حكم الاحتجاج بالإقرار على أفعال
الصحابة في زمن التنزيل "دراسة تأصيلية تطبيقية"
د. خالد بن فالح العتيي[(*)]
ملخص البحث:
تعد البحث الأصولي في حكم الاحتجاج بالإقرار على أفعال الصحابة -رضي الله عنهم في زمن التنزيل من الموضوعات المهمة، التي تتطلب تحريرا لمواضع النزاع في هذه المسالة الأصولية المهمة، وتحقيق أدلتها ومناقشتها مناقشة علمية موضوعية للتوصل للنتائج الصائبة.
وقد عرض البحث معنى الإقرار على أفعال الصحابة زمن التنزيل بنوعيه؛ إقرار الله -جل وعلا-، وإقرار النبي –صلي الله عليه وسلم-، وبين البحث أقسام هذه الإقرارات، ومواضع الاتفاق فيها، ومواضع الاختلاف.
كما تعرض البحث للشروط الأصولية اللازمة للاحتجاج بهذه الإقرارات بما يسددها مع مقتضى الوحي ومقرراته، ثم توسع البحث في مسألة إقرار الله – جل وعلا-أفعال الصحابة زمن التنزيل، وعرض لسبب الخلاف، وأقوال الأصوليين فيه، وأدلتهم، ومناقشاتها الموسعة، مع التوجيه والتدقيق فيها.
وقد خلص البحث -بعدما عرض جملة من الأمثلة التطبيقية، وحللها، ودرس سندها ومتنها ودلالتها-إلى أن إقرار الله -جل وعلا-لأفعال الصحابة -رضي الله عنهم-انه حجة بشرط علم النبي –صلي الله عليه وسلم-وإقراره لها؛ اتساقاً مع وحدة الوحي الرباني الذي مصدره الله تبارك وتعالى، وتعليم النبي -صلي الله عليه وسلم -له، أو الإقرار من قبل النبي -صلي الله عليه وسلم -المؤيد بالوحي الرباني.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيراً كما امر، والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى اله وصحبه أجمعين ،،، وبعد،،،
فإن البحث الأصولي من اهم الأبحاث العلمية الشرعية للتوصل إلى فقه إسلامي أصيل ينبني على قواعد الشرع ومبانيه العامة والخاصة، ويلائم الظروف الواقعية التي يعيشها الناس في كل زمان ومكان.
وإن من اهم الموضوعات الأصولية التي ما زالت تحتاج إلى دراسات جادة ومعمقة تلك الدراسات التي تدرس أصول الفقه العملي التطبيقي في زمن التنزيل؛ لنصل إلى طرائق عملية مستمدة من منهج النبي -صلي الله عليه وسلم -في استنباط الأحكام الشرعية.
ويعد البحث الأصولي في السنة التقريرية مهما أيما أهمية؛ لكونه يكشف عن مصدر من مصادر التشريع يحتاج إلى جمع ودراسة؛ للاستفادة منه في المجال التطبيقي لأصول الفقه الإسلامي.
وإن موضوع إقرار الله عز وجل، وإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم -لأفعال الصحابة -رضي الله عنهم -من الموضوعات التي تفتقر إلى الدراسة المتأنية " لإثبات حجية هذا الإقرار أولا، وتحديد دلالته في الاحتجاج به على الأحكام الشرعية ثانياً، ومنه نشأت مشكلة الدراسة.
مشكلة الدراسة:
تتحدد مشكلة الدراسة في الآتي:
1 - ما موقع الاحتجاج بإقرار الله عز وجل وإقرار النبي - صلي الله عليه وسلم - على أفعال الصحابة الكرام من الأدلة الشرعية عند الأصوليين؟
2 - ما حكم الاحتجاج بإقرار الله عز وجل، وإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم- على أفعال الصحابة الكرام عند الأصوليين؟
3 - ما صحة الآثار الواردة في أفعال الصحابة الكرام، وهل دل الإقرار على حجيتها، وكيف يتم التوفيق في التعارض الظاهري بينها على الأحكام الشرعية.
أهداف البحث:
تهدف الدراسة إلى الإجابة عن مشكلة الدراسة باستخدام أداة المنهج المناسبة على النحو الآتي:
1 - استنتاج موضع الاحتجاج بإقرار الله عز وجل وإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم- على أفعال الصحابة الكرام من الأدلة الشرعية.
2 - استقراء وتحليل الأدلة والنصوص الأصولية في حكم الاحتجاج بإقرار الله وإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم - لأفعال الصحابة الكرام.
3 - استنتاج دلالة إقرار الله عز وجل، وإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم- لأفعال الصحابة الكرام على الأحكام الشرعية.
أهمية البحث:
1 - حاجة البحث الأصولي إلى بيان حكم الاحتجاج بإقرار الله عز وجل، والنبي –صلي الله عليه وسلم-لأفعال الصحابة رضي الله عنهم، ودلالة ذلك على الأحكام الشرعية.
2 - حاجة الدراسات الأصولية في زمن التنزيل إلى مثل هذه الدراسات، لوضعها قواعد مهمة في الاستنباط الأصولي.
3 - حاجة الدراسات الأصولية التطبيقية لبحث إقرار النبي -صلي الله عليه وسلم- واثر دلالته على الأحكام الشرعية.
الدراسات السابقة:
هناك جملة من الدراسات المعاصرة التي بحثت أفعال الرسول -صلي الله عليه وسلم-، وكذلك كتب الأصول المعاصرة التي تناولت تقريرات النبي -صلي الله عليه وسلم-بأنواعها، ولكنها لم تبحث-فيما اعلم -حكم الاحتجاج بالإقرار على أفعال الصحابة في زمن التنزيل إلا ما ورد في كتاب (أفعال الرسول -صلي الله عليه وسلم -ودلالتها على الأحكام الشرعية) ([1]). فعرضت المسألة فيه في صفحتين، إلا أنها تعد -في الحقيقة -نواة للبحث وطرح إشكالية الدراسة، فجاء البحث كي يسد هذا الثغر، وتضاف هذه الجزئية إلى جملة الدراسات الأصولية المعاصرة.
منهج البحث:
يقوم البحث على المنهج العلمي القائم على:
- استقراء النصوص الشرعية والمادة الأصولية في حكم الاحتجاج بإقرار الله عز جل، وإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم - لأفعال الصحابة الكرام، ودلالة ذلك على الأحكام الشرعية.
- تحليل النصوص الشرعية، والمصادر الأصولية في الموضوع.
- مقارنة المناهج الأصولية في موضوع البحث.
- استنتاج حكم الاحتجاج بإقرار الله عز وجل، وإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم - ودلالته على الأحكام الشرعية.
خطة البحث:
المبحث الأول: تعريف الإقرار، وشروطه.
المبحث الثاني: أقسام الإقرار في زمن نزول الوحي.
المبحث الثالث: حكم الاحتجاج بالإقرار على أفعال الصحابة في زمن نزول الوحي
وختاما اسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا الجهد موفقاً، وفي ميزان حسناتنا يوم نلقاه إنه ولي حميد.
المبحث الأول
تعريف الإقرار عند الأصوليين ، وشروطه
يتضمن هذا المبحث التعريف بإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم -وشروطه، وفق المطلبين التاليين:
المطلب الأول
تعريف الإقرار لغة واصطلاحاً
وفيه فرعان:
الفرع الأول: الإقرار لغة:
يأتي الإقرار لغة بمعنى الإذعان للحق والاعتراف به، وأقر بالحق: أي اعترف به، وقد قرره عليه، وقرره بالحق غيره حتى اقر([2]).
جاء في المصباح المنير: "قر الشيء قراً من باب ضرب: استقر بالمكان، والاسم القرار... واقر بالشيء اعترف به، وأقررت العامل على عمله، والطير في وكره، تركته قاراً "([3]).
"وقر بالمكان تقر-بالكسر والفتح -قراراً وقروراً وقراً وتقرة: ثبت وسكن. كاستقر وتقار، وأقر فيه وعليه وقرره"([4]).
والإقرار: إثبات الشيء إما باللسان واما بالقلب أو بهما جميعا ([5]).
فمادة : "قرر" تدور على الثبوت والاستقرار والسكون، ولعل الإقرار مأخوذ من قرره بالشيء" جعله في قراره، أي وضعه في مكانه([6]) ، وهذا المعنى الأخير اقرب إلى المعنى الاصطلاحي " لأنه إذا قرر الفاعل على فعله فقد حكم بأنه صواب، أو أن ذلك القول أو الفعل قد وقع في مكانه المناسب شرعا، فيكون قد تحقق به معنى الثبوت للحكم الشرعي واستقراره به.
الفرع الثاني: تعريف إقرار النبي–صلي الله عليه وسلم- اصطلاحا ً:
اختلفت عبارات الأصوليين عند تعريفهم إقراره -صلي الله عليه وسلم-، ولا يخلو كل تعريف من مناقشات واعتراضات واردة عليه، وليس مجال البحث يسمح بالتوسع في هذه التعريفات " لأنها خارجة عن نطاق البحث؛ ولأن إيراد التعريفات لا يؤثر بصورة مباشرة في علاج مشكلة الدراسة، ولكن اشمل التعريفات -في نظري -ما ذكره ابن النجار الفتوحي بقوله:
"أن يسكت النبي -صلي الله عليه وسلم -عن إنكار فعل أو قول، فعل أو قيل بحضرته، أو في زمنه من غير كافر، وكان النبي صلي الله عليه وسلم عالما به"([7]) ، وسبب اختياري هذا التعريف ما يلي:
1- انه نص على حكم القول أو الفعل الواقع في زمانه -صلي الله عليه وسلم-، مع السكوت، وان له نفس حكم الإقرار على ما وقع في حضرته، ولكن مع علمه -صلي الله عليه وسلم - بتلك الواقعة.
2- انه نص في التعريف على عدم اعتبار الكفار في الإقرار، وانه لا يحتج بسكوت النبي على أعمال الكفار" لأنهم لا ينفع فيهم الإنكار.
وأما الإقرار عموماً: فيمكن تعريفه بأنه: "سكوت القران عن حكم يفعله الصحابة زمن نزوله بقرائن تدل على علم النبي -صلي الله عليه وسلم-به، وسكوت النبي -صلي الله عليه وسلم-عن إنكار قول أو فعل مع علمه به على نحو يدل على شرعيته " إذ لولا سكوت الشرع لكان له حكم يخالفه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز".
المطلب الثاني
شروط الإقرار عند الأصوليين
اشترط الأصوليون شروطا للإقرار حتى يكون دليلاً على الجواز، وهذه الشروط ليست محل وفاق بين أهل العلم، فمنها: ما هو معتبر يعضده الدليل، ومنها: ما هو ضعيف لا ينهض لأن يكون شرطا على حجية الإقرار، وقد اقتصرت على إيراد الشروط المعتبرة عند الأصوليين: -
الشرط الأول: أن يعلم النبي -صلي الله عليه وسلم-بالحادثة، سواء أكان علمه بها مشاهدة، كما لو وقعت في حضرته، أم وقعت في زمانه ونقلت إليه. وهذا الشرط اقوى شروط الإقرار، حتى إنه محل اتفاق عند جمهور الأصوليين ([8]).
وعلم النبي صلي الله عليه وسلم يتحقق بطريقين:
أحدهما: ما وقع بحضرته فراه أو سمعه من فاعله مباشرة ([9]).
وهو أكثر الإقرارات المحتج بها عند الأصوليين والفقهاء، والاتفاق قائم على أن ما علم به -صلي الله عليه وسلم -بمشاهدته وحضوره هو من قبيل الإقرار المحتج به ([10]).
ومن أمثلته:
ما روى قيس بن عمرو قال: " رآني رسول الله –صلي الله عليه وسلم -وأنا أصلى ركعتين بعد صلاة الصبح، فقال: ماهاتان الركعتان يا قيس؟ فقلت: يا رسول الله، لم أكن صليت ركعتي الفجر، فهما هاتان الركعتان، فسكت رسول الله صلي الله عليه وسلم"([11]).
فهذا السكوت من النبي -صلي الله عليه وسلم - يعد إقرارا لما راه مباشرة من الصحابي – رضي الله عنه - في حضرته -صلي الله عليه وسلم-.
الثاني: ما حصل في زمانه -صلي الله عليه وسلم - ونقل إليه، فهذا كالذي قبله، محتج به، ولكنه يحتاج إلى قرائن يلوح فيها علم النبي -صلي الله عليه وسلم - " لأنه لا يقر على منكر.
ومثاله : ما روي عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال : " أن معاذا كان يصلي العشاء مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم - ثم يرجع إلى قومه فيصلى بهم تلك الصلاة "([12])، وفي رواية أخرى بزيادة : " هي له تطوع، ولهم فريضة "([13]).
والدليل على علمه-صلي الله عليه وسلم-أمور منها:
1-ورد في الخبر: أن أعرابياً شكا معاذاً إلى النبي –صلي الله عليه وسلم-مما يطول في الصلاة، فقال له النبي -صلي الله عليه وسلم-: " يا معاذ، أفتان أنت، أو أفاتن... ؟" ([14])، فقول النبي –صلي الله عليه وسلم-ذلك لمعاذ مع كونه يصلي معه العشاء دليل على علمه بصلاة معاذ بقومه العشاء تطوعاً.
2- الغالب على الظن أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم - كان يعلم الأئمة الذين يصلون في قبائل المدينة.
3 - في حال ثبوت الزيادة: " هي له تطوع، ولهم فريضة "، وقد صحت، فهي نص في علم النبي -صلي الله عليه وسلم - بفعل معاذ - رضي الله عنه -، فكان إقرار النبي -صلي الله عليه وسلم- حجة كونه نقل بواسطة، وقد ثبتت الواسطة بنقل هذه الزيادة.
قال الشيرازي -رحمه الله-: "إنا نعلم من طريق العادة أن مثل هذا لا يجوز أن يخفى على رسول الله –صلي الله عليه وسلم-من طريقين:
أحدهما: أن الصلاة تتكرر ويتظاهر بها، فلا يخفى ذلك على رسول الله -صلي الله عليه وسلم – مع طول المدة، وصغر المدينة.
الثاني: أنه إقدام على إحداث شرع، فلا يقدم عليه معاذ -رضي الله عنه -من غير إذن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، فإنهم كانوا يستأذنونه في مثل هذه الحوادث "([15]).
الشرط الثاني: انتفاء الموانع في الإنكار، فإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم -لا يحتج به مع وجود المانع في الإنكار والتغيير" كقيام مصلحة ودفع مفسدة، ومن هذه الموانع: سكوته-صلي الله عليه وسلم-في انتظار الوحي، ويعلم ذلك من حاله، فلا يكون سكوته قبل البيان حجة على انتفاء الحرج من الفعل ([16]).
ومن امثله ذلك: تركه –صلي الله عليه وسلم-نقض الكعبة " مع انه امر مخالف للشرع – على خلاف ما بناها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام -، فقد روت عائشة -رضي الله عنها -قالت: أن النبي –صلي الله عليه وسلم-قال لها: " الم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم، فقلت: يا رسول الله، : ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال : لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت"([17]).
الشرط الثالث: أن يكون المقر على الفعل منقاداً للشرع، بأن يكون مسلماً سامعاً مطيعاً، أما أن كان كافراً، فإن تقريره لا يدل على رفع الحرج ([18]).
ومثاله: أن النبي -صلي الله عليه وسلم -لم ينكر على اليهود والنصارى ذهابهم لبيعهم وكنائسهم وعلى مراسيمهم في العقود والأقضية ([19]) " لأن فعلهم مخالف للشرع أصالة.
وقد حكى ابن الحاجب والآمدي الإجماع على أن سكوته عن الإنكار على الكافر لا حجة فيه ([20]).
الشرط الرابع: أن لا يكون المقر ممن يزيده الإنكار سوءاً ويغريه بشر مما هو فيه ([21]).
وهذا الشرط موافق لما عرف في الشرع من المداراة لأصحاب المنكرات، فإن النبي-صلي الله عليه وسلم-قد يترك الإنكار على أحد لعلمه انه قد يزيد الإنكار عليه سوءا، أو يغريه بالشر، فإنه -صلي الله عليه وسلم -كان يتقي من به شر وسوء خلق.
المبحث الثاني
أقسام الإقرار في زمن نزول الوحي
من خلال النظر في ما كتبه الأصوليون عن الإقرار في زمن التشريع يمكن حصره في قسمين رئيسين:
القسم الأول: إقرار النبي -صلي الله عليه وسلم -ويسمى بالسنه التقريرية، وهو على نوعين:
النوع الأول: إقراره -صلي الله عليه وسلم -لما وقع في حضرته مباشرة من قول أو فعل لأحد الصحابه الكرام -رضي الله عنهم -.
وهو على ضربين:
الضرب الأول: إذا وقع بين يديه -صلي الله عليه وسلم -قول من أحد الصحابة فأقره –صلي الله عليه وسلم -عليه، كان ذلك دليلاً على انه حكم الشرع في تلك المسألة ([22]).
ومثاله: سكوته –صلي الله عليه وسلم-على ما قاله مجزز المدلجي بين يديه –صلي الله عليه وسلم-حين رأي أقدام زيد وأسامة، وقد غطيا راسيهما، وبدت أقدامهما: " أن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر به رسول الله -صلي الله عليه وسلم"([23]).
قال الزركشي: " اعلم أن الاستبشار اقوى في الدلالة على الجواز من السكوت" ([24]).
الضرب الثاني: الإقرار على الفعل الذي وقع بحضرته -صلي الله عليه وسلم -إذا وقع الفعل بين يديه فأقره -صلي الله عليه وسلم -على ذلك كان دليلاً على مشروعية ذلك الفعل ([25]).
ومثاله: ما روي عن عائشة -رضي الله عنها -قالت: " والله لقد رأيت رسول الله-صلي الله عليه وسلم-يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله -صلي الله عليه وسلم-ورسول الله -صلي الله عليه وسلم-يسترني بردائه؛ لكي انظر إليهم، يقوم من أجلى حتى أكون أنا التي انصرف "([26]).
قال ابن حجر-رحمه الله -: " عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره؛ إذ لا يقر على باطل " ([27]).
النوع الثاني: ما وقع في زمانه -صلي الله عليه وسلم -ولم يشاهده، وهو على ضربين:
الضرب الأول: ما يعلم من طريق العادة انه لا يجوز ان يخفى على رسول الله -صلي الله عليه وسلم-لاشتهار أمره؛ فيصير بمنزلة ما لو شاهده واقر عليه.
ومثاله: أن معاذا -رضي الله عنه -كان يصلي العشاء مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم – ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة ([28]).
فيعلم من طريق العادة أن عمل معاذ، وهو صلاته مع رسول الله، ثم صلاته بقومه إماماً، لا يخفى على رسول الله -صلي الله عليه وسلم-([29]).
فالغالب أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم -كان يعلم الأئمة الذين يصلون في قبائل المدينة، لاسيما وقد ورد في الخبر ان أعرابيا شكا معاذاً-رضي الله عنه-إلى النبي –صلي الله عليه وسلم - مما يطول في الصلاة، فقال له النبي صلي الله عليه وسلم : " أفتان أنت يا معاذ" ([30])([31]).
فهذا الضرب وأمثاله داخل تحت باب الإقرار المحتج به شريطة أن يثبت علم النبي -صلي الله عليه وسلم - بقرينة من القرائن.
الضرب الثاني : ما يجوز ان يخفى عليه –صلي الله عليه وسلم- من جهة الإقرار ولم نطلع على قرائن تبين علم النبي -صلي الله عليه وسلم- بذلك([32]).
ومثاله : ما جاء عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال : " أخبرتني عمومتي من الأنصار انهم كانوا يكسلون على عهد رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ولا يغتسلون "([33]).
وهذا الضرب من الإقرار مختلف فيه بين الأصوليين، فهل يحتج به لاحتمال اطلاعه-صلي الله عليه وسلم-على أفعال الصحابة -رضي الله عنهم -في زمنه وإقراره لها، وهذا سنبينه في المبحث القادم عند كلامنا على الاحتجاج بالإقرار على أفعال الصحابة في زمن التنزيل.
القسم الثاني: إقرار الله- جلا وعلا-([34])
وهو على نوعين:
النوع الأول: إقرار الله تعالى في كتابه على بعض القضايا ولم ينبه على بطلانها، فهي قضية حق، وكل فعل أو امر أو نهي صدر عن احد في القران، فهو حق إلا إذا نبه على بطلانه، ودليل هذا النوع امرأن:
الدليل الأول: انه باستقراء آيات الكتاب وجدت العادة انه إذا حكى أمراً لا يرضاه أو ذكر شيئا يوهم غير المراد، فإنه يشير إلى بطلانه، أو يأتي بما يدفع الوهم وينفي الاحتمال، ومثاله قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ ) - إلى قوله - (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) ([35])وقوله: (فَفَهَّمْنَاهَ سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) ([36]).
وقوله: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) ([37]).
الدليل الثاني: أن الله انزل كتابه هداية وإرشاداً، وبياناً لشرعه، فلا يناسبه أن يذكر عن أحد من الناس ما هو باطل ثم يسكت عن التنبيه على بطلانه، فإن ذلك يفهم منه رضاه به.
والمقر عليه في القرآن على ضربين:
الضرب الأول: ما كان شريعة سماوية لنبي سابق أو قولا من أقواله أو فعلا من أفعاله. ويدخل ذلك في مسألة شرائع من قبلنا هل هي شرع لنا؟ وهي مذكورة في كتب الأصول فلا نطيل بذكر الخلاف فيها.
وقد رجح البزدوي أن شريعة ما قبلنا شرع لنا إذا كان ثابتاً بكتاب الله، أو بينه النبي -صلي الله عليه وسلم-فإنه شرع لنا ونلزم بالعمل به، ما لم يكن في شريعتنا ما ينسخه، واشترط البزدوي أن يقص الله تعالى أو رسوله علينا ذلك من غير إنكار له، احتياطا للدين، لما ثبت من تحريف أهل الكتاب ([38]).
وقد رأى بعض الفقهاء العمل ببعض القضايا، وبينوا أحكامها في مصنفاتهم-كالجعالة والمهايأة -ذكرت في كتاب الله ولم يعقب على بطلانها.
الضرب الثاني: أن يكون المقر عليه ليس شريعة سماوية، ولا قولا أو فعلا لنبي. وسواء أكان المذكور خبره مؤمناً كذي القرنين ونحوه، أم لم يكن مؤمناً.
والإقرار على هذا النوع أضعف من الإقرار على سابقه؛ لأن الأول لما كان في الأصل شريعة لنبي، وكان لدينا من الأدلة أمره تعالى لنبينا بالاقتداء بهدي من قبله من الأنبياء، كان ذلك دليلاً خاصا لحجيته، أما أن لم يكن نبيا فليس لدينا من الأدلة على حجيته إلا ذكره في القران من غير إنكار.
وهذا الضرب يكون حجة ما لم يعارضه ما هو أصرح منه.
وله أمثلة كثيرة، منها: قول الذين غلبوا على جماعة أصحاب الكهف (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) ([39])، وقد جاء في حق من فعل مثل ذلك الحديث: "أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"([40]).
النوع الثاني: إقرار الله تعالى لما كان الصحابة يفعلونه في عصر نزول الوحي ولم يعلم به النبي -صلي الله عليه وسلم-وسكت عنه الوحي، والمراد: ما كانوا يفعلونه على انه مما يأمر به الشرع أو يجيزه ([41]).
وهنا وقع الخلاف بين العلماء؛ هل يعتبر فعل الصحابي المسكوت عنه حجة لإقرار الله سبحانه وتعالى؟ على ما سنبينه في المبحث القادم.
يتبع