المسلمون في أوروبا الشرقية(2-2)
(خلا الجمهوريات السوفييتية)
د. علاء الدين سيد أغا
باحث أكاديمي سوداني
سبق أن ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال بعض المقدمات المتعلقة بجغرافيا الجمهوريات السوفييتية وتاريخها، وفي هذا الجزء نتحدث عن علاقتها بالخلافة العثمانية وجزئيات أخرى.
الدولة العثمانية والشريعة الإسلامية
أسلمت الدولة العثمانية نفسها إلى الدول الأوروبية، وإلى روسيا على وجه الخصوص، منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر، وذلك واضح من المعاهدات التي عقدتها مع بعض الدول الأوروبية، حيث تنازلت فيها الدولة العثمانية عن كثير من مظاهر قوتها التي كانت تتعامل من خلالها مع تلك الدول، ففي معاهدة سيتفاتورك، التي عقدتها الدولة العثمانية عام 1015هـ/1606م مع النمسا، تنازلت بموجبها عن الجزية التي كانت تدفعها لها النمسا. وفي معاهدة كوجوك فينارجة، التي عقدتها الدولة العثمانية مع روسيا عام 1188هـ/1774م من عهد السلطان عبدالحميد الأول 1773 - 1789م، سمحت الدولة بموجبها لممثلي روسيا في إسطنبول بتوفير الحماية للمسيحيين من رعايا السلطان، كما أتيح لروسيا تعيين قناصل لها في كل أنحاء الدولة العثمانية، ولم تعط الدولة مثل هذا الحق في تعيين ممثلين في ولاياتها (1).
وواضح من هذه المعاهدات المتتالية ما سيتمخض عنها بالنسبة إلى المسلمين القابعين في الدولة العثمانية في شرق أوروبا، لأن هذه المعاهدات لم تتناولهم، وإنما اهتمت بحماية المسيحيين وأحوالهم.
ولاحظ المؤرخون أن سبب ضعف الدولة العثمانية يعود أصلا إلى الابتعاد عن الشريعة الإسلامية. وقد بسط الحديث في ذلك المفكر العثماني قوجي بك kocibey، وكان ضابطا في سراي السلطان، ويعد من خواص السلطان مراد الرابع. وكان قوجي قد كتب رسالة إصلاحية بخصوص تدبير أمور الدولة وإصلاحها، وتقدم بها عام 1631م، ثم شفعها برسالة أخرى قدمها إلى السلطان إبراهيم عام 1640م. وأمثال هذه الإجراءات الإصلاحية (2) كانت تتردد ما بين حين وآخر في الدولة العثمانية؛ نظرا للابتعاد الشديد عن الشريعة الإسلامية، لا، بل ظهر في ديسمبر عام 1876 دستور غربي مقتبس كله من دساتير بلجيكا وفرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة. ولما آل الأمر إلى ذلك، تنمرت روسيا وغيرها من الدول الأوروبية، واستعدت لابتلاع الدولة العثمانية وبتر أطرافها، لا، بل تركيا نفسها. وفيما بعد أجهز على تركيا المسلمة ابنها كمال أتاتورك.
وبينما كانت تدوي صرخة الإصلاح التي نادى بها المفكرون والمؤرخون الأتراك؛ لاستنقاذ ما بقي من ذلك المارد، تنادى كثيرون في الجامعة الإسلامية (3) ووقف ضدها آخرون، متأثرين بأيديولوجيات تحارب الإسلام، وظهر فريق ثالث نادى بالتوفيق بين الإسلام والقوانين الغربية كنظام أمثل للإصلاح.
ولم يغفل تيار الإصلاح مسألة القوميات، وتعرض لها بالرفض والاستهجان.
ويعد - بحق - محمد عاكف من أوائل الذين استشعروا مسألة الأقليات والقوميات التي ستبرز بروزا واضحا في المحيط الثقافي والوطني والديني، ولأمر ما أطلق المؤرخون الأوروبيون على بلاد البلقان «مستودع البارود».
كانت البلاد البلقانية في أوائل القرن التاسع عشر ضمن الدولة العثمانية على اختلاف ساكنيها وألسنتهم ودياناتهم، فهناك اليونان والبلغار والصرب والألبان والبوشناق والبوماق والأفلاق والأتراك! وبذلك تكونت جماعات وطوائف إسلامية عديدة، إضافة إلى الطوائف المسيحية.
وكانت هذه الجماعات تقل وتكثر باختلاف الأقاليم وتشتد في وسط البلاد البلقانية، تداخلا وتشابكا، وبالذات عند مقدونيا، حتى إن كلمة مقدونيا صارت تطلق وصفا على الأطعمة المشكلة في بعض اللغات الأوروبية، ثم جوزت للاستعمال السياسي للدلالة على التشابك والتعقيد الشديدين.
اليونان
كان اليونانيون أرثوذكسا، وظلت كنيستهم على ما هي عليه حتى بعد فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح، الذي أطلق لبطريركية الفنار كل الحقوق والامتيازات التي كانت لها زمان الدولة البيزنطية. واستثمرت كنيسة الفنار هذه الحقوق استثمارا واسعا جدا، فخدمت اللغة اليونانية والثقافة اليونانية ونشرتهما بين غير بني قومها أيضا. كل هذا ولم تحاول الدولة العثمانية أن تحد منه أو على الأقل أن تباريه وتعمل قدره، بل إنها كثيرا ما أقدمت على تأييدها وحمايتها أيضا.
وبرز الولع بالأدب اليوناني، وأعلنت استقلالها في المؤتمر القومي في مدينة ميسولونجي سنة 1822م، وشيئا فشيئا بدأ حال المسلمين يضعف ليحتسبوا «أقليات».
كان البلغار يتبعون كنيسة الفنار الأرثوذكسية، وقد تقدم أن هذه البطريركية كانت يونانية، ونشطت حركة إحياء المدارس في بلغاريا، كعدوى يونانية مشروطة باللغة اليونانية كلغة الدين أساسا (الإنجيل كتب باللغة اليونانية فيجب أن يتلى بلغته الأصلية)، وبذلك تقيدت الوظائف الدينية باللغة اليونانية في البلاد البلغارية. وكان التعليم في جميع المدارس البلغارية يوناني اللغة حتى سنة 1835م، وفي تلك السنة نهض رجل اسمه تئوفيت ريلسكي، وأنشأ مدرسة في غبروة علم فيها باللغة البلغارية. وقام ريلسكي بتدوين القواعد النحوية والصرفية للغة البلغارية، وترجم الكتاب المقدس إلى اللغة البلغارية وهيأ أصح الأسس للتعليم والعبادة على السواء. وبهذا أصبحت اللغة البلغارية لغة العبادة ولغة التعليم في كل المدارس والكنائس، وساعدت روسيا بلغاريا في برنامجها المتقدم كل المساعدة.
وهنا فقط تدخلت الدولة العثمانية ومنحت البلغار حق إنشاء كنيسة بلغارية خاصة بهم (الإكسارخية) مستقلة عن الكنيسة اليونانية، وكان ذلك سنة 1870م، وفق الفرمان السلطاني، وتدرج الأمر حتى أصبحت بلغاريا دولة مستقلة استقلالا سياسيا. وتعرضت الدولة العثمانية للحرب مع روسيا سنة 1878م، وفيها انتصر الروس، ووقعت الدولة العثمانية معاهدة «آيا ستفانوس»، وشيئا فشيئا بدأ حال المسلمين يضعف ليحتسبوا «أقليات».
رومانيا
وبالأسباب والمقدمات نفسها التي مرت بها بلغاريا مع اليونان وهيأت استقلالها، بل أكثر من هذا، لأن الدول الأوروبية كانت تعتقد اعتقادا جازما بـ «أن رومانيا جزء من بلاد اليونان». وعلى هذا، ثار الرومانيون على سلطة كنيسة الفنار وعلى الدولة العثمانية (سلطة الباب العالي)، علما بأن هذا الزعم خطأ من أساسه، لأن رومانيا اسم حديث جدا لتلك البلاد، فقد ظهر سنة 1866م، وكانت تعرف فيما مضى بولايتين، «الأفلاق» و«البغدان»، منفصلتين، ثم توحدتا وأزالتا الحدود بينهما.
ونالت رومانيا استقلالها بفضل روسيا، ونهضت اللغة الرومانية وصارت لغة الكتابة والحديث، وتعبد الناس في كنائسهم بها، ولبت الدولة العثمانية هذه المشيئة الرومانية.
يوغوسلافيا
تضم يوغوسلافيا بين جنبيها عدة شعوب تعرف بـ «الصرب الكروات والسلوفن البوشناق، الغجر، والطربش» (4). وكان الصرب تابعين للدولة العثمانية ثم إلى إدارة الإمبراطورية النمساوية بعد معاهدة برلين (1878م) وما بعدها.
وكان الصرب أرثوذكسا، والكروات كاثوليكا، والبوشناق مسلمين يتكلمون لغة سلافية هي «السلافية الجنوبية» اليــوغــوســـل افـــية. ومــمـا يـذكر هـنا
- تنبيها - أن الصرب أقاموا إمارة مستقلة تحت سيادة الدولة العثمانية، تطورت إلى مملكة سنة 1878م، ونالت اعتراف السلطة العثمانية. واشتغل الصرب باللغة الصربية، تأسيسا ودرسا، فجمعوا ألفاظها في معاجم، وقيدوا نحوها وصرفها حتى غدت لغة العبادة والعلم.
وكانت البوسنة والهرسك - آنذاك - قد دخلت تحت إدارة النمسا واحتلالها سنة 1878م حتى 1908م، وبعدها ألحقت رسميا بالإمبراطورية النمساوية (معاهدة برلين).
وبانتهاء الحرب وانتصار الحلفاء، زالت الإمبراطورية النمساوية، وقسمت ممتلكاتها من البلاد، فالتحق الصرب بالكروات والسلوفن بالبوسنة والهرسك والجبل الأسود ليكونوا دولة (الدولة الصربية الكرواتية السلوفينية). ونالت يوغوسلافيا استقلالها وغيرت اسمها.
وشيئا فشيئا بدأ حال المسلمين يضعف ليحتسبوا «أقليات» ثم يطالهم نير الحكم الشيوعي بعد ذلك.
ومما يذكر طرافة أن الحرب العالمية الأولى كانت بسبب قتل الأرشيدوك فرديناند (ولي عهد النمسا) في مدينة بوسنة سراي على يد شاب صربي متشدد للفكرة القومية، فثارت النمسا وأعلنت الحرب، ثم تحولت حربا عالمية. وفي هذه الأيام تدور حرب ضروس في البوسنة والهرسك وقودها القوميات والعصبيات ضد المسلمين، وكانت الأمم المتحدة قد حظرت أن يصدر السلاح للبوسنة والهرسك، وآثرت الأمم المتحدة أن تتفرج لاهية عما يدور في البوسنة والهرسك لتشهد إبادة المسلمين وتصفيتهم دمويا (لأنه ربما عاد الفأر ليلعب في العب القديم)، فآثرت الأمم المتحدة العمل بالقول الألماني «أرفع يدك عن هذا الموضوع».
ألبانيا
والحال في ألبانيا كمثيلاتها المتقدم ذكرها، فقد تم الاعتناء باللغة، ثم الاعتناء بالدين، ثم بالقومية، ثم بالاستقلال شيئا فشيئا...
وهكذا الحال في بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر (هنغاريا)، فقد خضعت هذه الدول، إضافة إلى يوغوسلافيا، للاتحاد السوفييتي لتدور في فلكه. ولما انهار الاتحاد السوفييتي عاد هو نفسه أقليات وقوميات متناحرة فقيرة.
ولا أريد أن أشرح حال الشيوعية في تلك الدول ولا في الاتحاد السوفييتي (5)، لكن أوجز ما يقال إن الشيوعية استبدلت الإلحاد بالدين، والديكتاتورية والتسلط بالحريات. وطبيعي أن تنشأ مشاكل جمة في تلك الدول الشيوعية جميعها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وطبيعي أيضا أن يعاني المسلمون في هذه الظروف التحولية معاناة قاسية جدا، وقد شرحت هذه المعاناة من طرق شتى (6).
ويلاحظ أن الدول محل البحث قد أولت اللغة والدين (المسيحي) اهتماما كبيرا قياسا بالدولة العثمانية التي كان يؤمل أن تتولى ريادة هذين المجالين بما يكفل للأقليات المسلمة حقا متساويا.
ويلاحظ أيضا أن الدول الغربية قد سلكت سلوكا عنيفا ضد الإسلام والمسلمين، وجنحت نحو الإبادة الثقافية والدينية، لا، بل الإبادة العرقية، والحق أن هذا السلوك له سابقة مشهورة معروفة في «الأندلس»، فقد أجلي عنها المسلمون، فهاهي أطلال ذكرى. وإسبانيا اليوم في عداد الدول المسيحية.
الهوامش
1- philips price: Ahistory of turkey from emprire to repuplic: London.1950.
2- حركة الإصلاح العثماني، القاهرة، 1971م. وانظر أيضا: تاريخ أحمد جودت.
3- الجامعة الإسلامية وأوروبا، رفيق العظم، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1903م.
4- مذكرة الشيخ سليمان أفندي رجبي، رئيس المشيخة الإسلامية في جمهورية مقدونيا، سكوبية، ص1.
5- للاستزادة حول المسلمين وأحوالهم المأساوية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي سابقا راجع الرحلة: «المسلمون أمام تحدي العالم»، د. إحسان، مؤسسة الرسالة، 1983م.
6- راجع حوله:
- مذكرة رئيس المجلس التشريعي الأعلى (يوغوسلافيا)، أور فراتي.
- مذكرة رئيس المشيخة الإسلامية، مقدونيا (يوغوسلافيا)، سليمان أفندي رجبي.
- المسلمون في يوغوسلافيا، لجنة مسلمي يوغوسلافيا، الندوة العالمية، الرياض، 1410هـ.
- أوراق الأمانة العامة لملتقى أوروبا الشرقية 1991م.