الله كريم




مياسة النخلاني


قاصة يمنية


بعد يوم شاق قضاه هاني في عمله، ودع زملاءه وأوشك أن يأخذ طريق العودة إلى البيت، ليحصل أخيراً على وجبة غداء ساخنة، قضت زوجته جزءاً من يومها تعدها له "أبي لا تنس القطار!" رن صدى صوت طفله أحمد المتوسل تدللا في جوانب قلبه وهو يكرر طلبه للحصول على لعبته التي وعده بشرائها منذ أيام، لا يكف عن تذكيره كل صباح بوعده الذي يؤجله رغماً عنه؛ تارة بسبب الانشغال، وتارة أخرى بسبب ضيق ذات اليد، حتى أشفق على نفسه أخيراً من نظرات الخيبة التي يلهبه بها صغيرة كلما رآه عائداً خالي الوفاض، رغم أن معدته تصرخ من الجوع، والإنهاك يستبد بكل خلية من خلايا جسده، لكنه غير الطريق مقرراً ألا يحرم ابنه من لحظات من السعادة تلامس جدران قلبه الصغير، لن يخذل ابنه أكثر مما خذله، خاصة أن أبناء أخيه، ميسور الحال، تلبي أمنياتهم من قبل حتى أن يطلبوها، ويعجز عن تحمل شعور ابنه بالقهر أمام رفاهيتهم التي يلمسها كلما تبادلوا الزيارات، تفقد محفظته وحمد الله أن ما بها كفيل بشراء القطار.
توسل معدته أن تصبر عليه لبعض الوقت، ووقف تحت أشعة الشمس الحارقة ينتظر الحافلة لتأخذه إلى السوق مبللا ريقه الجاف بلسانه الأكثر جفافاً، وبينما هو كذلك تسلل صوت طفولي إلى أذنيه: "أرجوك ساعدني" لم يكن صدى صوت ابنه المنبعث من جنبات قلبه، بل صوتاً آخر لا يقل رقة، التفت إلى مصدر الصوت فوقعت عيناه على طفل لا يتجاوز السابعة من عمره، حافي القدمين تنطق عيناه بنظرات الاستعطاف والتذليل، وهو يشير بيديه نحو فمه طلباً للطعام "الله كريم!" قالها وعاد ليتابع الحافلات المكتظة التي تمر من أمامه محاولاً العثور على واحدة خالية، كرر الطفل النداء دون جدوى، فبين معدة مشغولة بالطعام الذي لم تذقه منذ ساعات الصباح الأولى، وقلب مشغول بتخيل فرحة ابنه بقطاره لم ينتبه هاني أن الطفل أطال الوقوف بجانبه لوقت ليس بالقصير، أفاق أخيراً من شروده وبدأت صورة الصغير بحالته الرثة تتضح أكثر في مخيلته، لابد وأنه قد طاف على قدميه طويلاً وتعرض للخذلان من الكثيرين، وها هو يتجاهله بكل قسوة غير عابئ بجوعه ويده الممدودة له بانكسار!! باخلاً عليه ببعض القروش التي ستشكل له فارقاً كبيراً، ومعطياً جل اهتمامه لحصول ابنه على لعبة سيمل منها سريعاً ويرميها في أحد أركان البيت بعد بضعة أيام.
تجاهل الحافلة التي توقفت له أخيراً، وتلفت حوله وكله أمل ألا يكون الطفل قد ابتعد كثيراً، وجده أخيراً مستنداً على الواجهة الزجاجية للمطعم القريب، يراقب الجالسين على الموائد العامرة بقلب ينفطر كمدا، لوهلة شعر أنه ينظر لابنه أحمد وهو يقف محله، يستجدي لقمة لم تعرف طريقها إلى معدته .. ربما منذ أيام، دون أن يرأف لقلبه أحد، دارت به الأرض وكاد أن يقع من شدة الهلع من مجرد التخيل، تقدم بخطوات مترنحة نحو الصغير، نفحه بعض المال على استحياء ثم مضى ونظرة الامتنان التي ارتسمت على عينيه لا تفارق مخيلته...
اشترى لابنه لعبته التي يريدها وعاد للبيت، استقبل حضنه الصغير وسعادته البالغة بابتسامة باهتة، دخل غرفته دون أن يتناول طعامه وقلبه يرزح تحت وطأة الشعور بالذنب والخجل من نفسه أن تجاهل صغيراً أطال الوقوف بجانبه دون أن يرق له قلبه، انشغل بسعادة طفله عن إدخال البهجة لقلب طفل آخر بإعطائه بعض الاهتمام الذي يستحقه، والذي لن يكلفه الكثير، متمنياً من أعماق قلبه أن يلتقيه مرة أخرى ليعوضه بوجبة طعام سيتناولانها معاً في المطعم ذاته.