تدبر في حالك
محمد فريد فرج

يبصر أحدكم القذاة (القشة الرفيعة) في عين أخيه، وينسى الجذع (ساق النخل) في عينه (ابن حبان 5761).. بهذه الكلمات الموجزة يشير من أوتي جوامع الكلم " صلى الله عليه وسلم" إلى داء متأصل في كثير من النفوس المريضة؛ وهو الانشغال بذكر العيوب الصغيرة للآخرين عن رؤية العيوب الكبيرة للنفس. ويجر هذا الداء على أصحابه عقوبات، نذكر بعضها:
العقوبة الأولى: أنه يدفع صاحبه إلى كشف عيوب نفسه من حيث لا يدري.
يحكى أن أعرابيا سمع رجلا يقع في الناس فقال: «قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس، لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها».
قال الشاعر:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال أخو العيوب
(صيد الأفكار 1/492).

العقوبة الثانية: أنه يبرز صاحبه في صورة هزلية مضحكة تستحق سخرية الناس؛ إذ يرونه منكرا عليهم الهفوات بينما هو متلطخ بالطامات، مما يفقد موعظته أي قيمة.
ولله در القائل:
يا أيها الرجل المقوم غيره
هلا لنفسك كان ذا التقويم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى
بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
(غذاء الألباب 1/218).

العقوبة الثالثة: أنه يدفع الناس للتفتيش عن معايب صاحبه، ولله در الشافعي إذا يقول:
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
ودينك موفور وعرضك صيـن
فلا ينطقن منك اللسان بسوءة
فكلك سوءات وللناس ألسن
وعيناك إن أبدت إليك معايبا
فصنها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
ودافع ولكن بالتي هي أحسن
(غرر الخصائص 1/134).
وروى ابن مقلة في ذلك عن ثعلب:
إذا ما تعيب الناس عابوا فأكثروا
عليك وأبدوا منك ما كنت تستر
فلا تعبن خلقا بما فيك مثله
وكيف يعيب العور من هو أعور
(تاريخ الإسلام 24/241).

العقوبة الرابعة: أنه يجلب على صاحبه فضيحة الله له، ولله در القائل:
لا تكشفن من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترا من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
(غرر الخصائص 1/134).

ولذلك تنزه السلف عن هذا الداء العضال، وانشغلوا بإصلاح عيوبهم عن عيوب غيرهم.
يحكى أنهم قالوا للربيع بن خثيم: «ما نراك تعيب أحدا»!
قال: «لست عن نفسي راضيا، فأتفرغ لذم الناس»، وأنشد:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها
لنفسي في نفسي عن الناس شاغل
(ربيع الأبرار 2/322).

وقال محمد بن سوقة: «ما أحسب رجلا يفرغ لعيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه» (ربيع الأبرار 2/322).
وأوصى جعفر الصادق ابنه موسى قائلا: «يا بني، من استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه.
يا بني، ومن كشف حجاب غيره انكشفت عورته.
يا بني، إياك أن تزري بالرجال، فيزرى بك.
يا بني، وإياك والتعرض لعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف».
(تهذيب الكمال 5/89: 90).
ولكن حذار من القعود عن واجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تذرعا بعيوب النفس، فليس هذا المقصد، وإنما المقصد أن البصير كما يجتهد في تنقية عين أخيه من القشة الرفيعة، فمن باب أولى ألا ينشغل عن تنقية عينه من الخشبة الكبيرة.
ولله در القائل:
إذا لم يعظ في الناس من هو مذنب
فمن يعظ العاصين بعد محمد؟
(غذاء الألباب 1/219).