تقنين الأحكام الشرعية وتأثيره
على مكانة النص الشرعي
د. عبد المهدي ((محمد سعيد)) أحمد العجلوني [(*)]
ملخص البحث:
يأتي هذا البحث ليثير قضية تتعلق بمكانة النص الشرعي في عملية تقنين الأحكام الشرعية، حيث بين مفهوم النص الشرعي، ومفهوم تقنين الأحكام الشرعية، وقد عرض محاذير التقنين التي تمس مكانة النص الشرعي، كما رد عليها، وهي تتلخص بأمرين:
أحدهما: أن التقنين يؤدي إلى مفسدة تعطيل الشريعة وإحلال النظم الوضعية مكانها.
الثاني أن التقنين يجعل النص القانوني محل اجتهاد، مع أن الاجتهاد المطلوب شرعا لاستنباط الحكم إنما يكون من خلال النظر في النص الشرعي.
وقد خلص البحث إلى أن عملية التقنين لا تخرج عن دائرة الاحتكام للنصوص الشرعية من حيث هي إلزام بأحكام مستمدة من نصوص الشريعة حسب مناهج الاستنباط المقررة في علم الأصول، وهي تدخل في باب السياسة الشرعية باعتبارها إحدى التدابير التي تقوم بها الدولة الإسلامية لجلب المصالح ودرء المفاسد الواقعة أو المتوقعة، وعملية التقنين تحقق مصالح مهمة وضرورية، واعتبار المصالح مما دلت عليه النصوص الشرعية، كما أن طاعة ولي الأمر فيما لا يخالف النص الشرعي واجبة -أيضا -بنصوص الشريعة كذلك، وهذا يعني أن عملية التقنين بضوابطها وقيودها الشرعية رجوع للنصوص، وليست خروجا عنها.
المقدمة:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أن لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) (1، 2: الكهف)، والصلاة والسلام على خير قدوة وأسوة القائل: " تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم " ([1]) وبعد:
يأتي هذا البحث الموسوم ب " تقنين الأحكام الشرعية وتأثيره على مكانة النص الشرعي " ليثير قضية تتعلق بمكانة النص الشرعي في عملية تقنين الأحكام الشرعية، فلهذا الموضوع علاقة بالاحتكام للشريعة، وهو موضوع له اهميته وحساسيته، فهل تقنين الأحكام الشرعية يتعارض مع مبدأ العمل بالنص الشرعي، الأمر الذي يدعو لطرح تساؤل مهم: لمن المرجعية؟ هل هي للنص الشرعي، أم لهذا النص (القانوني) الذي تمت صياغته بما يتفق مع النصوص الشرعية؟ وأيهما تابع وأيهما متبوع؟
كما أن لها علاقة من جهة أخري بالسياسة الشرعية، باعتبار أن التقنين أحد التدابير التي تقوم بها الدولة الإسلامية لجلب المصالح أو درء المفاسد الواقعة أو المتوقعة، ومدار السياسة الشرعية على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وهذه المصالح والمفاسد منها: ما هو منصوص عليه شرعا، ومنها: ما ليس منصوص عليه شرعا -كما هو معلوم في السياسة الشرعية، وعملية التقنين تحقق مصالح مهمة عند من يرى جواز التقنين -أو وجوبه -واعتبار المصالح مما دلت عليه النصوص الشرعية، كما أن طاعة ولي الأمر فيما لا يخالف النصوص الشرعية أمر دل عليه النص الشرعي كذلك، بالإضافة إلى أن عملية التقنين عند من يرى جوازها ما هي إلا إلزام بأحكام مستمدة من نصوص الشريعة، وهذا يعني أن كلا الفريقين يدور مع النص حيث دار، وهذا يقتضي -بالضرورة -بيان وجهتي نظر يقول بها العلماء المعتبرون:
الأولى: رأي من يعارض تقنين الأحكام الشرعية، لما يرى فيه من افتئات على النص الشرعي الذي تعبدنا الله بتلاوته وفهمه وتدبره والعمل به، حيث يرى أن التقنين يحجر على المسلمين واسعا، فبدلا من أن يحتكم المسلمون لنصوص الشريعة الرحبة تجدهم يقيدون أنفسهم بنصوص مقيدة ضيقة وضعوها واحتكموا إليها، ولا يقل عن ذلك أهمية الاجتهاد المتعلق به لاستنباط الأحكام منه من خلال وجوه استنباط الأحكام، واستثمار جميع ما في النص من طاقات لا تحصر، واستبدال هذا النص الرباني بنص بشرى، حيث سيصبح -بعد التقنين -هو المرجع في استخراج الحكم وليس النص الشرعي، وسيكون جهد القاضي منصبا على استنباط الحكم من هذا النص وترك النص الشرعي، مع أن الاجتهاد المطلوب من القاضي هو اجتهاد في دائرة النص الشرعي، فما الحكم الشرعي في اجتهاد القاضي إذا كان منصبا على فهم هذا النص القانوني؟ وما الحكم إذا كان هذا الحكم مخالفا لقناعة القاضي المبنية على نظره في الأدلة الشرعية، مع أن القاضي مطالب بالحكم بالحق.
الثانية: رأي من يبيح تقنين الأحكام الشرعية، بل يراه ضرورة ملحة، قد تصل للوجوب أحيانا؛ لأن ظروف الحياة قد تعقدت وتشعبت، وقد نشأت علاقات جديدة على المستوى الداخلي للدول، وعلى المستوى الخارجي أيضا-، وكان من ضرورات ذلك وضع اجتهادات فقهية ملزمة مستمدة من النصوص الشرعية، تصاغ على شكل مواد قانونية؛ لتعالج مختلف قضايا الحياة بتفاصيلها الدقيقة في هدي تلك النصوص، وهذه الأحكام ( المواد القانونية ) ليست خروجا على النص الشرعي، بل هي اجتهادات في دائرة النص الشرعي؛ لأن نصوص الشريعة الإسلامية ومقاصدها هي المرجع لهذا التقنين، حيث أنها مستنبطة من النصوص الشرعية، ومن خلال مناهج الاستنباط المقررة في علم أصول الفقه، أو بمعنى أوسع استمداد الأحكام من خلال الرجوع لمبادئ الشريعة فيما فيه نص ومما لا نص فيه، فالنصوص الشرعية تمثل منارات لهذا التقنين لا يتجاوزها ولا يحيد عنها، فعملية التقنين لا تعدو عن كونها أحدى الإجراءات أو الوسائل أو التدابير التي تتخذها الدولة لجلب مصلحة شرعية تريد تحقيقها من هذا التقنين، أو درء مفسدة واقعة أو متوقعة، ويصبح التقنين في هذه الحالة إلزاما بأحكام شرعية تمت صياغتها بقالب قانوني؛- أي على شكل مواد قانونية -، إذ تكون عملية التقنين منسجمة مع نصوص الشريعة ومقاصدها، ابتداء من وضع هذه الأحكام، وانتهاء بالحكم بمقتضاها، أي أن هذه النصوص القانونية تابعة لنصوص الشريعة ومقاصدها، وليس العكس، وهي بالتالي لا تتعارض مع مبدأ السيادة للشرع لأن الشريعة هي مصدر تلك الأحكام، وهي تدخل في باب السياسة الشرعية، ومدار السياسة الشرعية على جلب المصالح، ودرء المفاسد، فهذا الرأي يجيز تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في جميع المجالات وفي كل المسائل التي تعرض على القضاء، سواء أكان ذلك في المعاملات المالية أم في الأنكحة أم في العقوبات أم في غيرها ما دامت تتخذ من النص الشرعي هاديا ومرجعا.
الدراسات السابقة:
حظي موضوع التقنين باهتمام الباحثين والدارسين، وقد ظهرت حول هذا الموضوع دراسات عدة أفدت منها في دراستي هذه، وقد تعددت نتائج هذه الدراسات بين إجازة التقنين ومنعه، وقد تطرق أغلبها لمفهوم التقنين ولأدلة المجيزين وأدلة المانعين، كما تطرقت لمسألة حكم إلزام القاضي بمذهب معين لا يقضي إلا به، وهي مسألة محورية؛ لأن حكم التقنين تابع لحكم الإلزام، ومن أبرزها:
" تقنين الفقه الإسلامي، المبدأ المنهج التطبيق" للدكتور محمد زكي عبد البر، وقد تكون من شقين: أحدهما نظري تعرض فيه لتعريف التقنين ومزاياه وعيوبه وحكمه ونطاقه، وفي الشق الثاني من الكتاب -وهو الجانب التطبيقي – تعرض لبعض نماذج التقنين التي كان له دور في وضعها، كتقنين أحكام الإثبات في المواد المدنية والتجارية، وقد خلص إلى إباحة التقنين.
المدخل الفقهي العام / المجلد الأول للشيخ مصطفى الزرقا، وقد توسع في بحث موضوع التقنين، وبين كثيرا من التطبيقات المعاصرة لتقنين الشريعة، التي يرى أنها ضرورة في هذا العصر، وأنه لم يعد من الممكن في هذا الزمان الاعتماد على اجتهاد القاضي، ويرى أنه لا بد من تقييده بنصوص محددة وبطريقة محددة أيضا؛ لتفسير هذه النصوص مستمدة من قواعد أصول الفقه الإسلامي، حتى القاضي المجتهد ينبغي أن يكون اجتهاده في دائرة فهم هذه النصوص وتطبيقها.
تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين" وهو بحث للدكتور عبد الرحمن بن أحمد الجرعي، وقد بين أن موضوع التقنين من القضايا التي يسوغ الخلاف فيها، بحيث لا ينكر طرف فيها على الآخر، وتطرق فيه لموضوع التقنين في المملكة العربية السعودية، وبين أن مانعي التقنين بمفهومه المعاصر لم يعترضوا على مبدأ إلزام القاضي بمذهب الإمام أحمد، بل بكتب معينه من كتب المذهب كما سيأتي، ولكنهم يعترضون على الإلزام من خلال التقنين، وقد خلص في نهاية البحث إلى جواز التقنين بضوابطه الشرعية.
"التقنين والإلزام " للدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، وقد توسع في بحث هذا الموضوع بعد أن رأى أن الأبحاث التي كتبت فيه اختصرت مادته، كما أنها اتصفت -حسب رأيه -بضعف المادة العلمية فيها، وقد -تطرق بالإضافة لما سبق- للمصالح التي تدعو للتقنين وناقشها، وبين المضار التي تقوي جانب المنع، وقد خلص فيه إلى تحريم التقنين.
"المقاصد المرعية من تقنين الأحكام القضائية في القضاء الشرعي" للدكتور عمر بن صالح بن عمر، وهو بحث علمي قدمه لمؤتمر "القضاء الشرعي في الوقت الحاضر بين الواقع والمأمول" في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الشارقة، حيث بين فيه المقاصد الشرعية للتقنين، وفند رأي القائلين بمنعه، ودلل على ذلك بما تيسر له من الأدلة الشرعية والعقلية.
وهناك أبحاث أخري أفدت منها ومن غيرها في هذا البحث، وفي خدمة موضوعه الذي حاولت فيه تسليط الضوء على موقع النص الشرعي في عملية التقنين دون الانشغال بكثير من المسائل التي بحثها كثير من الباحثين في موضوع التقنين.
خطة البحث
جاء هذا البحث في مبحثين:
أحدهما: المبحث التمهيدي، وقد جاء في ثلاثة مطالب، المطلب الأول منها في مفهوم النص الشرعي، والمطلب الثاني في مفهوم تقنين الأحكام الشرعية، أما المطلب الثالث فقد بين مفهوم السياسة الشرعية، باعتبار أن التقنين يجري عليه ما يجري على السياسة الشرعية من أحكام وضوابط، كما بين العلاقة بينها وبين المصلحة التي هي مقصود الشارع.
ثانيهما: المبحث الأول، وقد عرض محاذير التقنين التي تمس مكانة النص الشرعي، وقد جاء في مطلبين، تطرق المطلب الأول منهما لدعوى مانعي التقنين بأنه يؤدي إلى مفسدة تعطيل الشريعة وإحلال النظم الوضعية مكانها، وتطرق المطلب الثاني لدعوى مانعي التقنين بأن الاجتهاد في استنباط الحكم يكون من خلال النظر في النص الشرعي والتقنين يجعل النص القانوني محل الاجتهاد.
تحرير محل النزاع :
ليس موضوع الخلاف في هذه القضية تدوين الأحكام على طريقة أهل القانون: أي صياغة الأحكام الشرعية المستمدة من نصوص الشريعة ومبادئها على شكل مواد قانونية، فهو شكل معاصر من أشكال تدوين الفقه الإسلامي لم يقل أحد بتحريمه.
وليس موضوع الخلاف -أيضا -في أن يأتي عالم أو مجموعة علماء، يرجحون في مسائل معينة ما يرونه بالدليل، ويقولون: هذا هو الراجح حسب رأينا واجتهادنا ونوجب العمل به، فهذا مما لا خلاف في جوازه، بل هو الأمر الذي سار عليه علماء الإسلام في مختلف العصور، حيث يبحث كل واحد منهم المسألة ويصل من خلال بحثه لرأى راجح ملزم له شرعا؛ ولمن يقلده ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد.
وليس موضوع الخلاف - أيضا -سن القوانين التي تتعارض مع النصوص الشرعية، كما هو الحال في القوانين الوضعية في الإثبات، أو العقوبات، أو، المعاملات المالية، أو غيرها من المجالات واستمدادها من مصادر غير شرعية، أو من مصادر متعددة، من ضمنها النصوص الشرعية، فهذا مما لا خلاف في حرمته، حتى وإن وافق في بعض مجالاته النصوص الشرعية؛ لأن وجوب الاحتكام لنصوص الكتاب والسنة محل إجماع بين المسلمين. ([2])
كما أن هناك مساحة من التقنين مسموح بها باتفاق، ومثالها بعض الإجراءات التي تسير فيها الدعوى: كتحديد المدد الزمنية، وموضوع التبليغ، وما شابهها، فهذه أيضا لا تثريب في تدوينها والإلزام بها، فهذه الأمور مما لم ينص عليها شرعا، وتقتضي المصلحة ضبطها بنصوصه قانونية، فهناك فرق عند مانعي التقنين بين تقنين ما يتعلق بالإجراءات المتعلقة بالدعوى " فهي محل اتفاق، وبين تدوين ذات الأحكام التي سيحكم بها القاضي في المعاملات مثلا، أو الأنكحة، أو العقوبات، حيث منعوا من تقنينها.
من خلال ما تقدم يتضح أن موضوع الخلاف هو: استمداد الأحكام من مصادرها الشرعية المعتبرة، وصياغتها على شكل مواد قانونية، واعتبار هذه المواد مرجعا للأحكام، وإلزام الإمام (الدولة) المكلفين بها، وإلزام القضاة بالحكم بموجبها وعدم مخالفتها، ونقض حكم القاضي أن خالفها.
المبحث التمهيدي
مفهوم النص ، التقنين ، السياسة الشرعية ، وعلاقتها بالمصلحة
مما لا بد منه قبل الحديث عن علاقة التقنين بالنصوص الشرعية من بيان مفهوم النص الشرعي، ومفهوم تقنين الأحكام الشرعية، ومفهوم السياسة الشرعية، باعتبار أن التقنين يجري عليه ما يجري على السياسة الشرعية من أحكام وضوابط، وبيان العلاقة بينها وبين المصلحة التي هي مقصود الشارع.
المطلب الأول
مفهوم النص
معنى النص لغة: للنص في اللغة معاني عدة، منها: رفع الشيء وإظهاره وإبرازه ليكون في غاية الوضوح والشهرة، ومنه الوضع على المنصة، وهي: ما تظهر عليه العروس لترى، ويعني -أيضا -التوقيف، والتعيين على شيء ما، وأصل النص: منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها. ([3])
النص عند علماء الشريعة: المراد بالنص عند علماء الشريعة، هو: كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة ([4])، سواء أكانت دلالة هذا النص قطعية أم كانت ظنية، وهذا المعنى هو المراد بالنص في تقسيم الأصوليين للدلالات: عبارة النص، ودلالة النص، وإشارة النص، واقتضاء النص ([5])، وهذا الإطلاق للنص قديم، فقد أورده الإمام الشافعي في مقابل الاستنباط ([6])، فالنص عنده يقابل الاستنباط أو الاجتهاد ([7]). وعرف النص بأنه: خطاب يعلم ما أريد به من الحكم، سواء أكان مستقلا بنفسه، أم علم المراد به بغيره " ([8])، ومن هذا الإطلاق: ما يذكره العلماء من قولهم: أن الأدلة الشرعية هي: النص، والإجماع، والقياس و..... الخ، فالمراد به اللفظ أو الكلام الصادر عن المشرع لبيان التشريع، ويتمثل هذا في المصدرين الأساسين للتشريع الإسلامي، وهما: الكتاب، والسنة. ([9])
علاقة النصوص الشرعية بالأحكام الشرعية: الحكم الشرعي هو ثمرة النص الشرعي حسب تعبير الإمام الغزالي الذي قسم مباحث علم أصول الفقه إلى أربعة: ثمرة، ومثمر، ومستثمر، وطريق استثمار، فالمثمر هو: النص الشرعي، وسماه بالدليل، والثمرة هي: الحكم الشرعي، والمستثمر هو: المجتهد الذي يقوم باستخراج الأحكام من أدلتها، وطريق الاستثمار هي مناهج الاستنباط التي يتبعها المجتهد في استخراج الحكم الشرعي من دليله. ([10])
والقاضي أو المفتي حينما تعرض عليه واقعة تتطلب حكما فإن هاديه في ذلك نصوص الكتاب والسنة، فهي مرجع الأحكام، فهو يستمد الأحكام من نصوص الشريعة عند وجود النص، ومن قواعدها العامة، حيث لا يجد النص؛ ليصل إلى الحكم الذي هو ثمرة لعمله الاجتهادي، وما نحن بصدد الحديث عنه -وهو التقنين وعلاقته بالنص – أن تقنين الأحكام الشرعية لا يبقيها في درجتها من حيث هي حكم ناشئ عن عملي اجتهادي قابل للنظر من قبل من وضعه أو من غيره " لتصبح تلك الأحكام بمنزلة الأدلة التي يعتمد عليها القاضي في استنباط الأحكام؛ أي أنها تصبح نصا واجب التطبيق من قبل القاضي، ويكون حكمه معرضا للنقض عند مخالفته.
النص في عرف القانونيين: تقدم أن تقنين الأحكام الشرعية يجعل تلك الأحكام بمنزلة الأدلة الشرعية التي يعتمد عليها القاضي في استنباط الأحكام، أي أنها تصبح واجبة التطبيق من قبل القاضي، ويكون حكمه معرضا للنقض عند مخالفته، وبالتقنين ننشئ نصوصا قانونية أمرة أي: واجبة التطبيق " ذلك أن القوانين كلها تأتي على شكل نصوص، وهذه النصوص تعتبر قوالب لغوية تقدم بها القواعد القانونية التي يريدها المشرع؛ ولما كانت النصوص هي الألفاظ المعبرة عن إرادة المشرع كان لابد أن تأتي هذه النصوص على نحو من الدقة يجعلها معبرة عن الإرادة الحقيقية للمشرع. ([11])
المطلب الثاني
تعريف تقنين الأحكام الشرعية
تعريف التقنين لغة: تقدم أن المراد بالتقنين موضوع البحث هو وضع القوانين وسنها، وقد وردت كلمة التقنين وكلمة القانون في المعاجم اللغوية، وإن كانت كلمة " قانون " دخيلة، وليست بعربية، فالتقنين من الفعل قنن، والقوانين الأصول، الواحد قانون، وقانون كل شيء طريقه ومقياسه. ([12])
التقنين اصطلاحا: أورد كثير من العلماء المعاصرين تعريفات عدة للتقنين، وسأبدأ بذكر تعريف التقنين بمعناه العام، ثم تعريف تقنين الأحكام الشرعية، ثم اذكر تعريفي للتقنين -موضوع البحث -:
التقنين بمعناه العام: عرف الشيخ مصطفى الزرقا التقنين – بوجه عام – بأنه جمع الأحكام والقواعد التشريعية المتعلقة بمجال من مجالات العلاقات الاجتماعية، وتبويبها وترتيبها وصياغتها بعبارات آمرة موجزة واضحة في بنود تسمى (مواد) ذات أرقام متسلسلة، ثم إصدارها في صورة قانون أو نظام تفرضه الدولة، يلتزم القضاة بتطبيقه بين الناس. ([13])
تعريف تقنين ال أحكام الشرعية:
عرف الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله -تقنين الفقه الإسلامي بأنه: تطبيق طريقة التقنين -الآنف الذكر -على الأحكام الفقهية المأخوذة من مذهب واحد. ([14])
ويرى الدكتور شويش المحاميد أن التقنين: صياغة الأحكام الفقهية ذات الموضوع الواحد التي لم يترك تطبيقها لاختيار الناس، بعبارات آمرة يميز بينها بأرقام متسلسلة ومرتبة ترتيبا منطقيا بعيدا عن التكرار والتضارب. ([15])
والتقنين عند الدكتور محمد خالد منصور: وضع قواعد متعلقة بقانون الأحوال الشخصية، أو القانون المدني، أو الجنائي، أو غيره، في مجموعة على شكل مواد فقهية مرتبة ومبوبة يرجع إليها القاضي عند التطبيق ([16]). كما عرف منصور التشريعات القضائية الشرعية بأنها: ما وضعه المقننون من مواد محددة على شكل قانون شرعي يتحاكم إليه الناس في موضوعات مخصوصة وإلزام القاضي والمتحاكمين إليه. ([17])
ويرى الدكتور عبد الرحمن الحميضي التقنين أنه: اختيار القول الراجح في المذهب، أو اختيار أحد أقوال المذهب، أو اختيار أحد أقوال المذاهب الأخرى الذي يعتمد على الدليل الأقوى، أو اختيار القول الذي يحقق مقاصد الشريعة في تحقيق المصالح ودرء المفاسد ورفع الحرج والمشقة عن الناس، وتخفيف العبء عنهم، وتسهيل أعمالهم ومصالحهم، وجمع هذه الاختيارات ووضعها في قانون مدون مسطور مرتب. ([18])
وقد عرف عبد الرحمن الشثري التقنين بأنه: صياغة الأحكام الشرعية في عبارات إلزامية، لأجل إلزام القضاة بالحكم بها. ([19])
على ضوء ما سبق يتضح لنا أن تقنين الأحكام الشرعية يراعى فيه الجوانب التالية ([20]):
ما يتعلق بالصياغة، حيث يصاغ بطريقة معينة على غرار المواد القانونية.
الترتيب والترقيم والتبويب لهذه المواد، وهي تجعل الرجوع للأحكام سهلا.
أنها ملزمة، وقد عبر بعضهم بأنها آمرة، وأن يكون هذا الإلزام من صاحب الولاية وهو الإمام أو من ينيبه (أي الدولة).
أنها ذات موضوع الواحد، فقد تكون في أحكام الأسرة (الأحوال الشخصية) أو المعاملات المالية أو العقوبات.
ولا بد حتى يكون التقنين شرعيا أن يكون هذا التقنين مستمدا من النصوص الشرعية مباشرة، أو بالاستنباط، أو بعبارة أوسع من خلال مناهج الاجتهاد المقررة شرعا فيما فيه نص وفيما ليس فيه نص.
تعريف الباحث لتقنين الأحكام الشرعية: من خلال ما تقدم يمكن تعريف تقنين الأحكام الشرعية بأنه: إلزام الإمام أو من ينيبه ممن هم تحت ولايته العامة بأحكام شرعية تتعلق بموضوع معين من إقعال المكلفين، مستمدة مع نصوص الشريعة ومقاصدها ومبادئها العامة، مدونة علي شكل مواد قانونية مرقمة ومرتبة ومبوبة.
المطلب الثالث
مفهوم السياسة الشرعية وعلاقته بالتقنين، وعلاقة كل منها بالمصلحة
مفهوم السياسة الشرعية وعلاقته بالتقنين: التقنين -كما تقدم -داخل في باب السياسة الشرعية، وهي التدابير والإجراءات والأحكام التي تنظم بها مرافق الدولة وتدبر بها شؤون الأمة مع مراعاة أن تكون متفقة مع روح الشريعة نازلة على أصولها الكلية محققة لأغراضها الاجتماعية، ولو لم يدل عليها شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنة ([21])، فهي تشمل جميع ما يقوم به الإمام من تدابير لتحقيق مصالح الناس، دون تقييده بمجال محدد من مجالات الحياة، سواء أكان مما ورد به نص أو مما لم يرد نص، فسياسة الرعية بمعنى القيام على تدبير شؤونهم بما يصلحها. ([22])
وما يجري على السياسة الشرعية من أحكام وشروط وضوابط ومناهج يجري على التقنين؛ باعتباره أحد التدابير التي تقوم بها الدولة لتحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم، فالتقنين جزء من السياسة الشرعية، وهي مرتبطة بالنصوص الشرعية وبمقاصد الشريعة التي تهدف إلى تحقيق المصالح للأمة ودفع المضار عنها، حيث نتمكن من خلالها من مسايرة التطورات الاجتماعية، والوفاء بمطالب الحياة المتجددة، وذلك باستنباط الأحكام لما يجد من الحوادث والوقائع التي لا نجد لحكمها نصا أو إجماعا، وبتطبيق النصوص الشرعية - أيضا -على وجه يحقق مصلحة الأمة في جميع الأحوال والأزمان والأماكن، ويتفق والشريعة الإسلامية.
ولابن القيم نظرته الفريدة في علاج هذا الموضوع، حيث تحدث عن السياسة الشرعية في معرض حديثه عن وسائل الإثبات التي يسعى القاضي من خلالها للوصول للعدل الذي هو مقصد الشارع، حيث عرف السياسة الشرعية بأنها " الأمارات والعلامات التي يظهر بها عدل الله " ([23])، وقد بين أهمية موضوع الاجتهاد في وضع الأحكام التي تحتاجها الدول في كل زمان، حيث جعل العلماء بين أحد أمرين: التوسع في وضع الأحكام من النصوص مباشرة، أو على هدي تلك النصوص عند عدم وجود النص من أجل تسيير أمور الدولة بهدي الإسلام، أو الجمود عند ما هو منصوص عليه، وهذا يعطي الذريعة لمن يريد إخراج الناس عن شرع الله سبحانه بأن كثيرا من الأحكام التي تحتاجها الدولة ليست موجودة في النصوص " مما يعطي ذريعة لتجاوز الشريعة والاحتكام لغيرها. ([24])
ويلحظ من كلام ابن القيم ذلك الفهم العميق الواسع لعموم السياسة الشرعية وشمولها لكل ما يمكن من خلاله تحقيق مصالح العباد دون تجاوز للنصوص الشرعية، وتوسيع دائرة الاجتهاد لمواكبة المتغيرات؛ حتى لا يتخذ من يريد تجاوز الشريعة الذرائع لتجاوزها بحجة أنها لا تواكب حاجة الناس، واتهام الشريعة بالجمود والنقص، فالشريعة قد فتحت هذا الباب واسعا، وأعطت للحاكم مساحة واسعة جدا في الاجتهاد في كافة المجالات، دون أن يكون مصادما للشرع ومخالفا لأحكامه، ومن هذه المجالات موضوع التقنين.
ويعلق الشيخ مصطفى الزرقا على قول ابن القيم رحمه الله: "....ذكر ذلك ابن القيم خلال بحثه عن السياسة الشرعية وما تقتضيه من إنشاء الأحكام للناس بحسب دواعي الحاجة والمصلحة، وما يكون من تلك الأحكام السياسية المحدثة نافعا موافقا لروح الشريعة أو مضرا مخالفا، وقد أتى رحمه الله في هذه المناسبة بكلام نفيس جدا عن مبدا وأسباب استحداث ما سماه " القوانين السياسية " أي الأحكام المسنونة بأوامر ولاة الأمر؛ بناء على دواعي السياسة الشرعية......، وقد دل تعبير ابن القيم بلفظ القوانين السياسية على أن اطلاق القوانين على معنى الأنظمة التشريعية الزمنية كان مستعملا في اصطلاح الفقهاء قبل ابن القيم. ([25])
والالتزام بهذه القوانين والنظم التي وضعها الحاكم ملزمة، يجب طاعته فيها، كما يجب طاعته في غيرها، ما لم يأمر بمعصية، استدلالا بعموم الأدلة التي دلت على وجوب طاعة أولي الأمر. ([26])
التقنين والمصلحة: يقصد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم (دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم)، فكل ما حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة، أو بعبارة أخري هي المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق. ([27])
ولا تخفى تلك العلاقة المتلازمة بين السياسة الشرعية وبين المصلحة، التي هي مقصد الشارع، فالمصلحة هي الغرض من السياسة، فبما أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح الناس، فالسياسة الشرعية -كذلك -تتضمن المحافظة على تلك المصالح ورعايتها، وهذه المصالح منها: ما هو منصوص عليه، ومنها: ما ليس منصوصا عليه، وقد فتحت السياسة الشرعية الباب أمام الحاكم ليجتهد فيما شاء من إجراءات وقرارات تضمن تحقيق تلك المصالح ما لم تصادم نصا شرعيا بشكل قطعي، حتى ولو لم يرد في هذه القرارات والإجراءات نص شرعي، وقد توسع ابن القيم رحمه الله في كتابه " الطرق الحكمية " في ذكر الكثير من الأمثلة من حياة النبي وخلفائه من بعده تدل على العمل بالسياسة الشرعية لتحقيق المصلحة عند عدم وجود النص.
فالإمام ملزم -بحكم ولايته العامة -بالعمل على جلب المنافع ودفع المفاسد، بناء على القاعدة الفقهية " التصرف على الرعية منوط بالمصلحة " ([28]) والمقصود بالمصلحة الأصلح، والمعنى "إن إنفاذ تصرف الراعي على الرعية ولزومه عليهم شاءوا أم أبوا معلق على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن تصرفه دينية كانت أم دنيوية " ([29]) كما أنه ملزم بدفع الضرر عن الناس، ومن القواعد المتعلقة بذلك قاعدة "الضرر يزال " ([30]) وقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" ([31]) وقاعدة "الضرر يدفع بقدر الإمكان " ([32]) وعليه مراعاة حاجاتهم، وضرورات حياتهم، وهناك الكثير من النصوص والقواعد التي تضبط أفعاله في ذلك كقواعد "رعاية الضرورات مثل: قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات " ([33])، وقاعدة "ما ابيح للضرورة يقدر بقدرها" ([34])، وقاعدة "الحاجة تنزل منزلة الضرورة " ([35])، وقاعدة: "ارتكاب أخف الضررين " ([36]).ومما ينبغي أن يشار إليه: أن التقنين ينبغي أن ينظر إليه من خلال هذه القواعد.
المصالح التي يحققها التقنين: تقدم الحديث عن تلك العلاقة المتلازمة بين السياسة الشرعية وبين المصلحة التي هي مقصد الشارع، حيث أن المصلحة هي الغرض من السياسة، وتقدم الحديث -كذلك -عن علاقة التقنين بالسياسة الشرعية، وأن التقنين يدخل في جميع مجالات السياسة الشرعية ويجرى عليه ما يجري على السياسة الشرعية من أحكام، فهما كالشيء الواحد في هذه الأحكام، ومن هاتين المقدمتين يتضح لنا أن المصلحة هي الغرض الأساس من التقنين، فالمقصد الأساس من التقنين تحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم، ومنها:
تحقيق العدل: العدل من أهم الأسس والمرتكزات لنظام الحكم في الإسلام بشكل عام وللنظام القضائي بشكلي خاص، وهذا المقصد هو أهم ما يرتكز عليه دعاة التقنين، وهو المساواة في الأحكام المتماثلة في المسائل الاجتهادية، وضبط الأحكام القضائية بدقة أكبر، وهذا العدل هو من أهم؛ حكم إرسال الرسل وإنزال الكتب، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (النحل: 90)، فالعدل امر فرض الله سبحانه على المسلمين السعي لإقامته في الأرض " وليكون من أبرز خصائصهم بين الأمم " لأن دينهم دين العدل. حتى قال عمر رضي الله عنه بأنه " لا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء"، وقال ابن تيمية بوجوبه على كل أحد وفي كل شيء. ([37])
وللتقنين دور كبير في تحقيق العدل في مختلف المسائل، سواء ما تعلق منها بإجراءات التقاضي، أو العقوبات التعزيرية، أو غيرها من الأحكام التي لم ينص عليها في النصوص الشرعية، وبقي المجال فيها للاجتهاد، حيث يتم جمع الأحكام في مدونة واحدة تسهل عملية التعرف على الحكم الذي تسير عليه الدولة والمجتمع، كما ويسهل على ولاة الأمر مراقبة أعمال القضاة وتمييز الأحكام الصحيحة من الباطلة، كما يساعد على تحقيق المساواة والعدل بين الناس؛ للحكم بينهم بحكم واحب في القضايا المتشابهة، ويسير جميع الناس على حسب منهج واحد وإجراءات واحدة، ويؤكد هذا الأمر: الحرص على الدقة والنظام، وتحديد الأحكام والإجراءات مسبقا بالنسبة للقضاة والخصوم. ([38])
ومقاصد القضاء: من إقامة العدل، وتحقيق مصالح العباد، ومنع التظالم، وفصل الخصومات ورد المظلمات، وإقامة الحدود، وردع الظالم، ونصرة المظلوم، قد يحول دونها كثرة اختلاف القضاة اليوم في القضايا المماثلة، مع ضعف القريحة، وقصر النظر وتسلط الهوى على ضعاف النفوس من القضاة ؛ مما أوجد الريبة في الأحكام والشك في القضاة، ومن هذا المنطلق يكون التقنين كفيلا إلى حد ما بتحقيق العدالة على جميع الناس دون تمييز بين كبير وصغير، غني وفقير، ومسلم وذمي وهو أدعى -كذلك -لتحقيق المساواة بين الناس، وطمأنة نفوسهم تجاه القضاة. ([39])
ما استجد في هذا الوقت من توسع المحاكم وتعدد اختصاصاتها وكثرة قضاياها وتشعبها نظرا لتعقد نواحي الحياة، الأمر الذي تطلب تكثير القضاة وزيادة عددهم، وعدم وجود عدد كاف من المجتهدين نظرا لضعف الملكة العلمية بشكلي عام عند طلاب العلم في الكليات الشرعية التي تخرج القضاة بالإضافة إلى انفتاح المجتمعات الإسلامية على بعضها وعلى المجتمعات العالمية، وهذا الانفتاح نتجت عنه علاقات متعددة لابد من ضبطها بأحكام واضحة محددة، وأن غيرنا سيطالبنا بها، إذا أردنا أن نقاضيه إلى شرعنا، فلا يمكن أن نحيله إلى مجموعة من كتب الفقه المذهبي أو المقارن، فإن لم يوجد شيء مقنن ومرتب، فإما أن تفوت علينا مصالح لا نستغني عنها، وإما أن نتحاكم إلى قوانين ليس لها علاقة بالشريعة الإسلامية، فلا بد من وجود مرجع محدد يأخذون منه، يعرفون منه ما لهم وما عليهم، وهذا المرجع غير متوافر، فيكون المرجع اجتهاد القاضي، وهذا يؤدي لمشكلات كثيرة. ([40])
كثرة الخلاف في الفقهيات، لا بين المذاهب فقط، بل حتى داخل المذهب نفسه، فيكون هناك مجال للحكم في قضية واحدة على أحد القولين أو الأقوال والحكم بقضية أخري على القول الثاني أو أحد الأقوال؛ ومعنى هذا أن الحكم قد يكون بالتشهي، وفي الإلزام بأحكام معينة دفع لذلك، وقد يكون قضيتان متماثلتين هذه عند قاضي بلد، والثانية عند قاضي بلد أخر، فيختلفان في الحكم فيها، فينتج عن هذا التباين تظلم ووقيعة في عرض القضاء والقاضي، وأنه يقع تجادب بين حاكم القضية ومدقق الحكم، لا من حيث واقع القضية، ولكن من حيث تطبيق الحكم الشرعي على واقعها، ففي هذا من الأضرار كما في سابقه. ([41])
حاجة المستجدات إلى حكم شرعي يتم بالنص عليها في التقنين، وتركها لاجتهاد القضاة ليس من الحكمة " لكثرة مشاغلهم، وعدم تفرغهم للبحث والاستقصاء في كل مستجد، وخصوصا مع تطور الحياة، وكثرة المستجد فيها، ومن الأمثلة على ذلك: المعاملات المصرفية، ومسائل المقاولات، والمناقصات، وشروط الجزاء، ومشكلات الاستيراد والتصدير والتأمين بمختلف جوانبه، ونحو ذلك، مما لا قدرة لغالب القضاة على معرفة الحكم الذي يحكمون به في الخلاف حولها، مما كان سببا في إيجاد محاكم أخري، لها جهة إدارية مستقلة عن الجهة الإدارية للمحاكم الشرعية، و مما كان سببا في اشتمال هذه المحاكم على قضاة قانونيين يشتركون مع القضاة الشرعيين، وذلك كمحاكم فض المنازعات التجارية.([42])
توحيد الكلمة وتحقيق الوحدة؛ إذ عدم التقنين يفسح المجال لاجتهاد كل قاض بما يراه؛ مما ينتج عنه اختلاف القضاة في المسألة الواحدة، وهذا قد يؤدي إلى التنازع والاختلاف. ومهما قيل: بأن التقنين لا يرفع الخلاف -كما يراه المانعون من التقنين -فإنه -ولا شك -يحد من الاختلاف، ويقرب بين وجهات النظر. ([43])
يؤكد ذلك وقوع أحكام اجتهادية قضائية في قضايا مماثلة مع انعدام أحكام مقننة يفسح المجال لاجتهادات قد تكون مختلفة في مسألة واحدة. ([44])
ومن أمثلته ما حصل من اختلاف وجهات النظر لدى محكمتي التمييز في الرياض ومكة المكرمة، فقد سبق أن قامت محكمة التمييز بالرياض بنقض حكم بالقسامة صادر من محكمة الرياض، لأنه كان مبنيا على قولي مرجوح في المذهب الحنبلي، بينما كانت محكمة التمييز في مكة المكرمة تشير إلى المحكمة الكبرى بمكة في قضية قتل بأن تحكم فيها بالقسامة بالقول المرجوح الذي قامت محكمة التمييز في الرياض بنقض الحكم المبني عليه. ([45])
ومن أمثلة التقنيات التي وضعت لتحقيق تلك المصالح على سبيل المثال: وضع نظام للمرور، حيث يقول الدكتور عبد العزيز عمر: " مما استجد في هذا العصر وزاد حتى صار ضرورة الوقت: وسائل النقل -السيارات -إلا أن هذه الوسيلة – وهي نعمة كبرى -قد يساء استخدامها من قبل بعضهم، فكان لوازم ضرورياتها أن يوضع نظام يضبط استخدامها، ويحمل المسؤولية كلها لمستخدمها؛ إذ هي آلة في يده يتصرف بها كيف يشاء فانحصرت المسؤولية فيه أي في السائق، وقد أصبح وضع هذا النظام ضرورة تقوم عليها حياة الناس، بحيث تختل أمور حياتهم وتضطرب باختلاله، والذي يضع هذه النظم هو الحاكم ومن ينوب منابه؛ رعاية لمصالح الأمة وتدبيرا لشؤونها، وذلك من خصوصياته وواجبات الأمة عليه، وأساس ذلك: مراعاة المصلحة لهم، جلبا للمنفعة، ودفعا للمضرة والمفسدة " ([46])
المبحث الأول
محاذير التقنين التي تمس مكانة النص الشرعي
يرى مانعو التقنين أن التقنين لا يخلو من محاذير تؤثر على مكانة النص الشرعي، حيث قالوا: أنه يمهد الطريق لترك نصوص الشريعة بالكلية، كما أنه يتناقض مع ما أوجبه الله تعالى على القاضي من الحكم بالحق، وذلك لا يتحقق إلا من خلال النظر في النصوص الشرعية لا في نصوص القانون، وقد تطرق هذا المبحث لهذين المحذورين في مطلبين منفصلين.
المطلب الأول
مفسدة تعطيل الشريعة و إحلال النظم الوضعية محلها وترك النصوص الشرعية واستبدالها بالنصوص القانونية
يرى مانعو التقنين أن مسألة تقنين الشريعة لا تعدو عن كونها فخا يراد منه ألا يفاجئوا حملة الشريعة ودعاتها بالنظم الوضعية قبل سابق تمهيد، حيث يمهدون الطريق أمامها بالدعوة إلى قانون تستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية ([47])، ومقتضى هذا القول أن أعداء الشريعة يريدون طمس معالمها وتنكب طريقها، ولكنهم لا يستطيعون أن يجاهروا بذلك؛ لعظم وقعه على الأمة؛ لأن الاحتكام لنصوص الشريعة عندها ليس موضع مهادنة ونقاش، فيقولون لهم: نحن لا نريد ترك الشريعة، وإنما نريد إقرار أحكام مستمدة من الشريعة سهلة التطبيق تراعي العدالة بين المكلفين، هذه العدالة التي هي مقصد القضاء، فإذا استساغ المسلمون ذلك دخلوا عليهم بالقوانين الوضعية، وتركوا كتاب ربهم وسنة نبيهم، كما حصل في كثير من بلاد المسلمين، وإذا تنكب المسلمون طريق كتاب ربهم وسنة نبيهم ضلوا، ومصداق ذلك قول النبي عليه السلام: "تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أن اعتصمتم به، كتاب الله " ([48])، وقوله عليه السلام: " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي " ([49])، ولما كان التقنين يفتح المجال لابتعاد الأمة شيئا فشيئا عن كتاب ربها وسنة نبيها وطريقا لهجر الكتاب والسنة وترك العمل به، كان لا بد من منعه من باب سد الذرائع
رأي الباحث في هذه المفسدة :
لا بد قبل مناقشة هذا القول من البدء بما هو متفق عليه، وهو مسألة تطبيق الشريعة وعدم نبذها والاحتكام إليها، وهو أمر مفصلي يعتمد عليه مانعو التقنين:
التقنين ومسألة تحكيم الشريعة :
أن مسألة تحكيم الشريعة من المسائل المتفق عليها بين المسلمين، فهي فريضة شرعية امر الله تعالى بها المسلمين حكاما ومحكومين، وقد دل على ذلك قطعيات الشريعة ([50])، ويقتضي هذا المبدأ بالضرورة الإيمان بالتشريع المنزل من عند الله باعتباره منهجا واجب التطبيق في كافة شؤون الحياة، كما يتضمن القيام بذلك عمليا بالاحتكام لمنهج الله في كل صغيرة وكبيرة. ([51])
وكلا الفريقين -مانعو التقنين ومجيزوه -متفقان على أن تحكيم شرع الله من اهم وسائل الإصلاح وطريق تحقيق العدل، فأحكام الكتاب والسنة هي الأحكام العادلة" لأنها أحكام صادرة من ربنا جل وعلا، وسواها أحكام ظالمة جائرة، مهما أراد واضعوها أن يوجدوا للخليقة أحكاما تعدل بينهم يصلح بها الخلق فلن يستطيعوا، فبالاحتكام لنصوص الشريعة يمكن تحقيق مصالح الناس الحقيقية، ويتحقق البعد عن المصالح الموهومة المزعومة: فالمصالح الحقيقية للإنسان هي: المصالح التي جاء بها الشارع الحكيم؛ لأنها من لدن لطيف خبير قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك :14)، والتشريعات البشرية التي أحلت الخمر والزنا والشذوذ والمجون وغيرها فأي مصلحة للبشرية فيها، فشرع الله كله خير، وقد قال النبي عليه السلام: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" ([52])، وقال عليه السلام: "تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي " ([53]) وقال تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 179).
وكلا الفريقين متفقان على أن الشريعة الإسلامية منهج حياة متكامل صالح لكل زمان ومكان: فالله تعالى حينما امرنا بأن نحتكم له وضع لنا شريعة محكمة – وهي الإسلام -، صالحة لكل زمان ومكان، بدليل قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: 3)، وقد نص الكتاب والسنة على كثير من الأحكام التفصيلية لتنظيمها كالأحكام المتعلقة بالأسرة والحدود، كما وضعت الشريعة القواعد العامة لاستنباط الأحكام فيما لم يرد فيه نص صريح، وقال الله تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) (123-124: طه)، والآية على عمومها في كل زمان وفي كل شأن، وقال صلي الله عليه وسلم في وصيته الجامعة في حجة الوداع: " تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم " ([54]) والاعتصام به لا يقتصر على جانب دون جانب بل بكل ما أمر به وكل ما نهى عنه.
فمحل الاتفاق بين مانعي التقنين ومجيزيه هو: أن مرجعية الأحكام هو النص الشرعي الذي انزله الله سبحانه في كتابه أو على لسان رسوله صلي الله عليه وسلم، وموضوع الخلاف في استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وتدوينها على شكل مواد قانونية والإلزام بها ممن له سلطة الإلزام وهو الإمام أو من ينيبه.
والسؤال المهم: هل يمكن أن تجري عملية التقنين دون مصادمة هذا المبدأ؟ بمعنى هل يمكن تقنين الأحكام الشرعية المستنبطة من القران والسنة مع بقاء أحكام هذه النصوص نافذة وقائمة وموجودة؟ وهذا يقتضي بيان طبيعة الأحكام التي يمكن تقنينها بحسب الأدلة التي دلت عليها، الأمر الذي قد يضيق من دائرة الخلاف.
طبيعة النصوص الشرعية والتقنين:
النصوص القطعية: معلوم أن نصوص الشريعة منها ما هو: قطعي في دلالته، وهذه النصوص لا تحتمل إلا وجها واحدا، فلا يجوز تقنين حكم مخالف لنص قطعي، ويجوز تدوين الحكم الذي نص عليه الدليل القطعي كمادة قانونية والإلزام بها، وتكون الحجية والقداسة لا لهذا النص القانوني وإنما للنص الشرعي الذي يعتبر الأصل في وضع هذا التقنين، وفي الوقت نفسه يبقى المجال مفتوحا لوضع مواد قانونية تتعلق بكيفية تطبيق هذا النص الشرعي القطعي، وهذا يدخل في باب السياسة الشرعية، وللإمام فيها مجال واسع، فله أن يضع ما يشاء من التدابير والإجراءات والتشريعات التي تضمن تحقيق مقاصد الشريعة التي دلت عليها النصوص القطعية، وتحقيق مصالح الناس بما يتفق مع تلك المقاصد، وينظر باحترام وتقدير لهذا التقنين باعتباره أحكاما شرعية مستنبطة من النص الشرعي، أو إجراءات وتدابير تضمن تطبيق النص الشرعي بما يحقق مقاصد الشارع، وفي هذه الحالة يكون الإلزام من الدولة بحكم مجمع عليه، فهذه القضية محل اتفاق في موضوع التقنين، فلو وضع قانون للعقوبات تضمن مادة قانونية تنص على قطع يد السارق، ووضع في هذا القانون أيضا ما يتعلق ببعض القضايا الإجرائية المتعلقة بهذا الحكم فهذا لا يدخل في دائرة الخلاف.
النصوص الظنية:
وعند وجود نص شرعي ظني، وهو ما يحتمل أكثر من معنى فيمكن استنباط حكم شرعي ظني من هذا النص الشرعي، ويمكن صياغة ما دل عليه في مادة قانونية على أن يكون هذا التقنين موافقا لوجه ما من الوجوه التي يحتملها معنى النص الشرعي بوجه من وجوه الدلالات المعتبرة في علم الأصول، ويجوز في هذه الحالة -عند من يجيز التقنين -الإلزام بها من قبل الدولة باعتبارها أحد التدابير التي قام بها الإمام لما يرى فيه من مصلحة ؛ لأن تصرف الإمام منوط بالمصلحة، كما يجوز -عندهم -أيضا وضع تقنين ما يحتاجه تطبيق هذا النص الشرعي من إجراءات وتدابير، وهذا يدخل في باب السياسة الشرعية، وتكون الحجية والقداسة في هذه الحالة للنص الشرعي، كما ينظر باحترام للتقنين باعتباره أحكاما شرعية مستنبطة من النص الشرعي، أو إجراءات وتدابير تساعد على تطبيق النص الشرعي بما يحقق مصالح الناس وبما يتفق مع مقاصد الشارع التي دل عليها النص الظني بوجه من وجوه الدلالات التي يحتملها النص المقررة في علم الأصول، وهذا موضع خلاف عند من لا يجيز الإلزام بحكم معين من الأحكام التي يدل عليها النص الشرعي ما دام يحتمل وجها آخر، وسيأتي مزيد نقاش لهذا القول أن شاء الله.
عند عدم وجود نص شرعي :
وعند عدم وجود نص شرعي في موضوع ما، فللدولة أن تضع ما شاءت من تشريعات وتدابير وإجراءات تسعى من خلالها إلى تحقيق مصالح الناس وجلب المنافع لهم ودرء المفاسد عنهم، بما لا يخالف نصوص الشريعة ومقاصدها، وهذا -أيضا -يدخل في باب السياسة الشرعية، وقد يكون مصدر التقنين في هذه الحالة مبادئ الشريعة العامة ومقاصدها والمصالح المرسلة والعرف وغيرها من مصادر التشريع، ولا يوجد ما يمنع من الاستفادة من أية تقنيات تتعلق بمختلف مجالات السياسة الشرعية الإسلامية، بغض النظر عن مصدرها، ما دامت لا تتعارض مع السياسة العامة للتشريع الإسلامي، ومن أمثلة ذلك: وضع نظام -قانون -للمرور، أو للعقوبات التعزيرية، أو ما يتعلق بكثير من المسائل المتعلقة بالإجراءات المتبعة في الدعوى، كالأحكام المتعلقة بالتبليغ، أو ما يتعلق بالمدد الزمنية المضروبة في كثير من القضايا التي تنظرها المحاكم، فهذه المسألة -أيضا -ليست محل خلاف. ([55])
و جوب الاحتكام للشريعة في موضوع التقنين :
لا بد من النظر للنصوص الشرعية في عملية التقنين على أنها واجبة التطبيق في كل حال، وعدم مخالفتها بأي حال من الأحوال، لأننا متعبدون بتلاوتها وتدبرها واستنباط الأحكام منها، والعمل بمقتضاها في كافة شؤون الحياة، كما يجب مراعاة مقاصد الشارع، أي تطبيق النصوص الشرعية بما يحقق تلك المقاصد، وجعل عملية التقنين خاضعة للنص، لا أن يكون النص خاضعا لها، فيجب أن يكون التقنين منضبطا بنصوص الشريعة ومبادئها العامة ومقاصدها، فالسيادة للشريعة لا للقانون، والحاكمية لله لا للمشرع -من وضع هذه القوانين -، كما يجب مراعاة القواعد الشرعية في التقنين والتطبيق في مختلف المجالات (التشريعات، والنظم، والحكم، والقضاء، والقرارات، والإجراءات، والعلاقات الداخلية والخارجية) كقاعدة الاستصحاب وما يتفرع عنها، وقاعدة "الأمور بمقاصدها" ([56])، وما يتفرع عنها، وقاعدة " لا ضرر ولا ضرار" ([57])، وما يتفرع عنها، وقاعدة " درء المفاسد أولى من جلب المصالح " ([58])، وما يتفرع عنها، وغيرها من القواعد الشرعية. ([59])
الاحتكام للشريعة لا يلغي حق الإمام (أو واجبه) في التقنين:
الاحتكام للشريعة لا يلغي حق الإمام في وضع الأنظمة المستنبطة من الشريعة، ولا يصادر حقه في اتخاذ القرارات والأنظمة التي لا بد منها لتسيير أمور الدولة، ذلك لأن نصوص الشريعة محدودة ومتناهية، وأما الحوادث وتطور الحياة والمسائل التي تواجه الأمة والدولة معا، فغير محدودة ولا متناهية، ولا بد للإمام واهل الحكم من مواجهة كل ذلك بما يرونه من أنظمة، ولكن هذا الحق ليس مطلقا، وإنما هو مقيد بما لا يخالف النصوص الشرعية، ولا يخرج على مبادئ الإسلام وقواعده العامة، وأن يكون ذلك لمصلحة الأمة الواجبة الرعاية، والتي لأجلها قامت الدولة، ولا يكون ذلك إلا
بعد الرجوع إلى آهل الخبرة والاختصاص من الفقهاء وغيرهم. ([60])
بل أن هناك من الباحثين من يرى أن التقنين طريق إقامة شرع الله وإحقاق الحق، بما ييسره التقنين من معرفة الأحكام الشرعية وسهولة الرجوع إليها، مع ضمانة الأحكام من التلاعب في زمن قل فيه الوازع الديني، وضعف التحصيل العلمي، مما يجعل لهوى النفس نصيبا في استصدار الأحكام القضائية. ([61])
وخلاصة الأمر في هذا الموضوع: أن التقنين بالضوابط السابقة ليس خروجا عن الشريعة، بل هو احتكام إليها " لأن جميع الأحكام مستمدة منها، وفق مناهج الاستنباط المقررة في علم الأصول، وعلى هذا فإن التشريعات الصادرة حديثا التي لا تخالف الإسلام من قبل اللجان المشرعة لا تخالف قواعد الاجتهاد في الفقه الإسلامي. ([62])
يتبع