حكم استبدال الأوقاف في المذاهب الفقهية([1])
د. محمد المهدي ([2])
ملخص البحث:
لعل أعظم ما يحز في النفس إنما هو فحش التهميش الذي طال فقهنا وتراثنا الإسلامي في كثير من الدول العربية والإسلامية، حيث نجد التشريعات الوضعية فيها تسير في اتجاه هجره وإبعاده، حتى في مجال الأحوال الشخصية، من منطلق أنه أصبح لا يساير عصرنا.
وفي هذا الإطار لا يسعني إلا أن أشكر مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية بدولة الكويت على العناية الفائقة التي توليها لهذا التراث العظيم، من خلال نشر البحوث الفقهية التي تكشف - بحق - عن مدى رجاحة عقل أولئك الفقهاء، الذين بهم نهضت الأمة الإسلامية في ميادين شتى، عسى أن يخجل أولئك الذين ينكرون على فقهنا صلابته، ويصفونه بالعجز عن إيجاد حلول لمشكلات العصر.
وفي هذا السياق عالج البحث موضوع "استبدال الأوقاف" من ناحية فقهية بحتة، حيث تناول ثلاث قضايا مهمة.
القضية الأولى: تتعلق ببيان الحكم الشرعي لاستبدال الأوقاف، عقارات كانت أو منقولات، خاصة أو عامة، عامرة أو غامرة، مساجد كانت أو غيرها، وذلك في حالة وجود إذن من الواقف بالاستبدال، وفي حالة النهي عنه، وكذا في حالة السكوت عنه.
وقد تبين - كما سيتضح للقارئ - من البحث أن المسألة اجتهادية بشكل لا نجد له نظيرا في مسألة من مسائل الوقف، فالفقهاء ما بين مانع من استبداله إطلاقا، ومجيز له في بعض الموارد، ومتوقف عن الحكم، بل تعددت الأقوال والآراء حتى انفرد - أحيانا - كل فقيه بقول، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على خصوبة فقهنا، وأنه ثروة فقهية يمكن الاعتماد عليها في إيجاد الحلول الممكنة للمشكلات التي يتخبط فيها الوقف في كثير من المجتمعات الإسلامية.
والقضية الثانية: تتعلق بشروط صحة الاستبدال على القول بجوازه، وهي شروط تعد بمثابة ضوابط احتياطية، حتى لا يتخذ الاستبدال وسيلة لضياع الأوقاف وانطماس معالمها.. كما بينا في السياق ذاته أهم الأدلة التي استند عليها كل من مجيزي الاستبدال ومانعيه، وقد تبين بعد المناقشة أن أدلة جواز الاستبدال على وجه العموم أرجح من سواها، وأنها تحقق النفع العام للأمة الإسلامية.
وأما القضية الثالثة: فتتعلق ببيان الجهة التي لها صلاحية الاستبدال، فهذه المسألة أسالت بدورها الكثير من المداد، مادام الهدف هو توخي الحيطة والحذر في هذا الموضوع، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الحرص الشديد الذي أبانه فقهاؤنا بخصوص مصلحة الأوقاف، وقد تبين من النقاش أن الآراء لم تخرج في مجملها عن ثلاثة أقوال: فهناك من يقول: بأن الناظر هو الذي يقوم بالاستبدال، وهناك من يخول ذلك للموقوف عليه، وهناك من يسند الأمر للحاكم، وقد خرج البحث بترجيح الرأي الأخير؛ على اعتبار أن الحاكم هو ولي المسلمين العام، وأن التهمة لا تلحقه في ذلك.
ولم يغفل البحث الحديث عن مصير الأموال المحصل عليها من بيع الأملاك الموقوفة، إذ ساق في ذلك نقاش الفقهاء وآراءهم في هذا الموضوع، حيث أثار جملة من القضايا للنقاش، لعل أهمها تتمحور حول ثلاث نقط أساسية: هل لابد من شراء ما يقوم مقام العين المبيعة أم لا؟، ثم ما مدى صيرورة العين المشتراة وقفا بشكل تلقائي دون حاجة إلى تجديد للوقفية ؟، وهل من الضروري أن يكون المشترى من جنس المبيع، أم يكفي شراء أي شيء ولو من غير جنسه ؟.
كلها تساؤلات أجاب عنها الفقهاء، كل حسب اجتهاده ورؤيته للموضوع، وبلم ما قيل في هذا الشأن - مما سيجده القارئ الكريم بين ثنايا هذا البحث- ومناقشته يخرج البحث بترجيح القول بضرورة شراء ما يقوم مقام الوقف المبيع مع تجديد وقفيته.
أما بخصوص النقطة الثالثة: فقد توصل البحث إلى ترجيح رأي الحنفية الذي يفرق بين كون الموقوف مخصصا للسكنى وبين كونه مخصصا للاستغلال، حيث يشترط أن يكون المشترى من جنس المبيع في الحالة الأولى دون الثانية؛ للاعتبارات المذكورة في البحث.
ولعل هذا الملخص يجد تفاصيله في البحث وفق العناصر التالية:
المبحث الأول: الحكم الشرعي لاستبدال الأوقاف
أولا: في حالة وجود موقف من الواقف في موضوع الاستبدال
ثانيا: في حالة سكوت الواقف عن موضوع الاستبدال
المبحث الثاني: شروط صحة استبدال الأوقاف وأدلته
أولا: شروط صحة استبدال الأوقاف (على القول بجوازه)
ثانيا: الأدلة العامة في استبدال الأوقاف
المبحث الثالث: الجهة التي لها صلاحية استبدال الأوقاف
أولا: تحديد السلطة التي تملك حق استبدال الأوقاف
ثانيا: مصير أموال البدل.
توطئة
الاستبدال في اللغة: من استبدل الشيء بغيره، وتبدله به إذا أخذه مكانه([3])، وفي الاصطلاح نعني باستبدال الوقف: إخراج العين الموقوفة عن جهة وقفها في نظير عوض يكون وقفا بدلها، سواء بالبيع والشراء، أو بالمعاوضة، وهو نفس المعنى نجده في قولنا: "إبدال الوقف"، بدليل ما جاء في فتاوى ابن تيمية: "والإبدال يكون تارة بأن يعوض في الوقف بالبدل، وتارة بأن يباع ويشترى بثمنه المبدل"([4]).
غير أن الشيخ (محمد أبو زهرة)([5]) وكثيرا ممن نقلوا عنه([6]) اقتصروا في التعريف الشرعي لاستبدال الوقف على أن المراد به بيعه وشراء آخر يحل محله، ولم يذكروا أمر بيعه بعين أخرى، وقالوا: بأن الإبدال له نفس المعنى، وبهذا يكون التعريف الذي أوردوه غير جامع، إلا أن يقال: إنه للتمثيل.
أما إذا ذكر اللفظان معا، كقولنا: إبدال الوقف واستبداله صار المقصود بالإبدال هو إخراج العين الموقوفة عن جهة وقفها ببيعها، والاستبدال هو: شراء عين أخرى تكون وقفا بدلها([7]).
والمعاوضة بالوقف أخص من الاستبدال والإبدال، وان كان المآل في هذه التصرفات جميعها واحدا([8]).
* وبعد هذا التوضيح نتساءل: ما الحكم الشرعي لاستبدال الأوقاف؟ (المبحث الأول)، ثم ما هي شروط صحته والأدلة المعول عليها في القول بجوازه أو عدمه ؟ (المبحث الثاني)، وما هي الجهة التي لها صلاحية الاستبدال ؟ وما مصير أموال البدل ؟ (المبحث الثالث)، تساؤلات يجيب عنها هذا المقال .
المبحث الأول
الحكم الشرعي لاستبدال الأوقاف
إن استبدال الوقف يختلف حكمه عند الفقهاء باختلاف وثائق الواقفين، فقد يرد فيها بيان موقف الواقف من موضوع الاستبدال (أولا)، وقد لا يرد فيها أي موقف منه (ثانيا)، فهناك - إذن - حالتان، تعدان بمثابة المعالم العامة لقاعدة الاستبدال في الأوقاف، معقبة([9]) كانت أم عمومية، عامرة أم غامرة، عقارات أم منقولات .
أولا- في حالة وجود موقف من الواقف في موضوع الاستبدال"
وهذا الموقف لا يعدو أن يكون إذنا بالاستبدال أو نهيا عنه.
حالة الإذن بالاستبدال:
اختلف الفقهاء في إمكان استبدال الوقف في هذه الحالة على آراء نعرض لها فيما يلي:
في المذهب الحنفي: اختلف الحنفية في مدى صحة شرط الاستبدال أو عدمه على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: الشرط صحيح استحسانا، وبه قال أبو يوسف.
الرأي الثاني: الشرط باطل قياسا، غير أن هذا البطلان لا يؤثر على صحة الوقف، وهو لمحمد بن الحسن، وبه قال أهل البصرة ([10]).
الرأي الثالث: الشرط والوقف باطلان ([11]).
والرأي الأول[(*)] هو الصحيح رواية ودراية ([12]).
في المذهب المالكي: يرى المالكية جواز الاستبدال في هذه الحالة ([13])، جاء في المعيار نقلا عن بعض الشيوخ: "لا يجوز إبدال الحبس ولا بيعه، ويترك على ما كان عليه في السنين الماضية؛ إعمالا لقصد المحبس، واتباعا لشرطه، فلا يجوز بيعه، وإن ظهرت المصلحة في بيعه، لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن"([14])، ومنه يفهم أنه إذا وجد الإذن جاز الاستبدال.
في المذهب الشافعي: لا يخالف الشافعية في جواز أن يشترط الواقف لنفسه أو لغيره استبدال الوقف وما يشاء منه بما يراه من عقار أو حصة من عقار أو نقد، وأن يفعل ذلك المرة بعد الأخرى كلما بدا له ([15]).
في المذهب الحنبلي: ذهب الحنابلة إلى ما قال به أصحاب الرأي الثاني عند الحنفية، أي بفساد الشرط مع صحة الوقف، كما هو الشأن في الشروط الفاسدة في البيع ([16]).
ومحل ما ذكرناه عن هذه المذاهب: هو في غير المساجد، أما هذه فلا يجوز شرط استبدالها حتى ولو كانت خربة ([17]).
وبهذا العرض يتضح أن المالكية والشافعية وأبا يوسف من الحنفية على وفاق في وجهات النظر، حيث يرون جميعا أن شرط استبدال الوقف جائز، وفي المقابل نجد الحنابلة ومحمد بن الحسن على وفاق في أن شرط الاستبدال يفسد ويبقى العقد صحيحا، في حين انفرد رأي من الحنفية بأن الشرط والوقف يبطلان.
ويمكن توجيه ما ذهب إليه الفريق الأول من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن شرط الاستبدال يقتضيه العقد، لأنه قد تحصل الضرورة إلى استبدال الوقف، فالأراضي ربما لا يخرج فيها من الغلة ما يفضل عن المؤن فيؤدي إلى عدم وصول شيء إلى الموقوف عليهم لفساد يحدث بالأرض مثلا، وتكون الأرض الأخرى المراد الاستبدال بها أصلح وأنفع للموقوف عليهم، فلهذه الضرورة جاز اشتراط الاستبدال ([18]).
الوجه الثاني: وهو للإمام هلال ([19])، حيث رأى أن الواقف باشتراطه الاستبدال لم يشترط إبطال الوقف، وكل شيء في الوقف لا يبطل أصله فالوقف فيه جائز والشرط جائز، وقال: "ألا ترى أن رجلا لو استهلك أرضا موقوفة حتى لا يقدر على ردها، حكمت عليه بقيمتها، فاشتريت بها أرضا، فجعلتها صدقة موقوفة على مثل ما كانت عليه الأرض المستهلكة، وجعلت هذه بدل تلك الوقف، فإذا اشترط البيع جوزت ذلك وجعلت له أن يبيعها ويستبدل بها"([20]).
الوجه الثالث: إن شرط الاستبدال لا ينافي مقتضى العقد، إذ هو لا ينافي لزومه ولا تأبيده، لأن اللزوم والتأبيد لا يقومان بأعيان الوقف بل بغلاته وثمراته، فمادامت غلات الوقف تصرف على التأبيد، ومادام الوقف لازما في صرف غلاته على مصارفها فهو لازم أبدي، لأن العبرة في الوقف بمعناه لا بأعيانه، ومعناه هو: صرف الغلات أبدا على مصارف هي من أبواب البر، وشرط الاستبدال لا ينافي شيئا من ذلك.
واعتبارا بهذا التوجيه - الثالث - فقد رجح الشيخ أبو زهرة رأي هذا الفريق، مستبعدا القول بأن شرط الاستبدال فيه ضرر على المستحقين أو الوقف، لأنه يكون في أكثر أحواله منميا لثمرات الوقف، مدرا لخيراته، مكثرا لغلاته، خصوصا إذا كان من ناظر حكيم، عالم بتصريف الشؤون المالية والاقتصادية ([21]).
أما ما ذهب إليه الفريق الثاني من القول بفساد الشرط وبقاء الوقف صحيحا، فيمكن توجيهه بأن شرط الاستبدال لا يؤثر في بقاء الوقف، والوقف يتم بذلك ولا ينعدم به معنى التأبيد، فيتم الوقف بشروطه، ويبقى الاستبدال شرطا فاسدا، فيكون باطلا في نفسه، كالمسجد إذا شرط الاستبدال به، أو شرط أن يصلي فيه قوم دون قوم، فالشرط باطل، واتخاذ المسجد صحيح، فهذا مثله ([22]).
حالة النهي عن استبدال الوقف:
اختلفت وجهات نظر الفقهاء في حكم استبدال الوقف في هذه الحالة على النحو التالي:
في المذهب الحنفي: يصرح الشيخ الطرسوسي رحمه الله بأن هذه المسألة ليس فيها نقل في المذهب، ولذلك فقد خرجها على نقول العلماء فيما إذا شرط الواقف استبدال الوقف.
فأما تخريجها على نقل هلال فظاهر، إذ بالطريق الأولى ألا يجوز أن يستبدل بالوقف بعد النهي عنه، لأن الإمام هلال قال: لا يجوز الاستبدال إلا إذا شرطه الواقف، وإذا لم يشرطه فلا يجوز، فبقي بالطريق الأولى إذا نص على عدم الاستبدال به ألا يجوز الاستبدال.
وأما تخريجها على ما نقل عن أبي يوسف، فالظاهر أنه يجوز الاستبدال للقاضي إذا كان فيه مصلحة للوقف، وان كان الواقف نص على ألا يستبدل به، وذلك لأن أبا يوسف رحمه الله علل في جواز الاستبدال بعلة تصلح أن يخرج الجواب - هنا - عليها، وهي أن الضرورة قد تستدعي الاستبدال، لأن الأرض ربما لا تخرج من الغلة ما يفضل عن مؤنها، فيؤدي إلى عدم وصول شيء إلى الموقوف عليهم.
فالواقف إذا شرط ألا يستبدل بالوقف ورأى الحاكم المصلحة للوقف في استبداله، يكون قد اجتمع نص الواقف ورأي الحاكم، والمخالفة بينهما ظاهرة، فإن أخذ بما شرطه الواقف فقد تفوت مصلحة الوقف، وتتعطل مصلحة الموقوف عليهم، وان أخذ برأي الحاكم فقد تتحقق المصلحة، فيبقى شرط الواقف في معنى اشتراط شرط لا فائدة فيه للوقف، واشتراطه شرطا لا فائدة فيه ولا مصلحة للوقف غير مقبول [(*)]، كما قيل في اشتراط الواقف أن القاضي أو السلطان لا يكون له كلام في الوقف، فقد قيل: إنه شرط باطل، وللقاضي الكلام، لأن نظره أعلى، وهذا شرط ليس بموافق للشرع فلا يعمل به ([23]).
في المذهب المالكي: يرى المالكية أنه إذا اشترط الواقف في وثيقة الوقف عدم بيع الوقف واستبداله بغيره، كان شرطه جائزا، ووجب العمل به، فإن أقدم الناظر - والحال هذه - على استبدال شيء من الوقف كان تصرفه باطلا، ووجب عليه رده، فإن امتنع زجره الحاكم ([24]).
في المذهب الشافعي: إذا كان الشافعية يجيزون استبدال الوقف مع إذن الواقف به، فمن البداهة ألا يجوز عند النهي عنه، على اعتبار أن المسلمين على شروطهم.
في المذهب الحنبلي: يرى الحنابلة أنه إذا كان الوقف لا يرجى منه خير، كما إذا كان فرسا موقوفا على الغزو وقد كبر، ولم يعد صالحا للغزو وأمكن الانتفاع به في شيء آخر، مثل أن يدور في الرحى أو تحمل عليه البضائع، أو تكون الرغبة في نتاجه، فإنه يجب بيعه ولو شرط الواقف عدمه، ووجه ذلك أن الناظر يلزمه فعل المصلحة، ومن المصلحة: البيع هنا، وحجتهم في ذلك قوله عليه السلام: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله[(**)]؟([25]).
وبهذا العرض يتضح أن الحنفية - والمالكية في رأي - والشافعية لا يجيزون استبدال الوقف إذا نهى عنه الواقف، وفي المقابل نجد الحنابلة والحنفية - في رأيهم الآخر - يجيزونه إذا كان فيه مصلحة.
ثانيا- في حالة سكوت الواقف عن موضوع الاستبدال:
في هذه الحالة يميز الفقهاء بين استبدال المسجد وغيره، وفي غير المسجد بين منقطع المنفعة وتامها، على مسألتين:
- المسالة الأولى: استبدال الوقف غير المسجد.
والوقف غير المسجد قد يكون متعطلا غامرا[(?)] غير تام المنفعة، وقد يكون عامرا تام المنفعة، وحكم استبدال هذا يختلف عن حكم استبدال ذاك، ولهذا نقسم كلامنا في هذه المسألة إلى فقرتين، نتناول في الفقرة الأولى حكم استبدال الوقف منقطع المنفعة، ونتناول في الفقرة الثانية حكم استبدال الوقف تام المنفعة.
أ- حكم استبدال الوقف منقطع المنفعة:
ونفرق في بيانه بين استبدال العقار من جهة، واستبدال المنقول من جهة أخرى، على النحو التالي:
1- استبدال العقار منقطع المنفعة:
اختلف فقهاء الإسلام في حكم استبدال العقار الموقوف إذا انقطعت منفعته، بأن صار غير صالح فيما وقف فيه، اختلافا واسعا نعرض له مع الموازنة والترجيح.
* عرض الآراء الفقهية:
- في المذهب الحنفي: تحصل من اختلاف الحنفية في المسألة رأيان:
- الرأي الأول: يجوز استبدال العقار الوقف إذا انقطعت منفعته إذا كان بإذن القاضي ورأى المصلحة فيه([26]).
جاء في مجمع الأنهر: "وأما الاستبدال بدون الشرط فلا يملكه إلا القاضي بإذن السلطان حيث رأى المصلحة فيه"([27]).
وفي الخانية: "أما بدون الشرط، فقد أشار في السير أنه لا يملك الاستبدال إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك"([28]).
والحجة التي ذكرها أبو يوسف - هنا - لجواز الاستبدال هي: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه وقف على ابنيه الحسن والحسين، فلما خرجا إلى صفين، قال: إن نأت بهم الدار فبيعوها، واقسموا ثمنها بينهم [(*)]، ولم يكن شرط البيع في أصل الوقف ثم أمر بالبيع ([29]).
وهي حجة في غير محلها كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة، لأن كلام الإمام علي يدل على أنه يجوز بيع الوقف واقتسام ثمنه إن لم يؤد إلى الغاية المقصودة منه، في حين أن المسألة التي يراد الاستدلال عليها هي بيع الموقوف لشراء غيره يحل محله، وهذه دون ما يؤدي إليه الدليل ([30]).
- الرأي الثاني: لا يجوز استبداله ([31])، لأن الوقف لا يطلب به التجارة، ولا تطلب به الأرباح، وما سميت العين الموقوفة وقفا إلا لأنها تبقى لا تباع، وإنما جاز الاستبدال إذا اشترط في عقدة الوقف؛ لأن الناس على شروطهم، ولأن الواقف إنما وقف على مثل ذلك، ولو جاز بيع الوقف بغير شرط لأصبح الوقف يباع في كل يوم، وليس هكذا الوقف ([32]).
والقول بالجواز هو الأصح ([33])، و إن أنكره بعضهم، فقد جاء في البحر: "... ونحن لا نفتي به، وقد شاهدنا في الاستبدال من الفساد ما لا يعد ولا يحصى، فإن ظلمة القضاة جعلوه حيلة إلى إبطال أكثر أوقاف المسلمين، وفعلوا ما فعلوا"([34]).
- في المذهب المالكي: فرق المالكية في حكم بيع العقار منقطع المنفعة واستبداله بين ثلاثة أقسام:
قسم: أجازوا بيعه باتفاق، وهو ما انقطعت منفعته ولم يرج أن تعود، وفي إبقائه ضرر.
وقسم ثاني: لم يجيزوا بيعه باتفاق، وهو ما يرجى عود منفعته، ولا ضرر في بقائه[(**)].
وقسم ثالث: اختلفوا في بيعه والاستبدال به - وهو ما انقطعت منفعته ولا يرجى عودها، وليس في بقائه ضرر - على ثلاثة آراء:
- الرأي الأول: لا يجوز بيعه ولا استبداله، وهو المشهور عن الإمام مالك، وحجته ما يلي:
- عموم قوله عليه السلام: "لا يباع ولا يوهب ولا يورث "، ذلك أن بيعه أو استبداله هو خلاف هذا العموم .
- بقاء أوقاف السلف داثرة[(*)]، فلو كان البيع يجوز فيها لما أغفله من مضى، فبقاؤها خرابا دليل على أن البيع فيها غير مستقيم، لأنه لو استقام لما أخطا من مضى من صدر هذه الأمة، وما جهله من لم يعمل به حتى تركت خرابا ([35]).
- إن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها، كالمعتق.
- إن ما لا ينقل الوقف عن مقتضاه إذا لم يخرب لا ينقله عن مقتضاه وإن خرب، كالغصب ([36]).
وقد وجه القاضي عبد الوهاب المالكي هذا الرأي فقال: "الربع الموقف أو المحبس حبسا محرما لا يجوز بيعه إذا خرب، ولا الاستبدال به بوجه؛ لأن في بيعه إبطال شرط الواقف وحلا لما عقده، وذلك غير جائز، واعتبارا به إذا لم يخرب، ولأن العمارة تنتقل من مكان إلى مكان، فلم يكن في تبقيته إتلاف له، لجواز عودة العمارة إليه".
- الرأي الثاني: يجوز استبداله، وهو رواية أبي الفرج عن الإمام مالك ([37]).
ووجه الجواز اعتباره بالحيوان، ولأن الواقف إنما أراد وصول الانتفاع إلى الموقوف عليه من جهة هذا العقار الموقوف، فإذا لم يتحصل من جهته منفعة وجب أن تنقل إلى منفعة ما يقوم مقامه، وإلا كان في ذلك إبطال شرطه ([38]).
- الرأي الثالث: وهو للإمام اللخمي، حيث فرق بين ما إذا كان الربع العامر في المدينة وبين ما إذا كان بعيدا من العمران، فمنع بيع الأول، على اعتبار أنه لا يحصل اليأس من إصلاحه، فقد يقوم محتسب لله فيصلحه، وأجرى الثاني على الرأيين المتقدمين، مع اختياره الرأي الأول، حيث قال: "والذي آخذ به في الرباع المنع؛ لئلا يتذرع إلى بيع الأحباس"([39]).
والصحيح من هذه الآراء هو: الرأي الثاني، لا فرق فيه بين ما بعد عن العمران وما كان داخله، وهو ما رجحه ابن عرفة، وبه وقعت الفتوى والحكم ([40]).
- في المذهب الشافعي: إذا تعلق الأمر بأرض موقوفة، فإن الشافعية لا يرون جواز بيعها في أي حال من الأحوال، حتى ولو انقطعت منفعتها، لكنهم على خلاف في استبدال الدار الموقوفة إذا انهدمت، أو أشرفت على الانهدام على ثلاثة آراء ([41]):
- الرأي الأول: يجوز بيعها واستبدالها، سواء كانت موقوفة على المسجد أم على غيره .
- الرأي الثاني: يجوز ذلك في الموقوفة على المسجد دون غيرها.
- الرأي الثالث: لا يجوز ذلك مطلقا، وبهذا أفتى الشيخ أبو زكرياء، لبقاء الانتفاع بأرضها وإمكان عمارتها ([42])، وعليه أكثر الشافعية، فقد جاء في فتاوى الرملي: "ومما يتصل بهذا الأصل أن من وقف دارا فأشرفت على الخراب وعرفنا أنها لو انهدمت عسر ردها وإقامتها، ذهب الأكثرون إلى منع البيع وجوزه مجوزون"([43]).
وقال السبكي فيما نقله عنه الرملي بأن منع البيع هو الحق ([44]).
وقد حمل العلامة الرملي رأي القائلين بجواز استبدال الدار على البناء خاصة ([45])، فتعقبه محشيه وقال: "أي دون الأرض فلا يجوز بيعها"([46]).
- في المذهب الحنبلي: للحنابلة رأيان، الصحيح منهما القول بالجواز، وعليه أكثر الحنابلة، وجزم به كثيرون ([47])، وعلى هذا الرأي ذكروا وجهين:
- الوجه الأول: لا يباع العقار الموقوف إلا أن لا ينتفع منه بشيء أصلا، بحيث لا يرد شيئا.
- الوجه الثاني: إذا تعطل كثر نفعه جاز بيعه ([48]).
- في المذهب الشيعي: يرى الشيعة الزيدية جواز استبدال ما بطل نفعه في المقصود من وقفه ولو حصل الرجاء بعوده في المستقبل ([49]).
* موازنة وترجيح:
يتضح من خلال هذا العرض أن في حكم استبدال العقار الموقوف إذا انقطعت منفعته فيما وقف فيه رأيين على العموم، لا فرق فيهما بين الأرض والدار، إلا عند الشافعية، فقد فرقوا بينهما، حيث منعوا استبدال الأرض واختلفوا في شأن الدار.
واذا تأملنا هذين الرأيين وجدنا أن الأخذ بجواز استبدال الوقف الغامر كثر وجاهة من غيره، لاسيما إذا كان بإذن القاضي ورأيه المصلحة فيه، كما ذهب إلى ذلك رأي من الحنفية، لأن ترك الأوقاف خربة دون استبدالها هو من باب إضاعة المال المنهي عنها، فضلا عن أن ذلك قد يجر إلى مفسدة عظيمة، بأن تبقى دور الوقف خاوية خربة وأراضيه مهجورة ميتة، مما يترتب عليه ضرر بالموقوف عليهم وغيرهم من جهات البر والخير، وبالتالي ضرر على المجتمع وعلى التنمية العامة للبلاد، فإن الشرع الحكيم حث على كل ما من شأنه رفع مستوى الأمة ورغب فيه.
2- استبدال المنقول منقطع المنفعة:
إذا كان الموقوف من المنقولات، بأن كان غير أصل، كالعروض والحيوان والثياب والسلاح، وعدمت منفعته فيما وقف فيه، كالثوب يبلى، والفرس يمرض، فقد اختلف فقهاء الإسلام في حكم استبداله على آراء، نعرض لها مع الموازنة والترجيح على النحو التالي:
* عرض الآراء الفقهية:
- في المذهب الحنفي: سبق عن الحنفية أنهم لا يجيزون وقف المنقول إلا في بعض الصور، ومع ذلك فهم لا يفرقون بينه وبين العقار إذا انقطعت منفعتهما، حيث يرون أن حكم الاستبدال فيهما واحد. وهو نفس مسلك الشيعة الجعفرية.
- في المذهب المالكي: ذكر المالكية في حكم استبداله قولين:
- القول الأول: يباع [(*)]، ويشترى بثمنه مثله، مما ينتفع به فيما وقف فيه ذلك المبيع، وممن قال به: ابن القاسم ([50]).
جاء في المنتقى: "قال مالك في المجموعة في الفرس المحبس يضعف فلا يبقى فيه قوة للغزو: لا بأس ببيعه، ويجعل ثمنه في آخر. قال ابن القاسم: ... والثياب تباع إن لم تبق فيها منفعة، ويشترى بثمنها ما ينتفع به"([51]).
وتوجيه هذا القول من وجهين:
- الوجه الأول: إن في عدم بيع المنقول واستبداله إذا انقطعت منفعته ضياعا وفسادا واضحين، سيما وأنه في الغالب لا يرجى عودته إلى ما كان عليه، وليس كذلك الرباع، فإنها تعمر بعد الخراب، فلذلك لم يجز بيعها ([52]).
وفي هذا يقول القاضي عبد الوهاب: "فوجه قول ابن القاسم أنه إذا لم تبق فيه منفعة في الحال ولا في المترقب في الوجه الذي حبس عليه، لم يكن في تبقيته فائدة إلا تعريضه للتلف، وذلك غير جائز، لأن إضاعة المال منهي عنها"([53]).
- الوجه الثاني: إن تبقيته ومنع بيعه إنما يراد لئلا يبطل شرط الواقف، وتبقيته في هذه الحال تؤول به إلى ذلك من غير نفع، فكان إبطال الشرط بما يقوم مقامه ويسد بعض مسده أولى ([54]).
- القول الثاني: لا يباع، إلا أن يكون الواقف شرط ذلك، وهو قول ابن الماجشون ([55]).
ووجه هذا القول: قياس المنقول على الرباع، بعلة أنه عين أبد وقفها، فلم يجز بيعها؛ لعدم الانتفاع بها، كالرباع ([56]).
وأشهر القولين هو ما ذهب إليه ابن القاسم ([57]).
- في المذهب الشافعي: تحكي كتب الشافعية أنه إذا كان الموقوف منقولا كبهيمة[(*)] فزمنت، أو شجرة فجفت وانقطعت منفعتها، أو قلعها الريح، أو جرفها السيل أو نحو ذلك، ولم يمكن إعادتها إلى مغرسها قبل جفافها، ففي حكم استبداله رأيان:
- الرأي الأول: لا يجوز بيعه أو استبداله كالمسجد، لحديث عمر المشهور، وينتفع به على النحو الذي صار عليه، بإجارة وغيرها، إدامة للوقف في عينه، فلو لم يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه بإحراق ونحوه، صار ملكا للموقوف عليه على القول المصحح، ينتفع به دون أن يكون له حق بيعه، وهذا ما حذا ببعضهم إلى الاعتراض عليه، مدعيا أن القول بعدم بطلان الوقف والقول بعوده ملكا متنافيان.
لكنه اعتراض أجيب عنه بأن عود الوقف ملكا يعني أنه ينتفع به ولو باستهلاك عينه، ومعنى عدم بطلانه: أنه باق، لا يفعل به ما يفعل بسائر الأملاك من بيع ونحوه، وبهذا لا يبدو هناك أي تناف ([58]).
- الرأي الثاني: يباع، لتعذر الانتفاع به على وفق شرط الواقف، ولكيلا يضيع، فإدراك اليسير من ثمنه يعود على الوقف أولى من ضياعه ([59]).
والرأي الأول هو الأصح عند الشافعية ([60]).
- في الفقه الحنبلي: أجاز الحنابلة بيع المنقول الذي انقطعت منفعته فيما وقف فيه، حتى إنهم أجمعوا على جواز بيع الفرس الحبيس الموقوف على الغزو إذا كبر ولم يعد صالحا للغزو مع إمكان الانتفاع به في شيء آخر ([61])، بل وذكر بعضهم وجوب البيع، على اعتبار أن الناظر يلزمه فعل المصلحة، ومن المصلحة: البيع هنا ([62]).
* موازنة وترجيح:
يتضح من خلال هذا السرد لمختلف وجهات نظر الفقهاء في حكم استبدال المنقول منقطع المنفعة، أنهم على رأيين (الجواز وعدمه)، وأن القول بالجواز هو الأصح عند الحنفية، والأشهر عند المالكية. وهو ما عليه فقهاء الحنابلة، في حين أن القول بعدم الجواز هو الأصح عند الشافعية، مما يوضح لنا التشديد الذي انفرد به هؤلاء دون غيرهم في هذه المسالة.
ولاشك أن الأخذ بالجواز هو الأوجه، لأن في عدم البيع والاستبدال هنا ضياعا واضحا، سيما وأن المنقولات يتسارع إليها الفساد، كما أن إدراك اليسير من ثمنها يعود ببعض النفع على الوقف، وليس كذلك تركها دون استبدال.
ب- حكم استبدال الوقف تام المنفعة:
لم يخل الوقف العامر بدوره من الخلاف في حكم استبداله، ولذلك نعرض لهذا الخلاف مع الموازنة والترجيح على النحو التالي:
* عرض الآراء الفقهية:
- في المذهب الحنفي: لا يجيز الحنفية بيع الوقف إذا كان له ريع وغلات تفضل عن مؤنته وتصرف في مصارفه، غير أنهم استثنوا حالتين: تتعلق الأولى بوقف يجاور مسجدا ضاق بأهله، وتتعلق الثانية التي كانت محل نقاش، بما إذا وجدت عين أخرى أدر نفعا وأكثر غلة، وأكثر ثمرة، وأريد الاستبدال بها.
ففي الحالة الأولى يباع الوقف ليوسع به المسجد، فإن رضي مستحقوه فلا إشكال، وان أبوا أخذ منهم بأمر القاضي، جبرا بالقيمة، وهذا من الإكراه الجائز عندهم[(*)]([63])، ومحل ذلك ما لم يكن في البلد مسجد آخر، إذ لو كان فيه مسجد آخر لأمكن دفع الضرورة بالذهاب إليه، نعم فيه حرج، لكن الأخذ كرها أشد حرجا منه، ويؤيد ذلك ما ذكر من فعل الصحابة، إذ لا مسجد في مكة سوى المسجد الحرام ([64]).
أما في الحالة الثانية: حيث العين المراد الاستبدال بها أدر نفعا وأكثر غلة، فقد اختلفوا في حكم استبدال الوقف - تام المنفعة - بها على رأيين:
- الرأي الأول: لا يجوز استبداله، وبه قال هلال ([65])، وهو الأصح المختار ([66]).
وقد اختاره ابن الهمام؛ بحجة أن الواجب يقضي بإبقاء الوقف على ما كان عليه دون زيادة أخرى، لعدم الموجب لتجويزه، إذ الموجب إما الشرط وليس موجودا، أو الضرورة ولا ضرورة في هذه الحالة ([67]).
- الرأي الثاني: يجوز استبداله، وبه قال أبو يوسف في رواية عنه، وعليه الفتوى ([68]).
وقد ألحق الحنفية هنا حالتين جاز فيهما الاستبدال، وهما:
- الحالة الأولى: أن يغصب الوقف غاصب، ويعجز الناظر عن استرداده، ولا بينة له على الغصب، وأراد الغاصب أن يدفع قيمته، أو يصالح عنه بشيء، فإنه يجوز ولو كان الموقوف ذا ريع، ويشترى بما يؤخذ عقارا يكون وقفا بدل الأول.
- الحالة الثانية: أن يجري غاصب الأرض الموقوفة الماء عليها حتى تصير بحرا، يتعذر معه زرعها، فهنا يجب على الناظر أن يضمنه قيمة الأرض ثم يشتري بها عقارا يكون وقفا بدلها ([69]).
ولا يبدو عد هذه الحالة من الأحوال التي يستبدل فيها الوقف العامر، إذ الفرض أن الماء قد غلب على الأرض حتى صارت بحرا يتعذر معه زرعها، يؤكد هذا صاحب غمز عيون البصائر حيث قال:
"قوله: الثانية: إذا غصبه غاصب وأجرى الماء عليه الخ. قيل عليه: إن الوقف حينئذ يكون غامرا لا عامرا، فلا يحسن نظمه في سلك ما نحن فيه"([70]).
- في المذهب المالكي: يرى المالكية أنه لا يجوز بيع الموقوف إذا كان قائم المنفعة، سواء أكان عقارا أم منقولا- والحالة أن الواقف لم يذكر شيئا من أمر الاستبدال -، إلا إذا تعلق الأمر بمسجد ضاق بأهله أو بطريق أو مقبرة احتاجت إلى توسعة، فإن في بيع الوقف لأجل ذلك خلافا على آراء:
- الرأي الأول: يجوز بيع الوقف العامر، غير المسجد والطريق والمقبرة، لتوسيع هذه الأماكن الثلاثة أو واحد منها ([71]).
ووجهه أن توسيع هذه الأماكن هو من جملة مصالح الأمة، فإذا لم يبع الوقف من أجلها تعطلت تلك المصالح، وأصاب الناس عسر وضيق، والواجب الديني يحتم على كل امرئ إماطة الأذى عن الجميع، وتسهيل الحياة لهم، ولهذا جاز البيع في هذه الحال.
- الرأي الثاني: لا يجوز بيعه إلا لتوسيع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
- الرأي الثالث: إذا ضاق الجامع والى جنبه وقف للمساكين، فلا يباع لتوسعة الجامع، وان اشتري بثمنه مثله أو جزء منه، ولكن يكترى من مال الجامع، ويكون النفع للجامع في البقعة والملك لغيره، أما بيع وقف المساكين فلا، وبه قال أبو عمران.
- الرأي الرابع: لا يجوز بيع الوقف إلا لتوسيع المسجد خاصة، وبه قال ابن زرب ([72]).
وأكثر المالكية على الرأي الأول لما يلي:
- لأن السلف عملوا ذلك في مسجده عليه السلام، حيث زادوا فيه دورا موقوفة والناس متوافرون في ذلك الوقت، فلم ينكر ذلك أحد.
- ولأن منفعة المسجد والطريق والمقبرة أعم وأهم من نفع غيرها ([73]).
وعليه وقع الخلاف هل الأمر يتعلق بكل مسجد أم يختص بمساجد الجوامع فقط، على وجهين:
- الوجه الأول: يجوز بيع الوقف لتوسيع كل مسجد يحتاج إلى توسعة، وهو ما في النوادر عن الإمام مالك.
- الوجه الثاني: لا يجوز بيعه إلا من أجل توسيع مساجد الجوامع عند الاحتياج، أما مساجد الجماعات فلا، إذ ليست الضرورة في ذلك مثل الجوامع ([74]).
جاء في العمل المطلق:
وجاز بيع حبس لتوسعة طريق أو كمسجد للجمعة ([75]).
وتوجيه ذلك أن الأوقاف إنما تغير إلى المنافع العامة دون الخاصة، وذلك في مثل الجوامع، أما مساجد الجماعات فإنها خاصة، ويصح أن يكون في البلد الواحد منها كثير، فمتى ضاق مسجد بني بالقرب منه مسجد يتسع فيه ([76]).
ثم إذا أبى الموقوف عليهم - أو الناظر - بيع الوقف[(*)]، فقد اختلف الشيوخ المتأخرون في حكم ذلك على قولين:
- القول الأول: تؤخذ العين الموقوفة منهم بالقيمة جبرا، أحبوا أم كرهوا ([77])، وهذا قياس على ما روي عن ابن القاسم من أنه لا يحكم عليهم بجعل الثمن في عين أخرى تكون وقفا مكانها، لأنه إذا كان الحق يوجب أن تؤخذ منهم بالقيمة جبرا صار ذلك كالاستحقاق الذي يبطل الوقف، فلا يجب صرف الثمن المأخوذ فيه في وقف مثله .([78])
جاء في الذخيرة نقلا عن بعض الشيوخ: "يجبر الإنسان على بيع ماله في سبع مسائل: مجاور المسجد إذا ضاق، يجبر من جاوره على البيع ... وجار الطريق إذا أفسدها السيل، يؤخذ مكانها بالقيمة من جار الساقية"([79]).
- القول الثاني: لا يقضى عليهم ببيعها إذا أبوا، وهو لابن الماجشون، وهو قياس قوله: إنه يقضى عليهم أن يجعلوا الثمن الذي باعوا به في عين أخرى تكون وقفا مكانها، لأنهم إذا باعوها باختيارهم في موضع لا يحكم عليهم به لو امتنعوا منه، كان الحكم عليهم بصرف الثمن في عين تكون وقفا مكانها واجبا، لما في ذلك من الحق لغيرهم ([80]).. والمعتمد عند المالكية هو: القول الأول ([81]).
- في المذهب الشافعي: لا يرى الشافعية بيع الوقف أو استبداله إذا كان صالحا في أي حال من الأحوال.
- في المذهب الحنبلي: يميز الحنابلة في بيع الوقف العامر واستبداله بين ما إذا كان غيره كثر مصلحة منه، أو أقل، أو يساويه.
فإذا كانت المصلحة للوقف أو أهله مرجوحة في إيقاع عقد الاستبدال، كان العقد باطلا غير مسوغ، لعدم رجحان الحظ لجملة الوقف في ذلك. وكذلك الحكم إذا لم تكن راجحة ولا مرجوحة ([82])، أما إذا كان غيره كثر مصلحة منه وأنفع لأرباب الوقف، ففي حكم استبداله رأيان:
- الرأي الأول: لا يجوز استبداله، وهو للإمام أحمد. و لذلك جاء في كتاب المناقلة: "المعاوضة عن الأوقاف العامرة بالبيع والإبدال لا تجوز عند الإمام أحمد وأصحابه رضي الله عنهم، وهو متواتر عنه وعنهم"([83]).
وتوجيه هذا الرأي كما جاء في المغني: "أن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة، صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع وإن قل لا يضيع المقصود، اللهم إلا أن يبلغ في قلة النفع إلى حد لا يعد نفعا، فيكون وجود ذلك كالعدم"([84]).
- الرأي الثاني: يجوز استبداله للمصلحة، وفي هذا يقول ابن تيمية: "مع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه، لظهور المصلحة"([85]).
وهذا الرأي هو الأظهر في نصوص الإمام أحمد ([86])، وبه قال الشيعة الزيدية ([87])، غير أن الرأي الأول هو المعمول به عند الحنابلة، جاء في كتاب المناقلة: "فالقول بجواز ذلك - أي الاستبدال - والحكم به مخالف للمذهب المأذون في الحكم به، فلا يصح الحكم لعدم الإذن به"([88]).
* موازنة وترجيح:
يمكن أن نخلص من خلال موازنة آراء الفقهاء ونظرياتهم حول الحكم الشرعي لاستبدال الوقف تام المنفعة - سواء أكان عقارا أو منقولا - إلى أن من الفقهاء من حكم فقه المصلحة في قوله بالجواز، كما هو الشأن عند الحنفية على القول المفتى به، والحنابلة في رواية عن الإمام أحمد، ومنهم: من حكم فقه الضرورة في ذلك، كما هو الشأن عند المالكية، في حين نجد الشافعية والحنفية في الأصح قد منعوا البيع، سواء أترتب عنه مصلحة أم لا.
واذا تأملنا القول بالجواز وجدناه وجيها، وأكثر عدالة وتحقيقا للمصلحة، فقد تكون الدار الموقوفة مثلا في حي قد أحاطت به المتاجر من كل جانب، وسوق رائجة يقبل عليها الناس من كل حدب وصوب، وهي ضيقة قد لا تتسع لمن وقفت عليهم، فإذا بيعت كان ثمنها كبيرا، لموقعها وصلاحيتها لما يحتاج إليه التجار، فيشترى به مكان أوسع رحابا وأطيب مقاما، وأصلح للسكنى من تلك الدار التي صارت في حي صاخب لا هدوء فيه.
ونفس الشيء يقال في أرض زراعية وسط مدينة عامرة، فلو أخذنا بنظرية المانعين من الاستبدال لكان من الممكن أن نرى وسط المدن والقرى حقولا وضياعا لا ينتفع مستحقوها بعشر ما كان من الممكن الانتفاع به منها لو كانت ملكا طليقا من الوقف.
- المسالة الثانية: استبدال المسجد وأمواله.
من أعمال البر التي يخلد بها الذكر الحسن، وتنال بها الدرجات الرفيعة عند الله سبحانه: بناء المساجد للصلاة، لقوله عليه السلام: "من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة"([89])، فإذا بنيت أصبحت وقفا، وارتفع ملك العباد عنها، لقوله تعالى: (وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ)([90])، ولاشك أن وقفها من أفضل القربات، لكونها بيوت الله في الأرض، يجتمع فيها المصلون لأداء الفريضة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
واذا كان الأمر كذلك، فهل يصح بيعها واستبدالها برغم ما لها من الحرمة أم لا؟، وهل أموالها سواء الموقوفة عليها أو تلك المشتراة من غلاتها لها نفس الحكم أم لا؟، عن هذه التساؤلات نحاول الإجابة، من خلال فقرتين، نخصص الأولى لحكم استبدال رقبة المسجد، ونخصص الثانية لبيان حكم استبدال أموال المسجد.
أولا- حكم استبدال المسجد:
ونتناوله من خلال عرض الآراء الفقهية ومناقشتها على النحو التالي:
* عرض الآراء الفقهية:
- في المذهب الحنفي: إذا كان المسجد سليما، والناس من حوله يتوافدون عليه، فإنه لا يجوز بيعه عند الحنفية قولا واحدا، أما إذا كان متخربا، فقد اختلف صاحبا أبي حنيفة في حكمه على رأيين[(*)]:
- الرأي الأول: لا يباع إطلاقا، وهو مسجد أبدأ إلى قيام الساعة[(**)]، ولا يعود بالاستغناء عنه إلى الواقف ولا إلى ورثته؛ لأنه قد أسقط ملكه عنه لله، والساقط لا يعود، وهو لأبي يوسف، وحجته في ذلك القياس على الكعبة، فإن الإجماع حاصل على عدم خروج موضعها عن المسجدية والقربة.
- الرأي الثاني: لا يباع، ويعود إلى ملك الواقف إن كان حيا، أو إلى ورثته إن كان ميتا، لأنه عينه لقربة مخصوصة، فإذا انقطعت رجع إلى الملك، أما إذا لم يعلم بانيه ولا ورثته، فحينئذ يجوز بيعه وصرف ثمنه في مسجد آخر، وهو قول محمد([91]).
والفتوى على رأي أبي يوسف ([92])، وهو ما رجحه ابن الهمام ([93]).
- في المذهب المالكي: اتفق المالكية على عدم جواز بيع المسجد في أي حال من الأحوال، ومهما كانت الظروف والأسباب، حتى ولو خرب أو انتقل أهل القرية والمحلة، وانقطع المارة عن طريقه، بحيث يعلم جزما أنه لا يمكن أن يصلي فيه إنسان، مع ذلك كله يجب أن يبقى على ما هو بدون أن يباع ([94]).
- في المذهب الشافعي: لا يجيز الشافعية بيع المساجد، حتى ولو تخربت وتعذر إعادتها، كما هو الشأن عند المالكية وأبي يوسف من الحنفية، لأن ما زال الملك عنه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك ببيع أو بغيره، كما لو أعتق عبد ثم زمن لا يرد إلى الملك ([95])، ولإمكان الانتفاع بها حالا بالصلاة في أرضها ([96]).
- في المذهب الحنبلي: اختلف الحنابلة في حكم بيع المسجد إذا تخرب وتعطلت منافعه وتعذرت إعادته مسجدا، أو ضاق بأهله وتعذر توسيعه في محله، أو تعذر الانتفاع به لخراب الناحية التي هو بها، أو استقذار موضعه بما يمنع الصلاة فيه، على قولين، أقواهما: عدم الجواز، وعليه تنقل آلات المسجد ([97])، وحجة القائلين بالجواز القياس على الفرس الموقوف على الغزو إذا كبر ولم يعد صالحا للغزو مع إمكان الانتفاع به في شيء آخر، فقد أجمعوا على أنه يجوز بيعه ويشترى بثمنه ما يصلح للغزو ([98]).
وأما إذا لم تتعطل منافعه، فقيل بعدم استبداله ([99])، وقيل بجوازه للمصلحة، لما ثبت عن عمر بن الخطاب، من أنه أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد آخر، وصار المسجد الأول سوقا للتمارين [(*)]([100]).
- في المذهب الشيعي: اتفق الجعفرية على عدم جواز بيع المسجد، عامرا كان أم غامرا ([101])، على اعتبار أن وقف المسجد يقطع كل صلة بينه وبين الواقف وغيره إلا الله سبحانه وتعالى ([102]).
* مناقشة وتقييم:
إذا تأملنا القول بجواز استبدال المساجد وجدنا بعض أصحابه يستندون إلى القياس على جواز بيع الفرس الحبيس على الغزو الذي لم يعد صالحا، وهو قياس مع الفارق - كما هو واضح -، لأن المسجد موصوف بالتأبيد، على الأقل من جهة عرصته، بحيث يمكن الصلاة فيها على الدوام، في حين أن الفرس إذا تعطل تعذر الانتفاع به بأي شكل من الأشكال في الوجه المحبس فيه.
ومع ذلك فإن في هذا القول ما يحقق النفع العام، فقد يخرب المسجد وتضيق غلاته عن عمارته، ولا توجد أوقاف ينفق من غلاتها عليه، فيبقى خرابا في وسط العمران، خاوي العروش، يلقى فيه كل ما تتقزز منه النفس، فلو بيع واشتري بما يحصل بثمنه ما يصلح لأن يكون وقفا يستفيد منه الناس لكان في ذلك نفع وفائدة .
لكن إذا تأملنا القول بعدم جواز استبدالها، سواء كانت عامرة أم غامرة، - وهو ما عليه جمهور من الفقهاء - وجدناه أيضا - لا يخلو من الوجاهة- إن لم نقل أكثر وجاهة -، ذلك أن العين متى كانت مسجدا صارت أبدا بيتا لله، وخالصة له من دون عباده باتفاق المسلمين، ولذلك فمن المرفوض عادة أن نجعل المكان في زمن بيتا من بيوت الله معدا للعبادة وذكر الله، ثم نبيعه في زمن آخر لشخص قد يجعله كنيفا أو مربط ماشية أو دواب.
ثانيا- حكم استبدال أموال المسجد وتوابعه:
في الغالب أن يكون للمسجد أوقاف، كحانوت أو دار أو أشجار أو قطعة أرض ينفق ريعها على مصالحه، من إصلاح وفرش وخدم، ومن البداهة القول بأن هذا النوع لا يترتب عليه أحكام المسجد من الاحترام وأفضلية الصلاة فيه، للفرق بين الشيء نفسه، وبين أمواله وأملاكه التابعة له.
وهذه الأموال على أقسام ثلاثة، منها: ما يحدثه الناظر من ريع أوقافه، ومنها: أنقاضه التي تسقط منه، ومنها: الأموال التي يتبرع بها المحسنون عليه، ولكل قسم حكمه الخاص.
- القسم الأول: ما ينشئه الناظر من ريع الوقف.
ومثاله أن يكون للمسجد بستان، فيؤجره الناظر ويشتري -أو يبني- بناتجه دكانا لفائدة المسجد.
ومعرفة حكم استبدال هذا القسم تقتضي معرفة طبيعة المشترى، هل يعتبر وقفا أم ملكا؟، وقد انقسم الفقهاء بصدد ذلك على رأيين:
- الرأي الأول: ذهب الحنفية إلى القول المختار والشافعية والجعفرية والزيدية إلى القول بأن ما اشتراه الناظر من غلات أوقاف المسجد ليس وقفا، وانما هو ناتج ومال للمسجد، فيتصرف فيه الناظر تبعا للمصلحة، تماما كما يتصرف بثمر البستان الموقوف لمصلحة المسجد ([103]).
جاء في الدر المختار: "اشترى المتولي بمال الوقف دارا للوقف، لا تلحق بالمنازل الموقوفة، ويجوز بيعها في الأصح"([104]).
ويستثني فقهاء الشيعة الجعفرية من هذا الحكم ما إذا تولى الحاكم الشرعي إنشاء وقف ما اشتراه الناظر، ففي هذه الحالة لا يباع[(*)]، إلا مع وجود سبب يبرر البيع ([105])، أما الشافعية فلا يرون صحة وقف ما اشتري من فاضل غلات أوقاف المساجد، إلا إذا اقتضته الضرورة، كما إذا خيف عليه من يد ظالم أو خراج مرتب عليه ظلما، أو نحو ذلك، ففي هذه الحالة يجوز وقفه ([106])، والذي له ذلك هو الناظر ([107]).
- الرأي الثاني: ذهب المالكية و فريق من الحنفية إلى اعتبار ما اشتراه الناظر من غلات الوقف وقفا، ينطبق على بيعه واستبداله نفس الأحكام السابقة في استبدال غير المسجد.([108])
وقد أفتى ابن رشد بجواز بيعه - باعتباره وقفا- إذا أذن القاضي الناظر، بعد أن يثبت عنده وجه النظر في ذلك ([109]).
ولاشك في أن اعتبار ما اشتراه الناظر من غلات الوقف ملكا هو الأولى والأرجح، وليس في تحبيسه وجه من النظر، لأن الوقف يحتاج إلى أركان منها الواقف، والواقف كما هو معلوم يشترط فيه أن يكون مالكا، والناظر أو الحاكم ليس كذلك، فضلا عن أن بقاءه على الملكية فيه منفعة، لأنه قد يضطر إلى بيعه تحت أي ظرف من الظروف، كإصلاح الأعيان المشرفة على الانهدام، فإذا ما اعتبرناه وقفا، أو عملنا على تحبيسه - على القول باعتباره ملكا - منع علينا بيعه، وأصاب الوقف من جراء ذلك ضرر بين.
- القسم الثاني: أنقاض المسجد.
ومثاله أن ينهدم المسجد، فلا يبقى منه إلا نقضه، من أحجار وأخشاب وأبواب وسائر الآلات، وحكم هذا النقض فيه تفصيل المذاهب، نعرض له مع الموازنة على النحو التالي:
1- عرض الآراء الفقهية:
- في المذهب الحنفي: يرى الحنفية جواز بيع النقض في حالتين ([110]):
- الحالة الأولى: إذا تعذر إعادة عينه إلى موضعه، بيع وصرف ثمنه إلى المرمة، صرفا للبدل إلى مصرف المبدل ([111]).
- الحالة الثانية: إذا خيف هلاكه باعه الحاكم، وأمسك ثمنه لعمارته عند الحاجة ([112]).
ومحل هاتين الحالتين إذا انهدم من الوقف بعضه، أما لو انهدم كله ولم ترج عمارته صح بيع أنقاضه بأمر الحاكم واشتري بثمنها ما يحل محله، فإن لم يمكن رد إلى ورثة الواقف إن وجدوا، والا صرف للفقراء ([113]).
قال ابن عابدين: "الظاهر أن البيع مبني على قول أبي يوسف، والرد إلى الورثة أو إلى الفقراء على قول محمد، وهو جمع حسن، حاصله: أنه يعمل بقول أبي يوسف حيث أمكن، وإلا بقول محمد"([114]).
- في المذهب المالكي: قسم المالكية الأنقاض إلى ثلاثة أقسام: قسم يعلم أنه من الوقف، وقسم يعلم أنه غير وقف، وقسم يجهل أمره .
فأما القسم الأول: فقد اختلفوا في حكم بيعه على قولين ([115]):
- القول الأول: لا يجوز بيعه ولا شراؤه، كالوقف ([116]).
- القول الثاني: لا بأس ببيعه إذا خيف عليه الفساد للضرورة، أما في غياب الضرورة فينظر: إن رجيت عمارة المسجد وقف له ذلك النقض، وان لم ترج بيع وأعين بثمنه في غيره، أو صرف إلى غيره كما في فتوى لابن عرفة تقضي برفع أنقاض جوامع خربت وقع اليأس من عمارتها إلى مساجد عامرة احتاجت إليها([117]).
وأما القسم الثاني: الذي يعلم أنه غير وقف، فهذا يجوز بيعه، ومن جملة ما يعلم به أنه غير وقف أن يرى بأيدي الناس يباع ويشترى، وتنتقل فيه الأملاك على طول الزمان من غير نكير ولا ثبوت رسم بتحبيسه.
وبالنسبة للقسم الثالث الذي لا يعلم ما إذا كان وقفا أو غير وقف، أو يشك في ذلك، ولا دليل على أحد الأمرين، فهو من المتشابهات التي من تركها سلم، ومن أخذها كان كالرائع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ([118])،؛ قوله عليه السلام: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، وأن حمى الله محارمه"([119]).
- في المذهب الشافعي: لا يجيز الشافعية بيع النقض، ولا الاستبدال به، ويرون أنه لو تعطل المسجد وتفرق الناس عن بلده، أو خرب، ترك نقضه على حاله إن لم يخش عليه من أهل الفساد، يمالا حفظ، فإن رأى الحاكم أن يبني به مسجدا آخر جاز ([120]).
- في المذهب الحنبلي: علمنا فيما سبق عن بعض الحنابلة أنهم يجيزون بيع المسجد، فيكون بيع نقضه جائزا بالأولى.
- في المذهب الشيعي: يرى الجعفرية أن نقض المسجد - وغيره – لا يأخذ حكم المسجد، ولا حكم العقار الموقوف لصالحه من عدم جواز البيع إلا بمبرر، بل يكون حكمه حكم ناتج أوقافه تماما كإيجار الدكان، يتبع فيه المصلحة التي يراها الناظر ([121]).
* موازنة:
ومن هذا العرض يمكن القول: بأن الفقهاء بصدد حكم استبدال نقض المسجد على ثلاثة اتجاهات:
- الاتجاه الأول: لا يجوز بيعه أو استبداله، ويمثله الشافعية ورأي عند المالكية.
- الاتجاه الثاني: يفرق فيه بين رجاء عمارة المسجد وعدم رجائها، ففي الحالة الأولى يحفظ النقض ولا يباع، أما الحالة الثانية ففيها وجهان:
- الوجه الأول: يجوز استبداله. (وبه قال فريق من المالكية).
- الوجه الثاني: يجوز استبداله إذا كان مترتبا عن انهدام المسجد كله، أما إذا كان مترتبا عن انهدام جزء من المسجد فإنه يباع، لكن لا للاستبدال به، بل لصرف ثمنه إلى المرمة، (وبهذا قال الحنفية).
- الاتجاه الثالث: يمثله الحنابلة والجعفرية، ويفيد جواز استبدال نقض المسجد، غير أنه عند الحنابلة يستبدل به على أساس أنه وقف، أما عند الجعفرية فيباع على أساس أنه ملك.
- القسم الثالث: الأعيان التي ينشئ وقفها المحسنون لمصلحة المسجد، كمن أوصى بداره أو دكانه أو أرضه أن تكون وقفا للمسجد.
فهذه الأعيان يجري في حكم الاستبدال بها نفس الأحكام الخلافية التي سبقت في بيع غير المساجد ([122]).
المبحث الثاني
شروط صحة استبدال الوقف وأدلته.
أولا- شروط صحة استبدال الوقف:
لا يكون استبدال الوقف صحيحا - على القول به - إلا إذا روعيت فيه الشروط الآتية:
أن لا يكون البيع بغبن فاحش، لأن البيع بغبن فاحش ظلم وتبرع بجزء من عين الوقف، وذلك لا يجوز لأحد، سواء كان قاضيا أم كان غيره ([123]).
أن لا يكون لمن لا تقبل شهادته للبائع، إذ في ذلك يتطرق الاتهام، فلو باع الناظر من ولده الصغير لم يصح عند الحنفية، ولو باعه من ولده الكبير فكذلك عند أبي حنيفة، خلافا لمحمد وأبي يوسف .([124])
وقد نقل بعضهم الخلاف على غير هذا الوجه، فقال: إن كان أكثر من القيمة صح عند الكل، دمان كان بمثل القيمة صح عند الصاحبين، خلافا لأبي حنيفة، لأنه يشترط في نفي التهمة الزيادة عن القيمة، وهما يكتفيان بمساواة الثمن لها.
أما المالكية: فيرون أن الحاكم يتعقب فعل الناظر، فإن رآه صوابا أمضاه والا رده ([125]).
ويرى الحنابلة أنه لا يصح أن يبيع من نفسه ولا من ولده ووالده ونحوه ممن لا تقبل شهادته له، قياسا على الوكيل([126]).
أن لا يكون للمشتري دين على البائع، وهو يريد أن يشتري بماله عليه، لأن البائع قد يعجز عن الوفاء فيضيع الوقف، ولا سبيل لرد المبيع وقفا كما كان بعد تمام البيع.
وقد ذكر صاحب البحر حادثة فتوى كان البيع فيها لمن له دين عليه، وهذا نص ما قاله: "باع من رجل له دين على المستبدل، وباعه الوقف بالدين، ولم أر فيها نقلا، وينبغي ألا يجوز على قول أبي يوسف وهلال، لأنهما لا يجوزان البيع بالعروض، فبالدين أولى"([127]).
وشرط في الإسعاف أن يكون المستبدل قاضي الجنة[(*)]، المفسر بذي العلم والعمل، لئلا يحصل التطرق إلى إبطال أوقاف المسلمين ([128]).
وقد علق ابن عابدين على هذا الشرط بقوله: "ولعمري إن هذا أعز من الكبريت الأحمر، وما أراه إلا لفظا يذكر، فالأحرى فيه السد؛ خوفا من مجاوزة الحد، والله سائل كل إنسان"([129]).
ويقول الشيخ أبو زهرة في هذا الصدد: "وقد نخالف ابن عابدين فنقول: قد يكون أكثر من الكبريث الأحمر، ولكن أي مقياس وضع لمعرفته، وأي ميزان كان لتبينه، ذلك أمره إلى الله"([130]).
فهذا الشرط لا يبدو شرطا عمليا، لأن معرفة علاقة القاضي بربه وخوفه إياه، والكشف عما يخفي صدره من حب للدنيا وايثار لها، وغفلته عن مولاه ليس أمرا سهلا، وانما يكشف عن ذلك سيرة الرجل في عمله، فولي الأمر يجتهد ويتحرى الصالح والمعروف بالأمانة والعلم فيوليه القضاء، وبهذا الاجتهاد قد يصيب وقد يخطئ.
فشرط كهذا يسطر في الكتب فقط، ليس له ثمرة من ناحية التطبيق العملي، ولا يشك أحد ولا يمتري في أن القاضي هو قطب الرحى، فهو الذي يحافظ على حقوق الناس من الضياع، وبواسطته يسهل على الظالمين اغتصاب الوقف إن أرادوا، فأصبح الأمر متوقفا على مراقبة الله ونهي النفس عن الهوى ([131]).
ولم يشترط أحد من المالكية هذا الشرط، بل ولم يشترطوا أن يكون المستبدل هو القاضي، وان كانوا قد اختلفوا فيما إذا وقع الاستبدال بدون مطالعته على رأيين:
- الرأي الأول: إذا وقع الاستبدال بدون مطالعته كان غير تام، ويفسخ، وبهذا أفتى الشيخ محمد بن عبد القادر الفاسي ومن وافقه.
- الرأي الثاني: إن الاستبدال في هذه الحالة ماض إذا وقع على السداد، وبهذا أفتى القاضي سيدي العربي برده، مستبعدا أن تكون مطالعة القاضي من الأمور التعبدية، وانما هي معقولة المعنى، واذا كانت معقولة ووجد ذلك المعنى الذي هو المقصود منها، فلا يبقى للفسخ محل ([132]).
أن لا يكون البيع بالعروض، وهذا عند أبي يوسف، لأنه لا يجيز البيع بالعروض للوكيل، فكذا هنا، أما على قياس قول أبي حنيفة فيصح البيع بالعروض من أول الأمر بدلا ([133]).
واختلفوا - أيضا- في جواز الاستبدال بالدراهم والدنانير، فمنعه صاحب البحر، حيث قال: "يجب أن يزاد في شرائط الاستبدال أن يكون البدل عقارا، لا دراهم ولا دنانير، لأن النظار يأكلونها وقل أن يشتروا بها بدلا"([134])، وهو نفس المعنى نجده في فتوى لأبي سعيد بن لب من المالكية، حيث سئل "عن دار محبسة على مسجد، خربت وصارت رحبة، فجاء رجل فبناها من ماله وقال: أعطي فيها كذا دينارا وأصلين من القسطل..."، فأجاب: "إذا أعطى في الرحبة المحبسة الرجل الذي أراد شراءها أصل ما يملك يكون حبسا عوضا منها، ويكون في ذلك فضل بين ورجحان لجانب الحبس جاز ذلك، وأما بالثمن فلا ينبغي ([135])، وبمقتضى هذا المعنى جرى عمل أهل فاس ([136]).
ولكن صريح كلام الشيخ قاضيخان وكثير من علماء الحنفية يقتضي جواز الاستبدال بهما، على أن يشترى بالثمن عقار يكون وقفا مكان الأول ([137])، وهذا هو المنقول في المذهب الحنفي ([138])، وعليه مشى جمهور الفقهاء من المذاهب الأخرى، حيث رأوا أنه لا فرق بين أن يعاوض بعقار آخر، أو يباع ويشترى بثمنه ما يحل محله ([139]).
وإذا كانت العلة - في رأي صاحب البحر ومن حذا حذوه - هي كون الدراهم يخشى عليها من كل النظار، فقد ذهب بعضهم إلى أنه إذا كان المستبدل هو قاضي الجنة فالنفس به تكون مطمئنة، فلا يخشى من الاستبدال بالدراهم ([140]).
غير أن ابن عابدين اعترض عليه بأن قاضي الجنة شرط للاستبدال فقط لا للشراء بالثمن أيضا، فقد يستبدل قاضي الجنة بالدراهم ويبقيها عنده أو عند الناظر، ثم يعزل القاضي ويأتي في السنة الثانية من لا يفتش عنها فتضيع ([141]).
ولهذا ينبغي الاعتراف بأن في رأي صاحب البحر احتياطا واضحا لمصالح الوقف من ضياع مال البدل، سيما في هذا العصر الذي فشا فيه الفساد وتربعت على كرسيه الخيانة، وهذا ما يؤكده ابن عابدين فيقول: "ولاشك أن هذا - إشارة إلى قول صاحب البحر - هو الاحتياط، ولاسيما إذا كان المستبدل من قضاة هذا الزمن، وناظر الوقف غير مؤتمن"([142]).
كما أن دراهم البدل قد تكون عرضة لأن تستولي عليها الأيدي، إما بموت القاضي أو بموت الناظر مجهلا لها ([143]).
ثانيا- الأدلة العامة في استبدال الوقف:
إذا كنا قد رأينا في السابق حكم استبدال الوقف وشروطه، فإنه يحسن بنا هنا بيان أدلته، ليتضح المستند الشرعي لمجيزيه ومانعيه.
أ- أدلة المجيزين:
استدل القائلون باستبدال الوقف بما يلي:
بما اشتهر عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى سعد بن مالك لما بلغه أنه قد نقب[(*)] بيت المال الذي بالكوفة: أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل[(**)].
جاء في السلسبيل: "وجه الدلالة منه أنه أمره بنقله من مكانه، فدل على جواز نقل الوقف من مكانه وإبداله بمكان آخر، وهذا معنى البيع"([144]).
فهذه الواقعة اشتهرت بالحجاز والعراق، والصحابة متوافرون، فلم ينقل إنكارها ولا الاعتراض فيها من أحد منهم، فكان إجماعا، فدل هذا على مساغ القصة والإقرار عليها والرضى بموجبها ([145])، وهذه حقيقة الاستبدال .
وكما يدل هذا على مساغ بيع الوقف عند تعطل نفعه، فهو دليل أيضا على جواز الاستبدال عند رجحان المبادلة، لأن المسجد المذكور لم يكن متعطلا، وانما ظهرت المصلحة في نقله لحراسة بيت المال الذي جعل في قبلة المسجد الثاني ([146]).
بالنظر إلى قوله عليه السلام: "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"([147])، ويشهد له الهدي إذا عطب في السفر دون محله، فإنه يذبح في الحال ([148])، إذ لما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفي منه ما أمكن، وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره، لأن مراعاته مع تعذره تفضي إلى فوات الانتفاع بالكلية، وهكذا الوقف المعطل المنافع([149]).
وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم"([150]).
وجه الاحتجاج بهذا الحديث أن عمارة البيت الذي هو أشرف المساجد بين الرسول الكريم أنه لولا المانع من حدثان عهد القوم كما ذكر لهدمها وغير وضعها وهياتها طولا وزيادة من الحجر، وإلصاقا لبابها بالأرض، فدل ذلك على مساغ مطلق الإبدال في الأعيان الموقوفة للمصالح الراجحة بالأولى ([151]).
وبما أخرجه مسلم في صحيحه من أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ليس له مال سواهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، فاعتق منهم اثنين وأرق أربعة وقال له قولا سيئا ([152]).
وجه الاحتجاج به أنه إذا لم يكن له مال سواهم، فإنما ينفذ عتقه في ثلثهم، فقيل: بالإقراع تعين الثلث من كل واحد، والرسول الكريم كمل هذا الإعتاق وجمع هذا التحرير في اثنين منهم، قصدا لتكميل التحرير وطلبا لعدم تشقيص العتق، فنقل ذلك إلى الوجه الأكمل.
واذا كان هذا هو الحكم المتعين إيجابا في الإعتاق فلأن تبدل الأعيان الموقوفة عند رجحان المصالح جوازا أولى وأحرى، فإن السعي في أكمل المصلحتين وأتمهما أمر مطلوب شرعا، والأحكام في الأوقاف مشابهة للأحكام في العتق، لكون الوقف مشابها للتحرير ([153]).
وبما احتج به الإمام أحمد رضي الله عنه من إلحاق محل النزاع بموقع الإجماع، حيث جوز الأئمة الكبار بل أجمع علماء الحنابلة على جواز بيع الدواب الموقوفة إذا لم تعد صالحة لما وقفت له، فالفرس الحبيس ونحوه إذا عاد عاطلا عن الصلاحية للجهاد يجوز بيعه إجماعا وان كان فيه نفع من وجه آخر من أنواع الانتفاع من الحمل والدوران ونحوه.
ومن المعلوم أن الفرس الحبيس ونحوه لو لم يبق فيه نفع مطلقا لما أمكن بيعه، إذ لا يجوز بيع ما لا نفع فيه، فعلم أن منفعته ضعفت وجاز الاستبدال بأرجح منه، فتبين أن ذلك دائر مع رجحان المصلحة في جنس الاستبدال ([154]).
وبفعل الصحابة، فقد سوغ بعضهم نقل الملك في أعيان موقوفة، تارة بالتصدق بها، وتارة ببيعها، فعمر رضي الله عنه كان ينزع كسوة الكعبة في كل عام فيقسمها على الحجاج فيستظلون بها على السمرة [(*)]([155]).
وقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها عن كسوة الكعبة حين أخبرت أنها قد تدارك: تباع ويجعل ثمنها في سبيل الخير[(**)]، وهذا ظاهر في مطلق نقل الملك عند رجحان المصلحة ([156]).
ويبدو أن هذا الدليل هو في بيع الوقف لإنهائه، وليس لاستبداله.
ولأنه يجب المحافظة على صورة الوقف ومعناه، فلما تعذر إبقاء صورته وجب المحافظة على معناه([157]).
ولأن الأعيان الموقوفة كالدور والمزارع والمنقولات إنما وقفت ليعود ريعها على المستحقين، فالمطلوب من ذلك حصول النماء لأهله ووقوعه في أيدي مستحقيه مع زيادته واستنمائه، فإذا ظهرت المصلحة في زيادة الريع وتنمية المغل ولم يعارض معارض ظهرت مصلحة الاستبدال طلبا لتنمية المصالح وتكميلا للمقاصد ([158]).
يتبع