الرسول .. داعيا ومعلما
السنوسي محمد السنوسي

الدعوة والتعليم، أو الداعية والمعلم.. مجالان متناغمان، متناسقان، يبدوان على درجة من الترابط قد تصل إلى حد التطابق، ومن ثم فطبيعي أن يعرف النبي " صلى الله عليه وسلم" بأنه «داع» و«معلم».
وقد ورد هذان الوصفان بحق النبي " صلى الله عليه وسلم" في القرآن الكريم وهو يعدد لنا مهام «الرسالة» التي أمره الله بتبليغها، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)} (الأحزاب: 45- 46).
وقال أيضا: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } (الجمعة: 2).
ومن الملاحظ في هذا الشأن، أن وظيفة «التعليم» ترد أيضا منسوبة إلى النبي " صلى الله عليه وسلم" في دعاء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حين كان يدعو لذريته- وهو يرفع القواعد من البيت- أن يرسل الله لهم نبيا يتلو عليهم آياته ويعلمهم ويزكيهم، فقال كما قص القرآن الكريم عنه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (البقرة: 129).
كما وردت كذلك في مقام الامتنان من الله سبحانه على عباده المؤمنين، فقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
(آل عمران: 164).
أما في السنة النبوية، فقد عرف النبي " صلى الله عليه وسلم" نفسه بأنه «معلم»، فقال فيما رواه جابر بن عبدالله "رضي الله عنه" : «إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» (رواه مسلم).
فحينما يوصف الرسول " صلى الله عليه وسلم" بأنه «داع» وأنه «معلم»، فهذا يشير إلى ترابط هذين الوصفين، وإلى مدى التناغم العميق بينهما.
وما أبلغ وصف النبي " صلى الله عليه وسلم" بأنه «معلم»! إنه وصف دقيق يلخص في أمانة وإحاطة حاله وهو يدعو الناس ويرشدهم ويزكيهم، فقد كان " صلى الله عليه وسلم" «معلما» بكل ما تحمل الكلمة من قيم ومعان وسلوكات ومهارات، مما كشفت عنه العلوم التربوية الحديثة.
لم يكن " صلى الله عليه وسلم" يلقي على الناس مواعظه دون أن يتخير الكلمات والعبارات، ولا دون أن يراعي أحوالهم واختلاف أفهامهم، ولا دون أن يظهر لهم الشفقة والحرص على حاضرهم وآخرتهم، ولا دون أن يحاورهم ويناقشهم ويزيل عنهم الشبهات والاستفسارات.. بل كان " صلى الله عليه وسلم" يسلك في دعوته مسلك «المعلم».
وما أنجح الداعية حين يكون معلما، وليس مجرد واعظ يردد كلمات لا روح فيها، ولا مهارات تصاحبها!
إن «الدعوة» رسالة وأمانة، لا وظيفة بالمعنى الروتيني الجاف.. وكذلك «التعليم»، فهو لا يؤتي أكله إلا إذا كان رسالة نابضة بالحيوية، وكان المعلم مستشعرا لعظم الواجب المنوط به، متحليا بالمهارات اللازمة لإيصال الرسالة التعليمية لطلابه.
قواسم مشتركة
وفيما يتصل بالصلة الوثيقة بين «الدعوة» و«التعليم»، ثمة قيم ومهارات كثيرة، تعكس أوجه التشابه والتقارب بين هذين المجالين.. ويكفينا في هذا المقام أن نشير إلى ثلاث من هذه القيم والقواسم المشتركة، وأن ندلل عليها من حياة النبي " صلى الله عليه وسلم" ومواقفه، بما يكشف لنا كيف كان " صلى الله عليه وسلم" «داعيا» بمهارات المعلم، و«معلما» بقيم الداعي، وكيف مزج " صلى الله عليه وسلم" بينهما على نحو يستحث دعاتنا في الواقع المعاصر أن يستفيدوا منه في تجديد صلتهم ووسائلهم بجمهور المدعوين وقضاياهم الراهنة.
القاسم الأول: الرفق
يقال: «(رفق) به، وله، وعليه: لان جانبه وحسن صنيعه»(1). والرفق صفة نفسية جامعة دالة على حسن الخلق، ولين الجانب، وزكاء النفس.. ولهذا كانت هذه الصفة ضرورية للداعية والمعلم، وقاسما مشتركا بينهما.
ولنا أن نتصور النتائج الكارثية حين يشتغل بالدعوة أو التعليم من يسلك سبيل الغلظة والقسوة والزجر! إن هذا الشخص لهو عبء على الرسالة التي يحملها، والوظيفة التي يشتغل بها، وهو حتما سيفسد حتى لو أراد أن يصلح!
وكم من أناس تُرك عندهم انطباع سيئ عن الإسلام، أو عن عموم الدعاة، نتيجة كلمة أو موقف لداعية غاب عنه الرفق! وكم من طلاب تسربوا من التعليم، وصاروا أبناء للمجهول، أو لما يضر بالمجتمع، بسبب تعنت مدرس وغلظته!
إن الدعوة والتعليم لا يصلح لهما إلا الرفيق الرحيم، الذي امتزجت نفسه بنبل رسالته حتى يفيض حنوا وشفقة على من حوله، ويكون- بحق- عنوانا لما يبلغه، وداعيا بحاله قبل مقاله.
لقد كان النبي " صلى الله عليه وسلم" يعالج الأخطاء برفق، دون أن يفاقم المشكلة أو يحرج المخطئ، مما جعل أحد الصحابة ينطق بكلمة جامعة لحسن أخلاقه " صلى الله عليه وسلم" ، وذكائه في التعامل مع المواقف الحرجة، فقال: «ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه».
روى معاوية بن الحكم السلمي قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله " صلى الله عليه وسلم" إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثُكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني. لكني سكت. فلما صلى رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني (أي: ما انتهرني) ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (رواه مسلم).
قال النووي تعليقا على الحديث الشريف: «فيه بيان ما كان عليه رسول الله " صلى الله عليه وسلم" من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم. وفيه التخلق بخلقه " صلى الله عليه وسلم" في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه»(2).
القاسم الثاني: التدرج
إن «التدرج» سنة كونية وتشريعية، فقد خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، ولو شاء لجعلها في لحظة أو أقل، بأمره: كن. كما أن التشريع الإسلامي ظل يتوالى في ثلاث وعشرين سنة، ولم ينزل جملة واحدة، ناهيك عن أن الحكم الواحد أخذ صورا متدرجة في التشريع حتى استقر، مثل مسألة تحريم الخمر، لكي تستوعبه النفس البشرية، ولا يثقل عليها أو ترغب عنه.
وإذا كان التدرج سنة كونية وتشريعية، فإنه اتساقا مع ذلك يعد أمرا لازما في مجالي الدعوة والتعليم، إضافة إلى أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بفقه الأولويات، وترتيب سلم الأحكام والمفاهيم، لأننا إذا أخذنا بالتدرج فمن غير المتصور أن نبدأ بالأقل أهمية، أو بصغائر الأمور، بل نبدأ بالأهم، فالمهم، فالأقل أهمية.
في تعليم «اللغة» مثلا، نبدأ بحروف الهجاء، ثم بالكلمات، ثم بتركيب الجمل، ثم بالنحو والصرف، فالبلاغة... وفي «الرياضيات»، نبدأ بالتعرف على الأرقام، ثم بالعمليات الحسابية البسيطة مثل الجمع والطرح، ثم العمليات المركبة... إلخ.
والأمر يسير على هذا المنوال في «الدعوة»، فنبدأ بالعقيدة بمعانيها الواضحة التي تغرس محبة الله وخشيته في القلب، ثم بالعبادات وأولها الصلوات الخمس.. إلخ، بحيث لا نؤخر ما حقه التقديم، ولا نقدم ما حقه التأخير.
لكن حين يغيب عن الداعية أو المعلم مفهوم التدرج - وفقه الأولويات - فإنه لاشك سيقع في خلل كبير، ولن يحقق الفائدة المرجوة من الدعوة أو التعليم.
ولنا في رسول الله " صلى الله عليه وسلم" أسوة حسنة، فحين أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن، أوصاه بأن يتدرج في الدعوة، بادئا بالأهم فالمهم، فقال له: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب» (رواه البخاري).
القاسم الثالث: الحوار

والدعوة أو التعليم ليست عملية صماء، تعتمد على التلقين، والإرسال من طرف واحد، بل هي عملية تبادلية، تقوم على الأخذ والرد، وعلى التواصل والاتصال، وعلى استنطاق الإجابة من عقل المتلقي، وتعويده أن يقلب بنفسه الأمر على وجوهه حتى يصل باقتناع تام إلى النتيجة، لأن اقتناعه بها حينئذ يكون أشد رسوخا وثباتا، مما لو تم تلقينه إياها ابتداء دون حوار. فالحوار يؤكد الحقيقة في نفس المتلقي وعقله، ويقطع الطريق أمام محاولات تشكيكه فيها.
وحين جاء شاب إلى النبي " صلى الله عليه وسلم" يسأله أن يأذن له بالزنا، ما كان أيسر على النبي " صلى الله عليه وسلم" أن يبادره بالقول إن هذا حرام ومنكر، بل أن يزجره لمجرد التفكير في هذا الأمر المخالف للفطرة السوية.. لكنه " صلى الله عليه وسلم" - وهو الداعي المعلم- أخذ يسأله في الأمر، ويقلبه له على كل أوجهه، ليصل بنفسه إلى النتيجة التي يريدها النبي " صلى الله عليه وسلم" ، فهذا أثبت للنتيجة في قلب الشاب، وأدعى أن يلتزم بما خلص هو إليه، لا بما أملي عليه، ولو كان حقا ومن سيد البشر " صلى الله عليه وسلم" (3).
بهذه الثلاثية التي أشرنا إليها بإيجاز (الرفق، والتدرج، والحوار) يتضح لنا كيف كانت سيرة النبي " صلى الله عليه وسلم" نموذجا عمليا للمزج بين الدعوة والتعليم، وتوظيف إيجابيات كل منهما في المجال الآخر، سعيا إلى حسن التواصل مع المخاطبين، وعرض الفكرة في أحسن صورة من الوضوح والإقناع والتأثير.
الهوامش
(1) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ص: 375، طبعة مكتبة الشروق الدولية، ط4، 2008م.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم.
(3) عن أبي أمامة "رضي الله عنه" قال: «إن فتى شابا أتى النبي " صلى الله عليه وسلم" فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه. فقال: ادنه. فدنا منه قريبا، قال فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله يا رسول الله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه. فلم يكن بعدُ ذلك الفتى يلتفت إلى شيء» (رواه أحمد).