تحديد جنس الجنين [ الاختيار المسبق لجنس الجنين ] (2-2)
الدكتور محمد بن هائل المدحجي
ثانيا : اختيار جنس الجنين بالتقنيات الصناعية :
تطرق قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي- الذي سبق ذكره في الحلقة الماضية- لحكم اختيار جنس الجنين عن طريق التدخل الطبي، وهو ما يعبر عنه باختيار جنس الجنين بالتقنيات الصناعية، واختيار جنس الجنين بالتقنيات الصناعية له صور متعددة ، نتحدث عنها فيما يلي :
أ- وسائل تحديد جنس الجنين بالتقنيات الصناعية قبل الإخصاب:لاختيار جنس الجنين قبل الإخصاب يتم أخذ السائل المنوي من الزوج، ويوضع في أنابيب خاصة، وبواسطة الوسائل الطبية الحديثة يمكن فصل الحيوانات المنوية المذكرة عن الحيوانات المنوية المؤنثة، وتوجد طرق متعددة لذلك، غير أن أكثرها استعمالاً هي التي تعتمد على الاختلاف في سرعة الحيوان المنوي المذكر عن المؤنث باستخدام الطرد المركزي، حيث تحفظ الحيوانات المنوية في أنابيب تحتوي على مواد كيمائية تزيد من سرعتها، فبينما يتجه الحيوان المنوي المذكر إلى أعلى الأنابيب بسرعة، يبقى الحيوان المنوي المؤنث في منتصف الأنابيب أو أسفلها، ثم بعد ذلك تؤخذ الحيوانات المنوية المرادة للتلقيح، إلا أن هذه الطريقة لا تقوم بعمل فصل تام وناجح (100 %) أي أن احتمالية تواجد الحيوانات المنوية للجنس غير المرغوب فيه واردة، ولدعم فرص النجاح بهذه الطريقة يجب الأخذ بعين الاعتبار الحمية الغذائية والتوقيت الزمني بالاعتماد على موعد الإباضة لدى المرأة لإجراء التلقيح الصناعي الداخلي في الوقت المناسب, وهذه الخطوات مجتمعة استطاعت أن ترفع فرص نجاح الغربلة و التلقيح الصناعي الداخلي إلى (80%).
وقد انكب العلماء على البحث عن وسيلة تكون أكثر دقة و نتائج نجاحها عالية، فتوصلوا إلى طريقة فصل الحيوانات المنوية بالاعتماد على محتويات المادة الوراثية (dna)، وترتكز طريقة الفصل هذه على أن الحيوان المنوي الحامل للكروموسوم الأنثوي يحتوي على المادة الوراثية (dna) أكثر من الحيوان المنوي الحامل للكروموسوم الذكري بما يقارب (2.8 %) وهذا الاختلاف يمكن قياسه، وبالتالي يمكن فصل الحيوانات المنوية الذكرية عن الأنثوية بأدوات معقدة ودقيقة، وطريقة الفصل هذه استطاعت أن تجهز عينة غنية بالحيوانات المنوية الذكرية بنسبة( 73 %) وعينة غنية بحيوانات منوية أنثوية بنسبة (88%) وبنسب نجاح تصل الى (90 % ) إذا حصل الحمل.
وبعد الفصل يتم استخدام العينة المجهزة من الحيوانات المنوية في تلقيح البويضة بإحدى طريقتين:
الطريقة الأولى: أن يكون التلقيح داخل الجسد، وحينئذ توضع الحيوانات المنوية في محقن, ثم تحقن في الرحم.
الطريقة الثانية: أن يكون التلقيح خارج الجسد، وحينئذ تلقح البويضة بهذه الحيوانات في أنبوب اختبار، فإذا حدث التلقيح، وانقسمت اللقيحة عدة انقسامات، نقلت إلى رحم الزوجة حتى تنمو النمو الطبيعي.
ب- وسائل تحديد جنس الجنين بالتقنيات الصناعية بعد الإخصاب: لاختيار جنس الجنين بعد الإخصاب يتم استعمال تقنية التشخيص الوراثي قبل العلوق التي تستعمل في الأصل لمعرفة إصابة اللقيحة بالأمراض الوراثية، وذلك باستخدام طريقة التلقيح خارج الجسد, حيث يقوم المعالج بتلقيح بويضات الزوجة بمني الزوج في أنبوب الاختبا، فإذا حدث التلقيح تبدأ اللقيحة في الانقسام، فإذا وصلت لمرحلة ثمان خلايا، تؤخذ منها واحدة لفحص المورثات، وذلك لمعرفة ما إذا كانت اللقيحة ذكراً أو أنثى، وفي حالة كون اللقيحة من الجنس المطلوب تنقل إلى الرحم، وإلا فلا.
وهذه الطريقة تعتبر الطريقة الأكثر انتشارا والأكثر ضماناً - إذا حصل الحمل - حيث تصل نسب نجاحها إلى (99 %).
ج- وسائل تحديد جنس الجنين بالتقنيات الصناعية بعد الحمل: ظهرت مؤخراً بعض النظريات التي تزعم إمكانية تغيير جنس الجنين في أطوار الحمل الأولى، وذلك إما عن طريق الحقن بالهرمونات، أو عن طريق التحكم في جين أو عامل وراثي يعمل على إحداث تفاعلات حيوية تؤدي إلى تحويل مبايض الأجنة الإناث خلال الأسابيع الثمانية الأولى إلى خصيات ذكرية.
ولم يتم تجربة هذه التقنية على الإنسان بعد، لكن تمت تجربتها على الفئران، وقد ثبت نجاحها من حيث المظهر الخارجي، لكن وجد أن المظهر الخارجي لا يتفق مع التكوين الداخلي، فيكون ذكراً لا يلد ويتعامل كأنه أنثى، هذا فضلاً عن مخاطر التشوه المحتملة.
حكم تحديد جنس الجنين بالتقنيات الصناعية:
يمكن بيان حكم تحديد جنس الجنين بالتقنيات الصناعية من خلال النقاط التالية:
أولاً: اتفق الفقهاء والباحثون الذين تكلموا في مسألة اختيار جنس الجنين على تحريم التحكم في جنس الجنين إذا كان على مستوى الأمة؛ وذلك لأنه محاولة للإخلال بالنواميس الكونية، والله جل وعلا نهى عن ذلك فقال: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ*أَل َا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } (سورة الرحمن الآية 7-8) ، وقال سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }(الأعراف56، 85) ، وقد جاء في توصيات ندوة (الإنجاب في ضوء الإسلام) التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في 11 شعبان 1403 هـ الموافق 24 مايو 1983 م بدولة الكويت: " اتفقت وجهة النظر الشرعية على عدم جواز التحكم في جنس الجنين إذا كان ذلك على مستوى الأمة ".
ثانياً: تغيير جنس الجنين في أطوار الحمل الأولى - على فرض إمكانية تطبيقه على أجنة الإنسان - عن طريق الحقن بالهرمونات، أو عن طريق التحكم في جين أو عامل وراثي يعمل على إحداث تفاعلات حيوية تؤدي إلى تحويل مبايض الأجنة الإناث خلال الأسابيع الثمانية الأولى إلى خصيات ذكرية تقدم أنها تقنية لم تستطع تحويل الأنثى إلى ذكر، وإنما جعلت الأنثى بمظهر الذكر، وعلى ذلك لا شك في حرمة هذه الطريقة لما تمثله من تغيير لخلق الله تعالى، قال تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً* لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً* وَلأُضِلَّنَّهُ مْ وَلأُمَنِّيَنَّ هُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنّ َ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنّ َ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} سورة النساء، الآيات (117-119).
ثالثاً: تحديد جنس الجنين بالتقنيات الصناعية التي تحتاج إلى تدخل طبي - كالتي تتم بتقنية التلقيح الصناعي الداخلي أو الخارجي - سواء قبل الإخصاب أو بعده إذا كان على مستوى الأفراد اختلف فيه الفقهاء المعاصرون.
فذهب البعض إلى جواز تحديد جنس الجنين بالتقنيات الصناعية، قياساً على جـواز اختيار جنس الجنين بالسلوكيات الطبيعية، فكما يجوز اختيار جنس الجنين بالطرق التي تكـون قبل الجماع في الإنجاب الطبيعي، فكذلك يجوز السعي إلى تحقيق ذلك بهذه الوسائل الطبية الحديثة.
لكن يناقش ما ذكروه : بأن قياس جواز اختيار جنس الجنين بهذه الطريقة على الوسائل الطبيعية قياس مع الفارق، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن اختيار جنس الجنين بالطرق الطبيعية لا شبهة فيه، لأنه يجري بين الزوجين، وهذا بخلاف الطرق الصناعية التي يتطلب تدخل الأطباء، وبقاء النطف في المختبر مدة من الزمن مما يجعلها عرضة للاختلاط بغيرها.
الوجه الثاني: أن اختيار جنس الجنين بالطرق الطبيعية ليس فيه كشف للعورة المغلظة أمام من لا يحل له النظر إليها، وهذا بخلاف الطرق الصناعية.
والصحيح أنه يحرم تحديد جنس الجنين بالتقنيات الصناعية، وإليه ذهب المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي ، حيث جاء في نص القرار «لا يجوز أي تدخل طبي لاختيار جنس الجنين، إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية". اهـ
والأدلة على تحريم جنس الجنين بالتقنيات الصناعية ما يلي :
1- إن التدخل الطبي لاختيار جنس الجنين قد يكون ذريعة لاختلاط الأنساب, وذلك باختلاط الحيوانات المنوية والبويضات بعد أخذها من الزوجين بغيرها في المختب، إما على سبيل الخطأ أو العمد، فيؤدي ذلك إلى نقل لقيحة أجنبية إلى رحم الزوجة، وسداً لهذه المفسدة يحكم بتحريم التدخل الطبي لاختيار جنس الجنين. والتلقيح الصناعي من حيث الأصل محرم لهذه العلة، وإنما أجازه من أجازه من أجل الحاجة، ولا حاجة لمجرد اختيار جنس الجنين، فيكون محرماً.
2- إن التدخل الطبي لاختيار جنس الجنين يستلزم كشف عورة المرأة المغلظة أمام الطبيب الأجنبي لاستخراج البويضات منها، وكذلك عند إرجاعها إلى رحمها بعد تلقيحها بماء الزوج، وهذا أمر محرم، لا يباح إلا للضرورات الطارئة، واختيار جنس الجنين لا يعد من الضرورات التي تستباح له المحظورات، كما أنه ليس حاجة تنزل منزلة الضرورة.
لكن هذا الحكم حيث كان التدخل الطبي بغرض اختيار جنس الجنين فحسب؛ وذلك لأن فيه وقوعاً في المحظور من غير حاجة أو ضرورة، أما إذا كان التدخل الطبي بغرض تحقيق الإنجاب بالتلقيح الصناعي - سواء الداخلي أو الخارجي - وجاء اختيار جنس الجنين بالتبع فإن هذا لا يكون محرماً؛ وذلك لأن المحظورات التي من أجلها كان التحريم أبيحت لحاجة تحقيق الإنجاب، فلم يعد ثمة محظور ليقال بموجبه في التحريم، فصار اختيار جنس الجنين في هذه الحالة جائزاً شرعاً، والقاعدة الشرعية أنه " يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً " بمعنى أنه إذا تحققت شروط جواز إجراء التلقيح الصناعي للزوجين، وقررا إجراء التلقيح الصناعي، فلا حرج عليهما في اختيارهما لجنس الجنين عن طريق فصل الحيوانات المنوية المذكرة عن الحيوانات المنوية المؤنثة قبل التلقيح، أو بفحص اللقيحة قبل نقلها إلى الرحم، والله تعالى أعلم .
وما تقدم من تحريم اختيار جنس الجنين بالطرق الصناعية إنما هو في حالة اختيار جنس الجنين لمجرد الرغبة في جنس محدد، لكن الحكم يختلف إذا كان هناك ضرورة طبية تقتضي تحديد جنس الجنين لتفادي المخاطر المرتبطة بجنس معين، وهذا ما يمكن أن نوضحه فيما يلي :
من الثابت علمياً أن الأمراض الوراثية تختلف في طريقة انتقالها، ومنها ما ينتقل عن طريق الكروموسوم الجنسي، وتتميز الأمراض الوراثية التي تنتقل عن طريق كروموسوم تحديد الجنس بأنها تصيب جنساً دون آخر، وتسمى الأمراض المرتبطة بالجنس، فمثلاً هناك المئات من الأمراض الوراثية التى تصيب الذكور ولا تصيب الإناث مثل: مرض سيولة الدم (هيموفيليا)، وبعض أمراض الجهاز العصبي، ومرض ضمور العضلات الوراثي، وحالات ضمور المخ، ولتجنب إصابة الذرية بهذه الأمراض - ولاسيما أن بعضها خطير - يلجأ إلى اختيار جنس الجنين، وذلك بألا يستخدم في التلقيح إلا الحيوانات المنوية المذكرة إذا كان المرض الوراثي يصاب به الإناث دون الذكور، أو الحيوانات المنوية المؤنثة إذا كان المرض الوراثي يصاب به الذكور دون الإناث.
واختيار جنس الجنين لتفادي المخاطر والأمراض الوراثية المرتبطة بجنس معين جائز شرعاً؛ وذلك لما يلي:
1- أن هذه العملية تجرى بين الزوجين، ومن ثم فإنها لا تختلف عن التلقيح الصناعي الخارجي الذي ذهب أكثر الباحثين إلى جوازه إلا في الغرض منه, إذ الغرض من الأول تحقيق حاجة الزوجين إلى الإنجاب، والغرض من الثاني تحقيق سلامة الذرية من الأمراض الوراثية، وهذا الفارق لا يعد مؤثراً من الناحية الشرعية؛ لأن كلاً منهما يعد حاجة معتبرة شرعاً، وحينئذ يكون جائزاً.
2- أن من قواعد الشريعة الكلية قاعدة: " المشقة تجلب التيسير" وإصابة المولود بمرض مزمن يؤدي إلى تعطل أحوال الأسرة، ومعاناة الزوجين، وإدخال الآم عليه وعلى أهله، وتحمل نفقات العلاج الباهظة، وغير ذلك، وهذه المشقة التي تدخل على الزوجين بسبب إنجاب مولود مشوه أو مصاب بمرض وراثي تصير سبباً للتخفيف عنهما بجواز اختيار جنس الجنين بهذه الطريقة.
3- أن الشريعة راعت جلب المصالح، ودرء المفاسد، وفي اختيار جنس الجنين بهذه الطريقة ما يحقق هذا الأصل، حيث إن في إنجاب الذرية السليمة من الأمراض الوراثية ما يكون قرة عين للوالدين، وعوناً لهما على المصالح الدنيوية، وكذلك يدرأ عنهما المفاسد الناشئة عن وضع الجنين إذا ولد، بالإضافة إلى قيام المولود بالمصالح الدينية والدنيوية المتعلقة به, فيجوز اختيار جنس الجنين تحقيقاً لهذا الأصل.
وجواز اختيار جنس الجنين لتفادي المخاطر والأمراض الوراثية المرتبطة بجنس معين مشروط بالشروط التالية:
1- الأمن من اختلاط الأنساب: وذلك بضمان عدم اختلاط النطف واللقائح الخاصة بالزوجين بغيرها، ومن ثم ينبغي توخي الحذر فيما يتعلق بهذه العملية، فلا تجرى في أي مركز طبي، وإنما عند ذوي العدالة من الأطباء ومساعديهم، وضمن إجراءات مشددة، كل ذلك حرصاً على سلامة أنساب الناس، إذ حفظ النسب يعد من مقاصد الشريعة التي بلغت مرتبة الضروريات، وجاء الشرع بالمحافظة عليها، وتحريم كل ما يناقضها.
2- أن يكون المرض الوراثي خطيراً: فلا يسارع إلى اختيار جنس الجنين لأي عيب وراثي يمكن مداواته, والتخفيف من آثاره.
3- أن يقرر أهل الاختصاص والمعرفة أن اختيار جنس الجنين هو الوسيلة الوحيدة لتجنب إصابة الذرية بالأمراض الوراثية.
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي الذي سبقت الإشارة إليه : " لا يجوز أي تدخل طبي لاختيار جنس الجنين إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية التي تصيب الذكور دون الإناث أو بالعكس، فيجوز حينئذٍ التدخل بالضوابط الشرعية المقررة، على أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية مختصة، لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريراً طبياً بالإجماع يؤكد أن حالة المريضة تستدعي أن يكون هناك تدخل طبي، حتى لا يصاب بالمرض الوراثي، ومن ثم يعرض هذا التقرير على جهة الإفتاء المختصة لإصدار ما تراه في ذلك".
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.