معالم الهدى في زمن الفتن

د. صالح بن حميد

إمام وخطيب الحرم المكي

العلماء لا يتحدثون في كل مقام بل لكل مقام مقال وأحاديث العامة ليست كأحاديث الخاصة


الناس أنواع، فالبعض يصنع موجة، والبعض الآخر يركب الموجة، والنبي " صلى الله عليه وسلم" تحدث عن أشراط الساعة وعن الملاحم، كما حذر من الفتن، وذلك في صور ثلاث:
الأولى: الإنذار والتنبيه.
الثانية: التخويف منها.
الثالثة: كيف يكون الموقف منها إذا وقعت، وهذه هي الأهم.
خطورة التعجل

من الخطأ أن يتعجل الإنسان بمجرد سماعه أي خبر اعتمادا على تبادل المعلومات الشائعة في أيامنا هذه، فالذي يبث هذه المعلومات ويتلقاها غير متخصص.
الاستشراف
من طبيعة الناس أنهم يحبون استشراف الحاضر والمستقبل، وتفسير الأحداث. ويقع الإنسان هنا في مشكلة المقارنة بين الواقع والنصوص، ويحتاج إلى السبر، وحين سأل رجل النبي " صلى الله عليه وسلم" متى الساعة، قال له " صلى الله عليه وسلم" : «ماذا أعددت لها؟»، وفي رواية: «ويلك، ماذا أعددت لها؟».
يقول ابن حجر: والحكمة من أحاديث الفتن إيقاظ الغافلين، والحث على التوبة، فهي مواعظ وزواجر للإقبال على الرب. ولهذا قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" في حديث عظيم المعنى: «العبادة في الهرج كهجرة إلي».
أثر العبادة في وقت اختلاف الناس
قال أهل العلم: فضل العبادة في الهرج كأنك تلجأ إلى النبي " صلى الله عليه وسلم" كما مر بالحديث السابق، أي إنك تنتقل من حال الهرج إلى حال الأمن، فينشغل الناس بالهرج ولا يتفرغون للعبادة إلا من رحم الله وعصم.
ولماذا شبه العبادة بالهجرة؟ لأن الهجرة فرار بالدين من المناطق المخيفة إلى البلاد الآمنة التي يأمن الناس فيها على أنفسهم.
من هم مثيرو الفتن؟
الملاحظ أن الذي يخوض فيها ليس سياسيا ولا اقتصاديا ولا فقيها، بل يخوض فيها كل شخص غير متخصص، فلا يحسن عرضها، ولا يحسن ترتيب نتائجها.
الفرار الإيجابي
هنا يأتي دور الفرار الإيجابي الذي هو الاتجاه إلى العبادة، والبعد عن مواطن الفتن والهرج. ويتضمن الفرار الإيجابي ما يأتي:
1- الاتجاه إلى العبادة: من صلاة وذكر وقراءة القرآن وصبر ومصابرة حتى تنجلي الغمة.
2- التأني في الفهم والتأويل: ونعني به ألا يتعجل في أي فهم، وأن يجتهد في أن يتجنب الخوض في الفتن، ولا يقول هذا الحديث أو ذاك ينطبق على هذه الحالة أو على هذا الشخص، بل ينبغي أن يذهب إلى الثقات ويسألهم.
3- عدم القلق: ينبغي ألا يقلق، ويصبر.
4- التروي: عليه أن يتروى في إبداء الحكم أو الرأي، بل نقول له لا تخض ولا تكلف نفسك أن يكون لك موقف، بل الزم السلامة في الفتن؛ فهي من أدق المخارج وأحسن سبل النجاة.
5- العزلة: ونقصد بها العزلة عن معالم الفتن ولا يلتفت إليها، بل يلتفت إلى نفسه، وينأى بها طلبا للنجاة من الفتن، ونعني بذلك: اعتزل الناس، وتجنب هذه الأشياء، واهتم بشؤونك، فقد جاء الحديث: «إن بين أيديكم فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا يبيع دينه بعرض من الدنيا». و«ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي»، ثم دعاهم إلى أن يكونوا أحلاسَ بيوتهم، وفي الترمذي: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وأبك على خطيئتك». وفي أبي داوود: «إن السعيد لمن جُنب الفتن».
6- كف اللسان: كف لسانك، حتى لو استحسنوا رأيك، وفي الحديث: «تكون فتنة تستنظف العرب (أي تقتل)، اللسان فيها أشد من السيف».
7- التفقه في الدين وتوقير أهل العلم: وذلك بأن يتفقه ويوقر أهل العلم ويقدرهم، لأن سلامة الدين لا تكون إلا بالعودة إليهم. وهذا يدعونا إلى المفهوم الخطير ألا وهو تسفيه فتاوى العلماء من طرف أناس وصفهم النبي " صلى الله عليه وسلم" بأنهم سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان.
وينبغي أن نعرف أن العلماء لا يتحدثون في كل مقام، بل لكل مقام مقال، وأحاديث العامة ليست كأحاديث الخاصة، لا نقول إنهم لا يخطئون، لكن ينبغي عندما يخطئ أحدهم أن يكون الرد عليهم بحفظ مقامهم وليس بالتعدي على مكانتهم. نعم، قد يزل العالم ويغلط، ولكن لا يثنيك ذلك عن علمه، ولا ينبغي أن تهدر مكانته، بل هو معذور، بل وأحيانا مأجور، لأن العلماء ليسوا معصومين، لكن يبقون علماء. والمتأمل يجد أن وسائل الإعلام والتواصل لم تجعل لأحد مقاما ولا قيمة. قال الإمام الشاطبي: «لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه، أو يُعتقد عليه الإقدام على المخالفة، فهذا خلاف ما تقتضيه رتبة الدين».
وقال الإمام الذهبي: «لو أن كل من زل أسقطناه لم يبق لنا عالم».
8- الثقة بأهل العلم: بالرجوع إليهم، وبحسن سؤالهم وتجنب انتقاصهم. وأي فتنة أشد من أن ينتقص من العلماء؟! الحصيلة من ذلك أن يعجب كل ذي رأي برأيه فتكون الفوضى.
وغالب الفتن تحدث من أربعة أمور:
1- فهم فاسد.
2- نقد كاذب.
3- غرض منحرف.
4- هوى متبع.

فلا تحاول أن تطبق على الناس، بل طبق على نفسك.. هل أحدث لك اضطرابا؟ هل لك غرض في الحديث عن ذلك؟ ولهذا عليك أن تتجنب ذلك.
لا تتهم الناس بقولك: هذا منحرف، هذا صاحب هوى، هذا مخطئ، هذا مصيب. بل عليك بإصلاح نفسك وتجنب الفتن.
سؤال: من يقع في الفتن؟ الجواب: الذي يقع في الفتن هو ضعيف البصيرة، قليل العلم، وهو مصداق لوصف النبي " صلى الله عليه وسلم" في قوله: «سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان». فضعيف البصيرة هذه صفاته، حتى لو كانت عبادته ظاهرة.
9- السمع والطاعة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين: معنى ذلك أن أي شيء فيه خروج على ولاة الأمر وعلى جماعة المسلمين اتركه مهما كان، لأن الحديث يقول «من شذ شذ في النار». وطاعة ولي الأمر تكون في المعروف بالطبع بعدم الخروج عليه، مع اليقين أن له حق الطاعة، والنقد - إذا كان على أصول الشريعة - بحسن النصح واتباع سنن المرسلين والراسخين في العلم، فهذا ليس خروجا، ولهذا لما انفرط عقد بعض الدول تفككوا ودخل فيهم من دخل، ولهذا فإن هيبة الحكم وهيبة الحاكم المسلم يجب أن تبقى مصونة ولا يتعرض لها إلا بالعدل.
ثم إن الاجتماع وعدم الفرقة من أكبر النعم ولهذا قال الصحابة: «الخلاف شر».
10- النصح لكل مسلم: كن نقي القلب نحو إخوانك من غير استعداء أو استكبار أو أنك أنت على صواب وهم على غيره.
11- الصدق والتثبت: عند حديثك في الفتن تحر الصدق والتثبت، بل الأحسن والأولى ألا يكون لك رأي، وصن لسانك ويدك عن ذلك حتى تنجو من الفتن.
ثم إن هناك مجموعة من النصائح والوصايا على المسلم أن يتحراها عند الفتن، بل وفي مجمل حياته وأحواله وهي:
الإخلاص، الإحسان، النصح، الصدق، التثبت، عدم الاغترار بالكثرة، الحذر من الاندفاع والحماس، الرفق والأناة، حفظ اللسان، التوبة والإنابة.
بل إن الرفق والصبر أهم أمرين في هذا السياق، لأنه إذا ترفق ابتعد عن الفتن، وإذا صبر لم يخض فيها فينجو بنفسه ودينه. فالرفق نعني به عدم التعجل وعدم الحدة في الطبع والثوران، وأما الصبر فهو القدرة على التحكم في النفس.