راحة القلب.. بالفصل بين الثقة والعجب


مي عباس



هل تثق في نفسك فترى مزاياها وتؤمن بقدراتها؟.. أم أن هذا الأمر يؤدي إلى العجب المذموم الذي يحبط العمل ويعاقب صاحبه بالخسف والهوان في الدنيا والآخرة؟
هل نثق في أنفسنا؟.. أم نتهمها ونذمها؟..
ما هو الندم المطلوب للتوبة؟.. وهل يعني إدمان جلد الذات والشعور بالذنب؟
أسئلة كثيرة وهامة، وعدم الإجابة عنها يؤدي إلى الخلط بين المفهومين المتعارضين: الثقة بالنفس، والعجب، مما يؤدي إلى اختلالات كثيرة في حياتنا، ومنها:
1ـ الإفراط في ذم النفس حذرًا من العجب
بعض الأطروحات والدعوات ومناهج التفكير والدعوة تدعو إلى ذم النفس باستمرار، والتركيز على معايبها ونقائصها، مستندة في ذلك على أصول من الشريعة وعبادات عظيمة مثل التوبة التي يعد الندم أحد أركانها، والتبرؤ من الحول والقوة والاستعانة بالله وحده..
وفي الحقيقة هذا الطرح وإن كان له فائدة في تجريد التوكل، ومنع الاستعلاء والكبر، إلا أنها تخلط المفاهيم الشرعية، فالندم في التوبة عمل إيجابي يؤدي إلى "العزم على عدم العودة إلى الذنب".. والتوبة تفتح بوابات من الأمل والانشراح، كما في قوله تعالى: {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. [الفرقان:70].
فالتوبة في الإسلام عمل إيجابي سعيد مستمر، لا يتضمن جلد الذات ولا إدمان ذمها والتعبد بتحقيرها، قال تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...} الآية الإسراء: 70.
ويستخدم بعض الدعاة أسلوب نقل عبارات السلف الصالح رضي الله عنهم في ذم النفس، ولكنهم يقتطعونها من سياق حياة ذلك العابد أو المجاهد أو العالم الذي كانت حياته حركة وتغييرا للأفضل ونهوضًا بنفسه وبمن حوله، أما اقتطاع عبارات الخوف والشك في النفس والعمى عن رؤية خيرها وزكاتها وسموها فإنه قد يكون طريقا للزلل والسقوط السريع، لان الطائر لا يمكنه استمرار التحليق بجناح واحد، بل لابد له من علم الجناحين، وكذلك المسلم يحلق إلى الله تعالى بجناحين هما الخوف والرجاء، ويعرف نفسه في ضوء القرآن بشكل متوازن، قال تعالى: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)}. الشمس: 7-10.
هذا المسلك الدعوي والتربوي كثيرًا ما يصادف بيئة خصبة لدى المراهقين وأصحاب المشاعر المرهفة ، ويؤثر على تقديرهم لذواتهم، ويحطم ثقتهم بأنفسهم، بل يجعلهم يتصورون أن الثقة بالنفس جريمة نكراء وأنها مرادف لآفة العجب.
2ـ انتفاخ الأنا.. بزعم الثقة بالنفس
وعلى الصعيد الآخر.. يختار بعض الناس الوقوف خلف إبليس: { أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}، وفرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}، وقوم عاد: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، وصاحب الجنتين { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}، وقارون { إنما أوتيته على علم عندي}.
يختارون تضخيم مزاياهم، والمن على ربهم ودينهم بنعم الله عليهم، وغالبًا ما يمارسون هذا السلوك المرضي في إطار المقارنة مع الغير، فلا يستطيعون المضي في حياتهم دون التحقير من شأن غيرهم، والبحث عن نقصه لإظهار كمالهم المتوهم.
يتستر مرضى العجب خلف رداء الثقة بالنفس، ولكن هذا محض كذب، بل إن سبب تمكن العجب منهم هو ضعف الثقة بالنفس لديهم.. فكلما ضعف تقدير الإنسان لنفسه حقيقة، وشك في مواهبه وإمكاناته، وتوالى فشله في فعل خير أو تحقيق نجاح لجأ إلى العجب والغرور، كالبالون الذي لا ينتفخ إلا لفراغه.
السد المنيع بين الثقة والعجب
بين الثقة بالنفس والعجب سد منيع من الثقة بالله، والتواضع لعظمته، ونسبة الخير والفضل والنعمة له.. بين الثقة بالنفس والعجب حصن مكتوب عليه "وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"، أعمدة من يقين أسس على قواعد {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}. النساء:79، و{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}. النور:21.
وإذا كان هذا السد الإيماني المنيع موجود، فإن الثقة بالنفس ستكبر وتنمو سالمة طبيعية، في إطار شكر الله ورؤية نعمه، وابتغاء الخير والصالحات بما مكن الله فيه الإنسان.
فالثقة بالنفس ضد العجز المذموم شرعًا وعقلا، قال صلى الله عليه وسلم: (استعن بالله ولا تعجز). رواه مسلم، وهو ضد التشاؤم والظن السيء بالله.
أما ذم السلف لأنفسهم واتهامهم لها، فهو استرسال إيماني قوامه الخشية وتعظيم الله تعالى، لم يتعارض مع إدراكهم لمزاياها وقدراتها، ولم يعزلهم في سجون نفسية من السخط والشك وسوء الخلق، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}. المؤمنون:60.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: (لا يا بنت الصديق, ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه).
خوف إيجابي يدعو إلى العمل والبذل، وعتاب للنفس لا يعطلها ولا يفسدها ولا يجعل من صاحبها شخصًا عاجزًا متشككًا يائسًا.