السكينة الإيمانية وهزيمة الخوف



مي عباس



إذا كانت الحياة حركة، والإيمان عمل ونشاط، فإن السكينة حالة موازية لازمة لحركة بناءة، وإيمان يزيد ولا يتعرقل أمام الخطوب.

والسؤال الذي يطرح نفسه كيف تكون السكينة التي هي مشتقة من السكن بكل ما يلقيه من معاني الهدوء والثبات مرتبة إيمانية عالية، بل عامل هام لزيادة الإيمان؟

قال تعالى:"هوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا". الفتح:4

والحقيقة هي أن الإنسان بدون السكينة لا يمكنه الحركة، فلولا السكن والمأوى الذي يضم الإنسان ليزيل عناء يومه، ويؤذن بالراحة من مساره الطويل في العمل، لما استطاع أن يواصل حركته البناءة في الحياة،وقد امتن الله على عباده بالسكن المادي وهو المأوى، قال تعالى:" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا" النحل:80.

فجعل البيت سكنا هو نعمة من الله، لا يدركها إلا من فقدها بتحول بيته لمكان اضطراب وشقاق وقلق لا أمن ولا سكينة فيه.

وهذا السكن المادي هو الذي يعين الإنسان على المضي قدما في حركته وعمله ونشاطه، ولولاه لفقد قدرته على المواصلة وخارت قواه واشتدت سآمته وصدرت عنه من الأقوال والأفعال ما لا يعبر عنه، وما لا يقصده.

وكذلك الزوجة سكن لزوجها، قال تعالى:" وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا" الروم: 21.

فهي موطن راحته وهدوئه من اضطراب الشهوة، وتخبط العاطفة، وخوف التفرد والوحدة.

وتسعى برامج التنمية البشرية إلى تعليم مهارات الاسترخاء، وأوضاع معينة للجسم، وطرق للتنفس الذي يساعد الإنسان على مواجهة الأزمات واللحظات الصعبة، فيهديء من روعه، ويستعيد توازنه، فيستطيع التفكير بشكل جيد، وتقييم ما هو في بعقلانية ودون فزع أو تهويل.

وهذه البرامج في حقيقتها تهدف إلى إكساب النفس السكينة، تلك النعمة العظيمة التي ينزلها الله على قلوب عباده الذاكرين في الأوقات العصيبة فيحفظهم من الاضطراب، ويقيهم أمواج الخوف والجزع.

السكينة القلبية

ينزل الله تعالى السكينة في قلب المؤمن ليزداد إيمانه، وهي واحة يفيء إليها عند ورود كل ما يزعزع الإيمان، ويميد بثبات القلب.

فالسكينة وإن كانت دواء الخوف، فإنها لا تقتصر عليه، فالخوف وإن كان من أعظم ما يزلزل القلب، ولكنه ليس الوحيد، فالشهوة تشيع في أرجاء القلب الاضطراب، وكذلك النعمة وإقبال الدنيا قد يطيش بثبات القلب ويذهب وقار المرء.

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: (السكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها. وسكنت إليها الجوارح. وخشعت،واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة،وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش، واللغو والهجر، وكل باطل).

السكينة والطمأنينة

السكينة إذهاب لانزعاج القلب وخوفه في بعض الأوقات،فهي ليست حالة مستمرة ودائمة، بخلاف الطمأنينة التي هي حال دائم للقلب لا يفارقه، وهي فوق مجرد زوال الخوف والقلق إلى استشعار لذة الأنس بالله.

وإذا اعتاد العبد أن يلجأ إلى الله، ويذكره في كل حال، في السراء والضراء، في الخوف والأمن، في خير الأماكن وشرها، عرف قلبه الطمأنينة، وبلغ أعلى المنازل "النفس المطمئنة".

هزيمة الخوف

تستولي المخاوف على قلب الإنسان إذا ضعف بضعف إيمانه، وحجب عن ربه بثقل الغفلة، فهو يخاف من كل شيء ومن أي شيء.

وإذا كان الرهاب أو "الفوبيا" ينتشر بأنواعه وصوره بين البشر، فيعيقهم عن تحقيق أهدافهم، أو العيش بكرامة وطبيعية، فإن السكينة الإيمانية والطمأنينة هي العلاج الرئيسي والحقيقي له.

فهذه الخبرات التي ساهمت في إيجاد هذا الخوف في نفوسنا، والتي قد نتذكر بعضها ولا نتذكر الآخر، يعلمها الله، وهو القادر على شفائها.

وهؤلاء البشر الذين نعظمهم فيتلجلج اللسان بحضرتهم، ونهرب من مواجهتهم، أو الحديث بحضورهم، هم خلق ضعيف من خلق الله، وكلما ازداد تعظيم الله في قلب العبد قلّ تعظيمه للمخلوقين، وكلما ازدادت خشيته لله تضاءل خوفه من عباده الزائلين.

يروى أن الخليفة المهدي دخل مسجدا فقام كل من في المسجد، إلا عالماً يقال له أبو ذرّ ، فلما سأله الخليفة : لماذا لم تقم ؟ قال : تذكّرت قوله تعالى ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) ففضّلت القعود إلى ذلك اليوم ، فقال له الخليفة : والله ما بقيت شعره في راسي إلا وقعت.

إنها معادلة أكيدة وبسيطة، كلما زاد الخوف من الله وخشيته كلما زادت طمأنينته وسكينته في مواجهة الخلق، وفي مواجهة الفتن والمصائب، وفي مواجهة المعاصي وورود الشهوات.

الطريق إلى السكينة

يقول الدكتور راتب النابلسي في كتابه ومضات في الإسلام: ( هذه السكينة لا تعز على طالب – كائنا من كان- في أي زمان ومكان، وفي ي حال ومآل،وجدها إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار،ووجدها يوسف عليه الصلاة والسلام في الجب، كما وجدها في السجن فمكنه الله في الأرض، ووجدها يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى عليه الصلاة والسلام في اليم، وهو طفل مجرد من كل قوة وحراسة،ووجدها أصحاب الكهف، حينما افتقدوها في الدور والقصور، ووجدها نبينا صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، والأعداء يتعقبونه، ويقصون الآثار، ويجدها كل مؤمن أوى إلى ربه، يائسا ممن سواه، قاصدا بابه وحده، دون كل الأبواب.

أسباب السكينة:

الإيمان بالله واليوم الآخر.. فالشك اضطراب واليقين سكون، فكلما قوي الإيمان وانتشر في القلب نور اليقين كلما ثبت وسكن عند ورود المقلقات والفتن.

والتوحيد الذي يجعل الإنسان يلجأ إلى الله في الشدة والرخاء، ينفي كل خوف أو قلق، قال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ". الأنعام:82.

وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جل وعلا قال : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين؛ إذا خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة. السلسلة الصحيحة.

تذكر حقيقة الدنيا، وطلب رضا الله

ولا يعني هذا العزلة عن الحياة، أو ضعف الطموح، بل إن من يعمل للآخرة يجب أن يكون الأعلى همة والأكبر أثرا ونشاطا، ولكن جهوده ليست مبددة في كل واد، وإنما يعرف طريقه وغايته.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ". السلسة الصحيحة.

كثرة ذكر الله

فالذكر قرين الطمأنينة، قال تعالى :" الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" الرعد: 28.

فالعبد إذا ذكر الله ذكره الله، قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" البقرة:152.

وفي ذكر الله لعبده كل الخير العاجل والآجل، فإن من يذكره الله في علاه ناج من كل هم، آمن من كل خوف، منصور في كل حين.

الصلاة والدعاء

وهما من الذكر.. وكانت الصلاة قرة عين نبينا صلى الله عليه وسلم،وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

ولكن البعض يحاول إذهاب خوفه، والتغلب على قلقه واضطرابه، بالتواصل مع الناس، أو الانشغال بتوافه الأمور، وينسى الصلة بالله الذي يملك قلبه يقلبه ويصرفه كيف يشاء.

الرضا

فإن من أعظم المنغصات، ومن أشد أبواب الاضطراب التحسر على ما فات، والسخط على الواقع، والتفكير في المستقبل.

والرضا هو باب واسع يدخل منه الإنسان إلى واحة الأمن والسكينة، فيجد راحة لا مثيل لها، ومنها ينطلق إلى العمل والإنجاز بقلب لا تموج به الأفكار وتتقاذفه الأحلام والحسرات.

إن السكينة هي عطاء الله للمؤمنين، تقترن بذكره والإقبال عليه، إنها منحة لمن كان قلبه متعلقا بالله، لمن لم يغرق في هموم الدنيا الصغيرة، لمن بسط في قلبه واحة اليقين والمعرفة، اللهم أنزل على قلوبنا السكينة فلا تقلبها المخاوف والفتن، واجعل نفوسنا مطمئنة.