا يوافق الكرماني على ما ذهب إليه، إذ يجد المتأمل في الكتاب أنه احتوى على مسائل كثيرة غير ما ذكر الكرماني كما سيظهر من البحث.
والحق أن ابن بطال نصر مذهب مالك - رحمه الله تعالى - وأكثر من النقول عنه وعن أصحابه، واستدل لأقوالهم بكل ما أوتي من حجة، لكن ليس تعصبا، وإنما كان حسب ظنه ينصر السنة والدليل، وكان يعقب على آراء الفقهاء كثيراً، ويبين أن لا حجة لأحد مع السنة، وأنه لا قياس معها، فلا يميل إلى رأي معين إلا بعد مناقشته واستنفاد الأدلة، وان كان في الأغلب يميل إلى رأي المالكية، لميله إلى أدلتهم وحججهم.
ونجده يعتمد على مصادر الفقه المالكي في مناقشاته واستدلالاته، مثل: المدونة لابن القاسم، والعتبية أو المستخرجة، التي صنفها محمد العتبى القرطبي (توفي 255 هـ). وهذا الكتاب كان محل ثقة الأندلسيين والأفريقيين، وهو مستخرج من الواضحة التي صنفها عبد الملك بن حبيب (توفي 238 هـ). وهو الأصل الثاني بعد المدونة في الفقه المالكي. ورأيت ابن بطال يعتمد عليها اعتماداً كثيرا، إذ أنها أقرب المؤلفات من حياة مالك، وفيها مسائله خارج الموطأ([9]).
رابعا : شيوخه وتلاميذه:
* شيوخه:
1- الحافظ الإمام المقرئ أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي الطلمنكي عالم أهل قرطبة. كان رأسا في علم القرآن: حروفه، وإعرابه، وناسخه، ومنسوخه، وأحكامه، ومعانيه وكان ذا عناية تامة بالحديث، ومعرفة الرجال، حافظا للسنن، إماما، عارفا بأصول الديانة، عالي الإسناد، ذا هدي وسمت واستقامة. توفي سنة 429 هـ([10]).
2- عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن أبو المطرف الأنصاري القنازعي القرطبي. كان عالما، عاملاً، فقيها، حافظا، عالما بالتفسير والأحكام، بصيراً بالحديث، حافظا للرأي، ورعا، زاهداً، متقشفا، قانعا باليسير، مجاب الدعوة، وله معرفة باللغة والأدب، وصنف شرح الموطأ، ومختصر تفسير القرآن لابن سلام، وكتابا في الشروط، ومات في رجب سنة ثلاث عشرة وأربعمائة([11]).
3- يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث، قاضي القضاة بقرطبة، أبو الوليد ابن الصفار، شيخ الأندلس في عصره، ومسندها، وعالمها. كان من أهل العلم بالحديث والفقه. كثير الرواية، وافر الحظ من العربية واللغة، قائلاً للشعر النفيس، بليغا في خطبه، كثير الخشوع فيها، مع الزهد والفضل والقنوع باليسير. صنف كتاب المنقطعين إلى الله، وكتاب التسلي عن الدنيا، وكتاب فضل المتهجدين، وكتاب التسبب والتيسير، وكتاب محبة الله والابتهاج بها، وكتاب فضل المستصرخين بالله عند نزول البلاء. ودفن يوم الجمعة وقت العصر، لليلتين بقيتا من رجب سنة 429 هـ([12]).
4- عبد الله بن محمد بن ربيع بن صالح بن بنوش التميمي: من أهل قرطبة يكنى: أبا محمد. كان من أهل العلم والحديث، مع العدالة، لقي جماعة من الشيوخ الرواة، وكتب عنهم، وسمع منهم. وكان كثير الرواية، مقيداً لها، عالي الدرجة فيها. وتوفي يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأول سنة خمس عشرة وأربع مئة([13]).
5- عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر: الحافظ أبو الوليد بن الفرضي القرطبي. مصنف "تاريخ الأندلس"، و" المؤتلف والمختلف "، و"مشتبه النسب". لم ير متله بقرطبة في سعة الرواية، وحفظ الحديث، ومعرفة الرجال، والافتتان في العلوم والأدب، وكان حسن البلاغة والخط. كان ممن قتل يوم فتح قرطبة، وذلك يوم الإثنين لست خلون من شوال سنة ثلاث وأربع مئة([14]).
6- عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني الوهراني ويعرف: بابن الخراز. من أهل بجانه يكنى: أبا القاسم، كان رجلاً صالحا، صاحب سنة. وقد قرأ عليه ابن عبد البر "موطأ ابن القاسم" بروايته عن تميم بن محمد التميمي عن عيسى بن مسكين عن سحنون عنه.
وقد روى "صحيح البخاري" عن إبراهيم بن أحمد البلخي المستملي، وكان يرد قرطبة كل عام إلى أن وقعت الفتنة، فاذا سكنت الحال سكن داره ببجاية، وإن خاف صار بالمرية، فكان على ذلك متنقلاً إلى أن توفي رحمه الله في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة وأربع مئة بالمرية([15]).
7- أحمد بن محمد بن عفيف بن عبد الله الأموي: من أهل قرطبة، يكنى: أبا عمر. بدأ بالسماع في آخر عام تسعة وخمسين وثلاث مائة، واستوسع في الرواية، والجمع، والتقييد، والإكثار من طلب العلم وعني بالفقه، وعقد الوثائق والشروط فحذقها. ومال إلى الزهد، ومطالعة الأثر، والوعظ. وكان يقصده أهل الصلاح والتوبة والإنابة، ويلوذون به، فيعظهم ويذكرهم ويخوفهم العقاب، ويدلهم على الخير. وجمع كتابا حسنا في آداب المعلمين خمسة أجزاء. وصنف في أخبار القضاة والفقهاء بقرطبة كتابا مختصرا. توفى ضحوة يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت لربيع الآخر سنة عشرين وأربعمائة([16]).
8- المهلب بن أبي صفرة الأسدي الأندلسي أبو القاسم، له شرح على صحيح البخاري. توفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة([17]).
9- محمد بن الحسن بن عبد الرحمن بن عبد الوارث الرازي الخراساني، يكنى: أبا بكر. قال الحميدي: دخل الأندلس وسمعنا منه، ومات هنالك غرقا فيما بلغني بعد الخمسين وأربع مائة([18]).
* تلاميذه: قال ابن بشكوال: "حدث عنه جماعة من العلماء" ([19]). وقال القاضي عياض: "روى عنه أبو داود المقرئ، وعبد الرحمن بن بشر من مدينة سالم"([20]).
خامساً : مصنفاته:
1- شرح صحيح البخاري: وسيأتي التعريف به.
2- كتاب الاعتصام في الحديث([21]).
3- كتاب في الزهد والرقائق([22]).
سادساً: وفاته: توفي - رحمه الله - في ليلة الأربعاء، وصلى عليه عند صلاة الظهر، آخر يوم في صفر سنة تسع وأربعين وأربعمائة([23]).
المطلب الثاني
التعريف بالكتاب
أولاً: اسمه: اتفق المترجمون على أن له شرحا على صحيح البخاري، دون ذكر اسم هذا الشرح، ولعل ابن بطال لم يجعل له اسما - والله أعلم - لا سيما أن المطبوع من الشرح ليس فيه مقدمة لابن بطال، والمحقق اعتمد على عدة نسخ، لكن ليس فيها مقدمة للشارح، كما يظهر من الورقة الأولى المصورة من الشرح، حيث كان أول الشرح هو باب بدء الوحي، وهو أول صحيح البخاري.
ثانياً: أهمية الكتاب وميزاته على باقي الشروح([24]):
لشرح ابن بطال ميزات غير كونه شرحا للبخاري، تظهر في النقاط الآتية:
1- يعد شرح ابن بطال من أقدم الشروح - التي طبعت - على البخاري. فمن أقدمها:
كتاب الخطابي (ت 386 هـ) والمسمى "أعلام السنن"([25])، وجاء بعده شرح أبي جعفر الداودي (ت 402 هـ)، ثم شرح المهلب بن أبي صفرة (ت 435 هـ)، ثم شرح ابن بطال (ت 449 هـ)([26]). ولم يطبع منها غير كتاب الخطابي ثم ابن بطال.
2- يعد هذا الكتاب شرحا فقهيا بالدرجة الأولى مقارنة بما اشتمل عليه من قضايا مختلفة في اللغة، والحديث، والتفسير. وأحيانا يترك حديثا أو بابا دون شرح، بحجة أن لا فقه فيه([27]). وهذا المنهج الذي اتبعه ابن بطال في الشرح دفع بعض العلماء إلى توجيه النقد إليه، لإغفاله غرض البخاري من ذكر الباب، ومعهم الحق في ذلك، لكنه لا يقلل من قيمة الكتاب، إذ أن مقصده التركيز على فقه الحديث، ومع ذلك لم يهمل المسائل الأخرى من لغة الحديث وبيانه، والتفسير... كما سيظهر –إن شاء الله - في أثناء هذا البحث.
3- ضم الكتاب عدداً كبيراً من الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولذا يمكن عده من المظان المهمة لذلك.
ومن الأمثلة على ذلك قوله: "روى مجاهد عن ابن عمر قال: اجتنبوا من الثياب ما خالطه حرير. قال أبو عمرو الشيباني: رأى علي بن أبي طالب على رجل جبة طيالسة قد جعل على صدره ديباجا فقال: ما هذا النتن تحت لحييك؟ قال: لا تراه على بعدها. وعن أبي هريرة أنه رأى على رجلي لبنة حرير في قميصه فقال: لو كانت برصا لكان خيراً له. وعن عمرو بن مرة قال: رأى حذيفة على رجل طيلسان فيه أزرار ديباج، فقال: تتقلد قلائد الشيطان في عنقك. وعن الحسن البصري أنه كان يكره قليل الحرير وكثيره للرجال والنساء حتى الأعلام في الثياب ... إلخ"([28]).
وفي مسألة تفريق الوضوء والغسل قال: "اختلف العلماء في تفريق الوضوء والغسل فممن أجاز ذلك: ابن عمر، وابن المسيب، وعطاء، وطاووس، والنخعي، والحسن، والثوري، وأبو حنيفة". وممن لم يجز تفرقته: عمر بن الخطاب، وهو قول قتادة، وربيعة، والأوزاعي .."([29]).
4- يعد الكتاب مصدراً مهما من مصادر الفقه المقارن، إذ يذكر مذاهب الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة، مع التركيز على الفقه المالكي، حيث يزخر بكثرة النقول عن الإمام مالك، والرواة عنه، وعن أصحابه، ويذكر أدلتهم، وينافح عنها بكل ما أوتي من حجة من غير تعصب، ويدور مع الدليل أينما دار، كما تم بيانه في أثناء الحديث عن مذهبه الفقهي.
ومن الأمثلة على ذلك: مسألة الوضوء مما غيرت النار. قال ابن بطال: "واختلف السلف - قديما - في هذه المسألة: فذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من كل ما غيرت النار وهم: عائشة، وأم حبيبة زوجا النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، واختلف في ذلك عن ابن عمر، وأبي طلحة، وأنس، وبه قال خارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابن المنكدر، وابن شهاب، وعمر بن عبد العزيز، وهؤلاء كلهم مدنيون. وقال به من أهل العراق: أبو قلابة، والحسن البصري ... الخ. وقال آخرون: لا يتوضأ مما مست النار، وممن قال بذلك: أبو بكر الصديق ... الخ. وهو قول مالك، والثوري في أهل الكوفة، والأوزاعي في أهل الشام، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور. واحتجوا بحديث الباب ...الخ. ثم ذكر حججهم، ورجح أن آخر الأمرين منه عليه السلام ترك الوضوء مما غيرت النار، وأنه ناسخ لما قبله وذكر أدلته على ذلك([30]).
5- من أهم ما امتاز به الكتاب ذكره لفوائد الأحاديث من أحكام فقهية ولغوية وتربوية وهذا ظاهر بجلاء في كثير من الأبواب. ونجده ذكر الفوائد إما متفرقة في شرح الباب، أو مجتمعة، في أول شرحه للحديث أو خاتمته، مستعملاً عبارة "فيه"، أو "فيه من الفقه". وقد لحظ ابن حجر هذه الميزة فكثر من النقل عنه. ومما يشهد لذلك قول ابن بطال في باب: شهود الحائض العيدين: "وفيه: أن الحائض لا تقرب المسجد، وتقرب غيره من المواضع التي ليست بمساجد محظرة. وفيه: جواز استعارة الثياب، للخروج إلى الطاعات. وفيه: جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد، لضرورة الخروج إلى طاعة الله. وفيه: غزو النساء المتجالات([31]) ومداواتهن الجرحى، وان كن غير محارم منهم وأما إن كن غير متجالات فيعالجن الجرحى وإن كن غير ذي محرم منهن بحائل بينهن وبينهم، أو يأمرن غيرهن بوضع الدواء عليهم. وفيه قبول خبر المرأة ...الخ"([32]).
ومن أمثلة نقول ابن حجر عنه من الفوائد: ما جاء في باب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه، قال ابن حجر: "قال ابن بطال: فيه: أنه لا ينبغي لأحد أن يدخل بيت غيره إلا بأذنه، وأن المأذون له لا يطيل الجلوس بعد تمام ما أذن له فيه، لئلا يؤذي أصحاب المنزل، ويمنعهم من التصرف في حوائجهم. وفيه: أن من فعل ذلك حتى تضرر به صاحب المنزل أن لصاحب المنزل أن يظهر التثاقل به، وأن يقوم بغير إذن حتى يتفطن له. وأن صاحب المنزل إذا خرج من منزله لم يكن للمأذون له في الدخول أن يقيم إلا بإذن جديد([33]). وهذا نقله ابن حجر من كتاب ابن بطال مع بعض التصرف بالألفاظ([34]).
6- يظهر هذا الشرح جانبا مهما غير موجود بوضوح في بقية الشروح على البخاري، وهو الجانب الزهدي. إذ ضم الكتاب في ثناياه كثيراً من أقوال الزهد والوعظ والحكم، من أقواله، ومن أقوال غيره من العلماء، وبخاصة في كتاب الرقاق من الصحيح. وابن بطال متميز في هذا المجال، فكما سبق في ذكر مصنفاته أنه أفرد كتابا في الزهد والرقائق.
فمن أقواله: ما ذكره في باب قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (فاطر: 5). فقد اكتفى فيه أن قال: "نهى الله عن الاغترار بالحياة الدنيا وزخرفها الفاني، وعن الاغترار بالشيطان، وبين لنا تعالى عداوته لنا، لئلا نلتفت إلى تسويله وتزيينه لنا الشهوات المردية، وحذرنا تعالى طاعته، وأخبر أن أتباعه وحزبه من أصحاب السعير. والسعير: النار، فحق على المؤمن العاقل أن يحذر ما حذره منه ربه عز وجل ونبيه -عليه السلام -، وأن يكون مشفقا خائفا وجلاً، إن واقع ذنبا أسرع الندم عليه والتوبة منه، وعزم ألا يعود إليه، وإذا أتى حسنة استقلها، واستصغر عمله ولم يدل بها، ...الخ"([35]).
7- تظهر أهمية الكتاب بجلاء من خلال كثرة نقول العلماء عنه، وتعقباتهم عليه، وبخاصة ابن حجر في فتح الباري، وسيأتي بيان ذلك في مبحث خاص.
8- حفظ الكتاب بعض المصنفات المفقودة والتي اقتبس منها ابن بطال، مثل: نقوله عن ابن القصار، والمهلب بن أبي صفرة، وغيرهما كما سيأتي.
ثالثاً: أهم مصادر ابن بطال في شرحه:
تنوعت مصادر ابن بطال في كتابه، فاكنت في الفقه، والحديث، واللغة وغيرها، ومن الملاحظ: أنه كان ينسب الآراء إلى أصحابها، فيذكرهم بشهرتهم، ولكنه عادة لا يذكر أسماء مصنفاتهم التي اقتبس منها، إلا نادراً، ومن أهم من نقل عنهم:
1- ابن القصار: وهذه شهرته التي يذكرها ابن بطال، واسمه: علي بن عمر القاضي البغدادي أبو الحسن، شيخ المالكية. ثقة، قليل الحديث، وكان أصوليا، له كتاب في مسائل الخلاف كبير، وله - أيضا - إيضاح الملة في الخلافيات، وعيون الأدلة. ولي قضاء بغداد، وتوفي في ثامن ذي القعدة سنة (397 هـ). ولم يذكر ابن بطال اسم كتابه الذي أخذ منه([36]).
2- المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي الأندلسي: له شرح على البخاري - غير مطبوع-، وكان من الأئمة الفصحاء الموصوفين بالذكاء، توفي في شوال سنة (435 هـ)([37]). ولم يسم ابن بطال كتابه.
3- الخليل بن أحمد الفراهيدي، أبو عبد الرحمن البصري، النحوي، صاحب العروض، وكتاب العين -في اللغة، وهو مطبوع-، ومنه أخذ ابن بطال حيث كان يذكره بالاسم، توفي (بعد 160 هـ. وقيل 170 هـ. أو بعدها)([38]).
4- ابن دريد: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري، شيخ الأدب، صاحب التصانيف. يضرب بحفظه المثل، ويقال: هو من أشعر العلماء. ومن أشهر مصنفاته: الجمهرة في اللغة - اشتمل على الجمهور من كلام العرب-. والمجتنى -اشتمل على أخبار ولفاظ ومعاني وحكم وأحاديث بأسانيد-. وغيرها كثير. توفي سنة (321 هـ)([39]). ولم يذكر ابن بطال اسم كتابه.
5- أبو عبيد: القاسم بن سلام. الحافظ المجتهد، ذو الفنون. ومن مصنفاته: كتاب الأموال، والناسخ والمنسوخ، والمواعظ، وغريب الحديث. وهذا الأخير - وهو مطبوع - من أجل كتبه، قيل أنه قضى في تأليفه أربعين سنة، توفي سنة (224 هـ)([40]). ومن كتابه "الغريب" نقل ابن بطال في مواضع كثيرة من شرحه.
6- الطبري: محمد بن جرير، أحد الأعلام. كان فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن، بصيراً بأيام الناس. من تصانيفه: تاريخ الأمم والملوك -مطبوع-، التفسير (جامع البيان) - مطبوع-، تهذيب الآثار - مطبوع-، واختلاف العلماء، لطيف القول في الفقه، وهو ما اختاره وجوده. وغيرها. توفي سنة (310 هـ)([41]). وكان ابن بطال ينقل عنه في المسائل الفقهية، وغيرها، لكنه لم يسم كتابه.
7- ابن فورك: محمد بن الحسن الأصبهاني. صاحب التصانيف في أصول الدين والفقه. ومن أهم مصنفاته: مشكل الحديث. ولم يسم ابن بطال كتابه([42]). وقد قارنت نقوله عنه بما في المطبوع من كتاب ابن فورك: مشكل الحديث فتبين أنه ينقل منه.
وطلبا للاختصار اكتفي بالإشارة إلى بقية مصادره:
* أبو الزناد بن سراج، وأبو جعفر الداودي لهما شرح على البخاري.
* الخطابي، وابن قتيبة، والحربي، ومصنفاتهم في غريب الحديث، ومنها اقتبس ابن بطال.
* سيبويه، وابن الأنباري، والأصمعي، في اللغة.
* وأبو داوود الطيالسي، والدارقطني في الرواة. وغيرهم.
والخلاصة: فان هذا التنوع في مصادر ابن بطال يدل على أهمية شرحه ومكانته، حيث جمع جهود كثير من العلماء في عدد من الفنون. كما يوحي هذا العدد من مصادره المتنوعة بثراء المادة العلمية في شرحه، مما لفت أنظار من جاء بعده من الشراح، فاستفادوا منه، وكثروا من النقل عنه.
المبحث الثاني
معالم منهج ابن بطال في كتابه
يعد كتاب ابن بطال شرحا فقهيا بالدرجة الأولى، وهذا يظهر من خلال منهجه في الشرح، إذ غني بذكر المذاهب الفقهية، ومناقشتها، كما اهتم بتراجم البخاري التي تخدم هذا المسلك عنده، فكان يفسرها ويبين غرض البخاري منها، وأحيانا يوجه الاعتراض إليها، ويبين سبب ذلك، مما دفع عدداً من العلماء إلى الرد عليه والانتصار للبخاري، وبخاصة ابن حجر، كما سيتضح في أثناء البحث.
ونلحظ أيضا شدة اهتمامه بالجوانب اللغوية، وأيضا الحديثية، وتعليقاته على الأحاديث، واستنباط الفوائد منها، مما ميز هذا الكتاب، بحيث يذكر المذاهب بعد المسألة التي اشتمل عليها الحديث، ثم يناقش الأدلة، ويستنبط الفوائد والأحكام، ولا يتعرض إلى كل لفظة في الحديث. كما اشتمل كتابه على كثير من آرائه المتعلقة بالقياس. ومما يميز هذا الكتاب - أيضا-: اشتماله على ذكر الأحاديث المتعارضة، إذ لا يكاد يخلو باب إلا ويذكر فيه شيئا من ذلك. وسيتضح هذا كله من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول
الاحتكام إلى الدليل، وعدم التعصب
وهذا من أبرز معالم منهجه، إذ أنه لا يقول قولاً أو يرجح مسألة إلا ويستند في ذلك إلى نص من قرآن أو سنة أو قياس. وينبه دائما إلى أنه لا رأي ولا قياس مع ورود النص. ويرد على بعض الأئمة بأحاديث البخاري إذا كان قولهم بخلاف ما ورد في الحديث. ويعتذر أحيانا للأئمة عن مخالفتهم أحيانا للسنة بأن بعض السنن لم تصلهم، ولو وصلتهم أو علموا بها لاتبعوها. ومن أقواله مما يؤكد هذا المنهج:
أ- ففي أثناء تعليقه على حديث عمران بن حصين: (أن رجلاً عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، لا دية له). مال إلى رأي الشافعي ورأي أهل العراق في أن من عض يد رجل فانتزع المعضوض يده من في العاض لا ضمان عليه. وخالف مذهب مالك الذي قال بضمانه دية السن، معتذراً لمالك بقوله: "ولم يرو مالك هذا الحديث، ولو رواه ما خالفه، وهو من رواية أهل العراق"([43]).
ب- وفي أثناء نقاشه لمسألة كون الأخوات عصبة للبنات يرثن ما فضل عن البنات، بين أن هذا قول جماعة من الصحابة غير ابن عباس، فأنه يقول: إن للابنة النصف، وليس للأخت شيء، وما بقي للعصبة. ثم يقول ابن بطال: "وحجة الجماعة: السنة الثابتة من حديث ابن مسعود، ولا مدخل للنظر مع وجود الخبر، فكيف وجماعة من الصحابة يقولون بحديث ابن مسعود، ولا حجة لأحب خالف السنة" وحديث ابن مسعود الذي عناه هو قوله: (لأقضين فيها بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم. أو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وما بقي فللأخت)([44]).
ج- واعتذر للأئمة أحيانا عن مخالفتهم للسنة بغير قصد فقال: "وإنما حمل أبا حنيفة على قول هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة "ثم قال: "لعل البخاري حاول بترجمته: باب الإشارة بالطلاق والأمور الرد عليه" . ثم اعتذر أيضا لمالك بقوله: "ولم يرو مالك هذا الحديث، ولو رواه ما خالفه"([45]).
المطلب الثاني
رأيه في اختيار البخاري أحاديث صحيحه، وترتيبها
أولاً: انتقاده ترتيب البخاري بعض أحاديثه من حيث التقديم والتأخير، والاكتفاء بذكر نص بعض الأحاديث، والإشارة إلى الأخرى، دون ذكر نصها:
ففي باب تشميت العاطس إذا حمد الله، ذكر حديث أبي هريرة، وحديث البراء، وهو: (أمر النبي عليه السلام بتشميت العاطس ...الخ الحديث). قال ابن بطال: "وكان ينبغي للبخاري أن يذكر حديث أبي هريرة بنضه في هذا الباب، ويجعله بعد حديث البراء، وهذا من الأبواب التي عجلته المنية عن تهذيبها، لكن قد فهم المعنى الذي ترجم به"([46]).
وهذا جعل ابن حجر يرد عليه بأن هذا من دقيق منهج البخاري حيث قال: "قال ابن بطال: ليس في حديث البراء التفصيل الذي في الترجمة، وإنما ظاهره أن كل عاطس يشمت على التعميم. قال: وإنما التفصيل في حديث أبي هريرة الآتي. قال: وكان ينبغي له أن يذكره بلفظه في هذا الباب، ويذكر بعده حديث البراء، ليدل على أن حديث البراء وان كان ظاهره العموم لكن المراد بها الخصوص ببعض العاطسين، وهم الحامدون. قال: وهذا من الأبواب التي أعجلته المنية عن تهذيبها. كذا قال. والواقع أن هذا الصنيع لا يختص بهذه الترجمة، بل قد أكثر منه البخاري في الصحيح، فطالما ترجم بالتقييد والتخصيص كما في حديث الباب من إطلاق أو تعميم، ويكتفي من دليل التقييد والتخصيص بالإشارة، إما لما وقع في بعض طرق الحديث الذي يورده، أو في حديث آخر كما صنع في هذا الباب، فإنه أشار بقوله فيه أبو هريرة إلى ما ورد في حديثه من تقييد الأمر بتشميت العاطس بما إذا حمد. وهذا أدق التصرفين، ودل إكثاره من ذلك على أنه عن عمد منه، لا أنه مات قبل تهذيبه، بل عد العلماء ذلك من دقيق فهمه، وحسن تصرفه في إيثار الأخفي على الأجلى، شحذاً للذهن، وبعثا للطالب على تتبع طرق الحديث، إلى غير ذلك من الفوائد"([47]).
وقد ذكر العيني كلام ابن بطال وابن حجر (وعبر عنه بقوله: بعضهم) ثم لم يعجبه قولهما فقال: "أما كلام ابن بطال فانه غير جلي، لأنه لو قدم المقيد على المطلق لأورد عليه بأن المقيد جزء المطلق، وتقديم المتضمن للجزء أولى، والذي قصده يفهم من هذا الوضع، على أن الترتيب ليس بشرط. وأما كلام بعضهم - يقصد ابن حجر - فلا يجدي شيئا، لأن من وقف على حديث من أحاديث الكتاب يتعسر عليه أن يقف على ما وقع في بعض طرقه، وفي تحصيل حديث آخر، وقوله: فان في إيثار الأخفى إلى آخره تنويه للناظر وإحالة على تتبع أمر مجهول، وهذا ليس بدأب عند العلماء)([48]).
وما رد به العيني على ابن بطال في قوله: "والذي قصده يفهم من هذا الوضع" هو رأي ابن حجر، حيث قال: "ويكتفي من دليل التقييد والتخصيص بالإشارة".
ثانياً: بيانه حقيقة منهج البخاري في اختياره بعض الأحاديث ومناسبتها للأبواب:
ففي باب "ما يقع من النجاسات في السمن والماء"، أخرج البخاري حديث: (كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دما، اللون لون دم، والعرف عرف مسك). استشكل ابن بطال ذلك لعدم التناسب الظاهر بينهما، فذكر تفسير ذلك بقوله: "وإنما ذكر البخاري حديث الدم في باب نجاسة الماء، لأنه لم يجد حديثا صحيح السند في الماء، فاستدل على حكم الماء المائع بحكم الدم المائع، إذ ذلك المعنى الجامع بينهما"([49]).
وذكر ابن حجر أن العلماء استشكلوا صنيع البخاري هنا ثم ذكر أجوبة عدد منهم عن هذا الصنيع، إلا أنه ذكر أنها متعقبة([50]). ولم يرجح أحداً منها، كما لم يتعرض لما ذكره ابن بطال.
وأرى أن ما ذكره ابن بطال دقيقا فيما يتعلق بتوجيه سبب اختيار البخاري للحديث، لكن يبقى بعد ذلك إيجاد المناسبة بين الحديث والباب صعبا ولذا اختلف العلماء فيه.
ثالثاً: استشكاله أحيانا صنيع البخاري في إدخاله حديثا في بعض الأبواب، وترجع ذلك إلى غلط الناسخ:
ففي باب "السلم إلى من ليس عنده أصل" أخرج البخاري حديث ابن عباس أنه سئل عن السلم في النخل، فقال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يؤكل منه، وحتى يوزن. فقال رجل: وأي شيء يوزن؟ فقال رجل إلى جانبه: حتى يحرز).
قال ابن بطال: "وأما حديث ابن عباس الذي هو في آخر الباب فليس هو من الباب، وإنما من الباب الذي بعده، وغلط فيه الناسخ، والله أعلم"([51]). ويقصد بالباب الذي بعده "باب السلم في النخل".
فرد عليه ابن حجر بقوله: "وزعم ابن بطال أنه غلط من الناسخ، وأنه لا مدخل له في هذا الباب، إذ لا ذكر للسلم فيه. وغفل عما وقع في السياق من قول الراوي إنه سأل ابن عباس عن السلم في النخل. وأجاب ابن المنير أن الحكم مأخوذ بطريق المفهوم، وذلك أن ابن عباس لما سئل عن السلم مع من له نخل في ذلك النخل رأى أن ذلك من قبيل بيع الثمار قبل بدو الصلاح، فاذا كان السلم في النخل المعين لا يجوز، تعين عدم جوازه في غير المعين، للأمن فيه من غائلة الاعتماد على ذلك النخل بعينه، لئلا يدخل في باب بيع الثمار قبل بدو الصلاح. ويحتمل أن يريد بالسلم معناه اللغوي، أي السلف، لما كانت الثمرة قبل بدو صلاحها فكأنها موصوفة في الذمة"([52]).
وما رد به ابن حجر على ابن بطال - في ظني - غير دقيق، لأن استشكال ابن بطال ليس لعدم ذكر السلم في الحديث، وإنما لعدم التناسب بين قوله "إلى من ليس عنده أصل" أي السلم إلى من ليس عنده مما أسلف فيه أصل، وبين حديث ابن عباس الذي لم يرد فيه هذا المعنى، بل ورد فيه أن السلم في النخل المعين لا يجوز. ويظهر لي أن ما نقله ابن حجر عن ابن المنير أدق مما ذكره ابن حجر نفسه، في أن الحكم مأخوذ بطريق المفهوم، وهو يدل على دقيق صنيع الإمام البخاري.
رابعا: تأجيله شرح بعض الأحاديث المكررة إلى موضعها الأنسب لمعنى الحديث: ومن ذلك قوله في باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح: "هذا الباب مكرر في كتاب النكاح، وهو موضعه، وسأذكر مذاهب العلماء في شروط النكاح إن شاء الله"([53]).
وقوله في باب الشروط في المزارعة الذي أخرج البخاري فيه حديثا واحداً: "تقدم حديث رافع واختلاف مساقه في كتاب المزارعة"([54]).
المطلب الثالث
منهجه في الكلام على تراجم البخاري
أولاً: ثناؤه على تراجم البخاري، ووصفه بالرسوخ في الاستنباط: ومن ذلك ما جاء في باب: تفسير ترك الخطبة، وأخرج البخاري فيه حديث ابن عمر في قضة عرض عمر على أبي بكر الزواج من ابنته حفصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خطبها بعد ذلك قبل موافقة أبي بكر، حيث علق ابن بطال على هذا فقال: "إن قال قائل: كيف ترجم البخاري لهذا الحديث: تفسير ترك الخطبة، وقد تقدم من مذاهب العلماء أن الخطبة جائزة على خطبة غيره إذا لم تركن إليه، والنبي حين أخبر بذلك أبا بكر لم يكن أعلم بهذا عمر فضلاً أن تركن إليه، فالجواب: أن الترجمة صحيحة، والمعنى الذي قصد البخاري معنى دقيق، يدل على ثقوب ذهنه، ورسوخه في الاستنباط، وذلك أن أبا بكر علم أن الرسول إذا خطب إلى عمر ابنته أنه لا يصرفه ولا يرغب عنه. فقام علم أبي بكر الصديق بهذه الحالة مكان الركون والتراضي منهما، فكذلك كل من علم أنه لا يصرف إذا خطب لا تنبغي الخطبة على خطبته حتى يترك كما فعل أبو بكر([55]).
ثانياً: تفسيره لتراجم البخاري، وبيان غرضه منها، واعتراضاته على ذلك:
يعتني ابن بطال كثيراً بتفسير تراجم البخاري، وبيان مقصده منها، مما جعل شرحه مرجعا مهما في هذا الأمر، لكن أخذ بعض العلماء عليه إغفاله لغرض كتاب البخاري بتجاوزه عن شرح بعض الأبواب " مدعيا أن لا فقه فيها، أو يقول: سبق شرحه، أو سياتي شرحه، غافلاً عن غرض البخاري من إخراجه الحديث في ذلك الباب بعينه، وهذا الذي أخذ على ابن بطال صحيح، فمعلوم أن البخاري قد يذكر الحديث الواحد في مواضع لفوائد في الإسناد أو المتن، وهذا لم يعتن به ابن بطال، لكنه مع ذلك تناول أكثر تراجم البخاري بالتفسير وبين غرض البخاري منها، وأحيانا يخالف البخاري في ترجمته، مما جعل ابن حجر يتعقبه، وسيتضح هذا فيما يأتي:
1- بيانه غرض البخاري من الترجمة: ففي باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك بالله. لقوله عليه السلام: إنك أمرؤ فيك جاهلية". قال ابن بطال: "وغرض البخاري في هذا الباب الرد على الرافضية والإباضية وبعض الخوارج في قولهم: إن المذنبين من المؤمنين يخلدون في النار بذنوبهم، وقد نطق القرآن بتكذيبهم في غير موضع منه"([56]).
2- بيانه مناسبة الأحاديث لتراجم الأبواب: غني ابن بطال بتتبع المناسبة بين الأحاديث والأبواب، فأحيانا يوضحها اجتهاداً من عند نفسه، وأحيانا ينقلها عن غيره ممن سبقه إلى ذلك، أو يسأل شيخه إن استشكل وجه المطابقة بين الحديث والباب، ونجده في بعض المواضع يعترض على البخاري في بعض تراجم الأبواب لعدم مناسبتها للأحاديث الواردة فيها ويصف البخاري بالغفلة، وحتى يتضح ذلك أذكر بعض الأمثلة:
أ- في "باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء - جدار أو نحوه-". قال ابن بطال: "أما قوله في الترجمة: إلا عند البناء فليس مأخوذاً من الحديث، ولكنه لما علم في حديث ابن عمر استثناء البيوت بوب فيه، لأن حديثه عليه السلام كله كأنه شيء واحد وان اختلفت طرقه"([57]).
ونقل ابن حجر عن الإسماعيلي ثلاثة أجوبة عن الاستثناء المذكور ومناسبته للحديث، وما يهم هنا: أنه ذكر رأي ابن بطال لكن ابن حجر لم يرتضه فقال:
"ثالثها: الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر المذكور في الباب الذي بعده، لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم كله كأنه شيء واحد. قاله ابن بطال، وارتضاه ابن التين، وغيره. لكن مقتضاه: أن لا يبقى لتفصيل التراجم معنى"([58]). وما قاله ابن حجر صحيح، إذ ما فائدة التراجم، إذا كانت الترجمة لا تعبر فعلاً عن معنى الأحاديث الداخلة تحتها؟
ب- وأما اعتراضه على تراجم البخاري من حيث عدم مناسبتها للأحاديث، مثل ما جاء في باب بركة السحور من غير إيجاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم واصل، ولم يذكر سحور، وفيه حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل فواصل الناس، فشق عليهم فنهاهم ... إلخ). قال ابن بطال: "وقول البخاري في هذه الترجمة إن الرسول وأصحابه واصلوا ولم يذكر سحور: غفلة منه، أنه خرج في باب الوصال حديث أبي سعيد أن الرسول قال لأصحابه: (أيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر). وفهم من ذلك أنه عليه السلام أراد قطع الوصال بالأكل في السحر. فحديث أبي سعيد مفسر يقضي على المجمل الذي لم يذكر فيه سحور، وقد ترجم له البخاري: باب الوصال إلى السحر"([59]).
ونقل ابن حجر ما قاله ابن بطال فعقب عليه بقوله: "وقد تلقاه جماعة بعده بالتسليم. وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن البخاري لم يترجم على عدم مشروعية السحور، وإنما ترجم على عدم إيجابه، وأخذ من الوصال أن السحور ليس بواجب، وحيث نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال لم يكن على سبيل تحريم الوصال، وإنما هو نهى إرشاد، لتعليله إياه بالإشفاق عليهم، وليس في ذلك إيجاب للسحور، ولما ثبت أن النهى عن الوصال للكراهة، فضد نهي الكراهة الاستحباب، فثبت استحباب السحور. كذا قال.
ومسالة الوصال مختلف فيها، والراجح عند الشافعية التحريم. والذي يظهر لي أن البخاري أراد بقوله: لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا الخ الإشارة إلى حديث أبي هريرة الآتي بعد خمسة وعشرين بابا، فيه بعد النهي عن الوصال، أنه واصل بهم يوما، ثم يوما، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخر لزدتكم. فدل ذلك على أن السحور ليس بحتم، إذ لو كان حتما ما واصل بهم، فإن الوصال يستلزم ترك السحور، سواء أقلنا الوصال حرام أم لا"([60]).
* ونجده أيضا يعترض على بعض التراجم لعدم مطابقتها للحديث الوارد تحتها، ويعلل ذلك بأن البخاري مات قبل تهذيب كتابه. ومثاله: ما جاء في "باب الشهادة سبع سوى القتل" حيث أخرج البخاري فيه حديث أبي هريرة مرفوعا: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله). حيث اعترض ابن بطال بعدم التناسب بين الترجمة وبين الحديث الذي أخرجه البخاري فقال: "لا تخرج هذه الترجمة من الحديث أصلاً، وهذا يدل على أن البخاري مات ولم يهذب كتابه" لأنه لم يذكر الحديث الذي فيه أن الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله". ثم ذكر ابن بطال حديث جابر بن عتيك مرفوعا: (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله .... الخ)([61]).
وعقب ابن حجر على ما ذكره ابن بطال بنقل كلام ابن المنير بأن ظاهر كلام ابن بطال يفيد أن البخاري أراد أن يدخل حديث جابر فأعجلته المنية عن ذلك، وهو كلام فيه نظر، فيحتمل أن يكون أراد التنبيه على أن الشهادة لا تنحصر في القتل بل لها أسباب أخر، وتلك الأسباب اختلفت الأحاديث في عددها، ففي بعضها خمسة، وفي بعضها سبعة، والذي وافق شرط البخاري الخمسة، فنبه بالترجمة على أن العدد الوارد ليس على معنى التحديد، ثم رأى ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل، ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، فلم يقصد الحصر في شيء من ذلك([62]).
3- حذفه بعض الألفاظ من الترجمة إذا لم يظهر له وجه ذلك: وهذا من عجيب صنيعه، حيث كان بإمكانه أن يجتهد في تأويل ذلك.
ومن الأمثلة عليه: ما جاء في "باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق". نجد ابن بطال حذف جزءاً من الترجمة وهو "من طلق" فكأنه لم يظهر له وجهه([63])، وبخاصة أن ابن حجر ذكر أن هذه العبارة وردت في جميع الروايات عن البخاري، وقد وضح ابن حجر أن البخاري قصد إثبات مشروعية جواز الطلاق، وحمل حديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) على ما إذا وقع من غير سبب، وهو حديث معل بالإرسال. وأما المواجهة فأشار إلى أنها خلاف الأولى، لأن ترك المواجهة أرفق وألطف، إلا إن احتيج إلى ذكر ذلك([64]).
4- اقتراحه - أحيانا - ترجمة أحسن من ترجمة البخاري: ومن ذلك أن البخاري ترجم في كتاب الصوم: باب تعجيل السحور. وبدا أن ابن بطال لم يرض عن هذه الترجمة فاقترح ما هو أنسب في ظنه فقال: "ولو ترجم له باب تأخير السحور لكان حسنا" ([65]).
ونقل ابن حجر عن مغلطاي بأنه وجد في نسخة أخرى من صحيح البخاري باب تأخير السحور. كما نقل عن ابن المنير بأن البخاري إنما سماه تعجيلاً إشارة منه إلى أن الصحابي كان يسابق بسحوره الفجر عند خوف طلوعه، وخوف فوات الصلاة بمقدار ذهابه إلى المسجد ([66]).
5- تعقبه البخاري في فقه تراجمه: فقد قال في باب أبوال الإبل والدواب: "وقول البخاري في الترجمة: باب أبوال الإبل والدواب وافق فيه أهل الظاهر، وقاس أبوال ما لا يؤكل لحمه على أبوال الإبل، ولذلك قال: وصلى أبو موسى في دار البريد والسرقين ([67])" ليدل على طهارة أرواث الدواب، وأبوالها. ولا حجة له فيه بينة، لأنه يمكن أن يصلي في دار البريد على ثوب بسطه فيه، أو فيه مكان يابس لا تعلق به نجاسة منه"([68]).
وتعقبه ابن حجر فقال: "وأجيب بأن الأصل عدمه، وقد رواه سفيان الثوري في جامعه عن الأعمش بسنده، ولفظه: صلى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين، وهذا ظاهر في أنه بغير حائل"([69]). وما ذكر ابن حجر محتمل خلافه، وقد فصل العيني في ذلك رداً على ابن حجر([70]).
6- اعتراضه على ذكر البخاري تراجم لا خلاف بين المذاهب فيها: ومن ذلك ما جاء في باب الأذان بعد الفجر، فقد اعترض ابن بطال عليها بأنه لا خلاف بين الأئمة في ذلك، وإنما الخلاف في جواز الأذان قبل الفجر([71]).
ودافع ابن حجر عن البخاري بأن مراده أن يبين أن المعنى الذي كان يؤذن لأجله قبل الفجر غير المعنى الذي كان يؤذن لأجله بعد الفجر، وأن الأذان قبل الفجر لا يكتفى به عن الأذان بعده، وأن أذان ابن أم مكتوم لم يكن يقع قبل الفجر([72]).
المطلب الرابع
موقفه من القياس، والظاهرية
1- أشار ابن بطال في مواضع كثيرة من كتابه إلى مصادر الاستدلال عنده، وهي نفسها أصول مالك في الموطأ، القرآن الكريم، والسنة، والقياس، وعمل أهل المدينة، والإجماع: إجماع أهل المدينة، أو الإجماع العام.
2- ويظهر التزام ابن بطال بهذه الأصول واضحا، سواء من خلال تأكيده عليها، أو من خلال نقله أقوال مالك في بعض المسائل. من ذلك: قوله في مناقشة الإمام الشافعي: "فان زعم الشافعي أن توبة القاذف كانت مخصوصة بذلك([73]) كف عليه الدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، أو قياس صحيح".
3- وينقل ابن بطال معنى القياس عن شيخه المهلب بأنه تشبيه ما لا حكم فيه بما فيه حكم في المعنى([74]). وتعرض لمفهومه في باب من شبه أصلاً معلوما بأصل مبين فقال: "فبين ليفهم السائل أن هذا هو القياس بعينه، والقياس في لغة العرب: التشبيه والتمثيل"([75]).
4- ويقرر ابن بطال أن القياس لا بذ أن يكون له أصل في الشريعة معتبر حتى يقاس عليه فيكون صحيحا، وما عداه باطل، بدليل سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن القياس، لأنه لم ينزل عليه شيء([76]).
5- ويذكر –أيضا -أن القياس ينقسم إلى صحيح وفاسد. ففي تعليقه على حديث الثقفي والقرشيين ذكر أن فيه من الفقه: "إثبات القياس الصحيح، وإبطال القياس الفاسد، ألا ترى أن الذي قال: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، قد أخطا في قياسه، لأنه شبه الله تعالى بخلقه الذين يسمعون الجهر، ولا يسمعون السر. والذي قال: إن كان يسمع جهرنا فأنه يسمع إن أخفينا، أصاب في قياسه، حين لم يشبه الله بالمخلوقين، ونزهه عن مماثلتهم، مع أن الآخر جعل النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الذين شهد لهم بقلة الفقه، لأنه شك في حقيقة ما قال"([77]).
6- ونجد الظاهرية وقفوا موقفا سلبيا من القياس([78])، فأنكروه وهو ما جعل ابن بطال يشدد النكير عليهم في مواضع كثيرة من كتابه، ويعيب عليهم الأخذ بظاهر الحديث والتزامهم منهجا مطرداً.
ومن أقواله في ذلك: "ولم يأخذ أحد من الفقهاء بظاهر هذا الحديث إلا رجل جاهل نسب إلى العلم وليس من أهله، اسمه داود بن علي فقال: من بال في الماء الدائم فقد حرم عليه الوضوء به، قليلاً كان الماء أو كثيرا، فان بال في إناء وصبه في الماء الدائم جاز له الوضوء به، لأنه إنما نهى عن البول - فقط - بزعمه وصبه للبول من الإناء ليس ببول فلم ينه عنه"([79]).
7- ويبين ابن بطال علة وقوع الظاهرية في مثل هذه الزلات بأن أصول مذهبهم باطلة فيقول: "وهذ غاية السقوط، وإبطال المعقول، ومن حملة طرد أصله في إنكار القياس إلى التزام مثل هذا النظر فلا يشك في عناده، وقلة ورعه"([80]).
8- ويبين - أيضا - أنهم تناقضوا في مسائلهم، وفي استعمال القياس أحيانا، ونفيه أحيانا أخرى. ومما يؤكد ذلك قوله: "وذكر بعض أهل الظاهر أن من صلى في الحجر -بلاد ثمود -وهو غير باك، فعليه سجود السهو إن كان ساهيا، وإن تعمد ذلك بطلت صلاته، وكذلك من صلى في موضع مسجد الضرار، وهذا خلف من القول لا خفاء بسقوطه، إن كان لا يجوز عنده فيه صلاة من تعمد ترك البكاء، فكيف أجاز صلاة الساهي بعد سجود السهو، وإسقاط الواجبات لا تجبر بسجود السهو عند العلماء، وهو تخليط منه، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث معنى نهيه عن دخول مواضع الخسف لغير الباكي وهو قوله: (لا يصيبكم مثل ما أصابهم ، وليس في هذا ما يدل على فساد صلاة من لم يبك، وإنما فيه خوف نزول العذاب به، وتسويته بين الصلاة في موضع مسجد الضرار بالصلاة في موضع الخسف ليس في هذا الحديث، وهو قياس فاسد منه، وهو لا يقول بالقياس، فقد تناقض"([81]).
9- ويسرد ابن بطال أسماء بعض من أنكر القياس، ويبين قيمة رأيهم فيقول: "وإنما أنكر القيا : النظام، وطائفة من المعتزلة، واقتدى بهم في ذلك من ينسب إلى الفقه: داود بن علي. والجماعة هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها"([82]).
المطلب الخامس
منهجه في الأحاديث المتعارضة
يمتاز هذا الشرح في الوقوف عند كل حديث بينه وبين نص آخر تعارض ظاهري، ويقرر ابن بطال - قبل دفع التعارض - أن لا تعارض حقيقي بين الأحاديث وكذلك القرآن، فالسنة متفقة معه، فيقول: "ذلك أن أخبار رسول الله لا يجوز أن تتضاد، ونهيه وأمره لا يجوز أن يتناقض أو يتعارض"([83]). ثم يعمد ابن بطال إلى إزالة التعارض بينهما، إما باستفادته ممن سبقه في هذا المجال كالطحاوي، وابن فورك، والطبري([84])، أو يتولى بنفسه دفع التعارض، من خلال الجمع أو بيان النسخ، والا قام بالترجيح، مع إشارته إلى الأسباب التي توقع في التعارض الظاهري.
ومما يمتاز به أنه لا يكتفي بدفع التعارض الذي أثير من قبل، وإنما يدفع التعارض الذي يتوقع أن يثار قبل إثارته، مما يدل على سعة إدراكه، وسيتضح ذلك من خلال بيان منهجه في إزالة التعارض على النحو الآتي:
1- الجمع بين النصوص: يرى ابن بطال -كغيره من العلماء -أن الجمع أولى المسالك التي يلجا إليها عند التعارض، لأن إعمال الدليل أولى من إهماله، وهو مسلك جمهور العلماء، بخلاف الحنفية فانهم يقدمون النسخ والترجيح على الجمع([85]).
فمن الأمثلة على ذلك: التعارض بين حديث (فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)، وحديث (من شك في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثا أم أربعا فليأت بركعة). فبين ابن بطال أن بينهما تعارضا، ثم ذكر وجه التعارض وأزاله، فقال: "حين أمره أن لا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا، فقد أمره بالحكم لليقين، وإلغاء الشك. وفي حديث الشك في الصلاة أمره بالحكم للشك، وإخفاء اليقين، حين أمره بالإتيان بركعة.
وليس كما ظنه، بل الحديثان متفقان في إلغاء الشك والحكم لليقين، وذلك أنه أمر الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة أن لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا، لأنه كان على يقين من الوضوء، فأمره عليه السلام باطراح الشك، وأن لا يترك يقينه إلا بيقين آخر، وهو سماع الصوت، أو وجود الريح. والذي يشك في صلاته فلا يدري أثلاثا صلى أو أربعا لم يكن على يقين من الركعة الرابعة، كما كان في الحديث الآخر على يقين من الوضوء، بل كان على يقين من ثلاث ركعات شاكا في الرابعة، فوجب أن يترك شكه في الرابعة، ويرجع إلى يقين من الإتيان بها، فصار حديث الشك في الصلاة مطابقا لحديث الشك في الحدث مشبها له في أن اليقين يقدح في الشك، ولا يقدح الشك في اليقين".
2- الترجيح: فاذا لم يمكن الجمع بين النصوص المتعارضة، ولم يتبين نسخ ثابت، لجأ ابن بطال إلى الترجيح، وللترجيح وجوه عنده: منها ما يتعلق بالسند، ومنها ما يتعلق بالمتن على النحو الآتي:
أ- وجوه الترجيح باعتبار الإسناد:
* ترجيح حديث من شاهد على من لم يشاهد: فالحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن عائشة أنها قالت: (إذا جاوز الختان فقد وجب الغسل) رجحه ابن بطال على حديث رواه عدد من الصحابة وهو (الماء من الماء). وذكر تعليل ترجيحه بأن السيدة عائشة – رضي الله عنها -أعلم بهذا من غيرها، لأنها شاهدت تطهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فقولها أولى ممن لم يشاهده([86]). ومع هذا الترجيح الذي لجأ إليه ابن بطال نجده يقول بالنسخ في موضع آخر([87]).
* ترجيح الحديث الذي يكون رواته أكثر، لأنه أبعد عن الغلط والسهو: فذكر ابن بطال أنه إذا اتفق مالك ويحيى بن سعيد وابن عيينة فهم حجة على من خالفهم ([88]).
* ترجيح ما هو أصح إسناداً: فقد رجح حديث عبادة بن الصامت الذي جاء فيه (من أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارته) على حديث أبي هريرة (لا أدري الحدود كفارة أم لا). وذلك لأن حديث عبادة أصح من جهة الإسناد. وكان ابن بطال شديد اللهجة في الترجيح فقال: "ومنهم من جبن عن هذا -أي عن القول بأن الحدود كفارة – لما روى أبو هريرة)([89]).
ولكن ابن حجر لم يوافق على مسلك الترجيح، ورأى أن الجمع أولى، لأن حديث أبي هريرة صحيح، فيقال: إن النبي قال الحديث الأول قبل أن يعلم بأن الحدود كفارة، ثم أعلم فقال الحديث الثاني([90]).
ب- وجوه الترجيح باعتبار المتن:
* ترجيح المعمول به: فان ابن بطال يرجحه على غيره إن عارضه، وان كان أصح إسناداً. فرجح حديث أم سلمة "أنها قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للجنابة؟ قال: لا. إنما كان يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات، وتغمري قرونك، فاذا أنت قد طهرت". رجحه على حديث السيدة عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "انقضي رأسك، وامتشطي". فمع أن حديث عائشة أصح إسناداً إلا أن العمل عند الفقهاء على حديث أم سلمة([91]).
* ترجيح ما هو محفوظ على ما هو شاذ: فرجح أن في اليد نصف الدية، وأن أصابع اليد والرجل سواء. وبين أن أئمة الفتوى على هذا، ومنهم: عمر بن الخطاب. رجح ذلك على رواية شاذة عن عمر بن الخطاب، وعروة بن الزبير، بتفضيل بعض الأصابع على بعض، ثم قال: لم يلتفت أحد من الفقهاء إلى هذين القولين: قول عمر وابن الزبير، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هذه وهذه سواء -يعني الخنصر والإبهام -. وكما ورد في حديث عمرو ابن حزم "إن في كل إصبع عشراً من الإبل)"([92]).
* ترجيح الرأي إذا كانت قرائن تقويه: ومن ذلك: ما إذا كان الرأي في التفسير، وقائله ابن عباس، وهو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم. وذكره ابن كثير في أول كتابه في أئمة التفسير الذين يرجع إليهم، فقال: "ومنهم: الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"([93]).
ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) (المائدة: 45). حيث رجح ابن بطال أنها مفسرة وليست ناسخة لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ...) (البقرة: 178). وذكر أن من أسباب ترجيحه أنه رأي ابن عباس. قال ابن بطال: "وذهب ابن عباس إلى أن (النفس بالنفس) غير ناسخة لآية البقرة ولا مخالفة لها، ولكنهما جميعا محكمتان، إلا أن ابن عباس رأى قوله تعالى: (أن النفس بالنفس) كالمفسرة للتي في البقرة، فتأول أن قوله: (النفس بالنفس) إنما هو على أن نفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد، وأنهم يتكافؤون([94]) في دمائهم - ذكوراً أو إناثا -وأن أنفس المماليك متساوية فيما بينهم دون الأحرار، يتكافؤون فيما بينهم ذكوراً كانوا أو إناثا ...)([95]). قلت: فهم ابن بطال من كلام ابن عباس أن الآية مفسرة، ولكن فهم بعض العلماء من كلامه النسخ([96]).
وعلى كل حال فالرأي الذي يقول بالتفسير هو قول عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وعطاء وعكرمة، ومذهب مالك، والشافعي. والرأي الذي يقول بالنسخ هو قول سعيد بن المسيب، والنخعي، والثوري، وقتادة، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه([97]).
* ترجيح الرواية التي يوافقها قياس: ومن ذلك حديث (بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر)([98]). حيث رجح رواية: (فاذا امرأة شوهاء إلى جانب القصر) على رواية (فاذا امرأة تتوضأ إلى جانب القصر). فذكر أن " تتوضأ" تصحيف لأن الحور طاهرات ولا وضوء عليهن، فكذلك كل من دخل الجنة لا تلزمه طهارة ولا عبادة([99]). فقاس كل من دخل الجنة على الحور العين، من حيث عدم لزوم الطهارة والعبادة.
وقد سبق ابن بطال الخطابي إلى ذلك، ونقل ابن حجر قول القرطبي في الرد على هذا القول: بأن "الوضوء هنا لطلب زيادة الحسن، لا للنظافة، لأن الجنة منزهة عن الأوساخ والأقذار. وقد ترجم عليه البخاري في كتاب التعبير باب الوضوء في المنام، فبطل ما تخيله الخطابي ([100]).
قال العيني: "وفيما قاله ابن بطال نظر، لأن أحداً ما ادعى أن عليهن الوضوء. ومن ادعى أن كل من دخل الجنة يلزمه طهارة أو عبادة؟ فلم لا يجوز أن يصدر عن أحد من أهل الجنة عبادة باختياره ما شاء من أنواع العبادة؟"([101]).
* ترجيح الحديث الذي لم يضطرب متنه على الذي وقع في متنه اضطراب: فرجح حديث أبي هريرة على حديث عبد الله بن مغفل في الغسل من ولوغ الكلب، لأن حديث ابن مغفل اضطرب اضطرابا يوجب سقوطه([102]).
وما ذهب إليه ابن بطال -هنا- لا يوافق عليه، فحديث ابن مغفل رواه الإمام مسلم في صحيحه([103])، والجمع بين الأحاديث أولى من الترجيح([104]).
يتبع