​التراث العربي الإسلامي من التهميش إلى السطو



فيصل يوسف العلي

تراث الأمة هو عقلها، ودمها الذي به تحيا بين الأمم، وجماع خصائصها الحضارية والنفسية. إن هذا الصوت الذي أعلنه هنا صحيح من أي زاوية نظرت منها إلى تصور التراث، هو صوت صحيح إن رأيت التراث: منجزا فكريا تمثل في «الآثار المكتوبة الموروثة التي حفظها التاريخ كاملة أو مبتورة» على حد تعبير عبد السلام هارون في «التراث العربي، سنة 1978م» لأنه يمثل مادة بناء العقل وتكوينه.
وهو صوت صحيح إن رأيت التراث: «حقيقة أكثر تعقيدا من أن نتصور أنها تبدأ عند مجموعة من أمهات الفكر». «إن التراث يجب أن يحمل على أنه كل ما تركه السلف للخلف... لابد وأن يتسع ليشمل الفكر والنظم والمؤلفات» على حد تعبير حامد ربيع في (مقدمة سلوك المالك (1/19)، لابن أبي الربيع)؛ لأنه جوهر الهوية، ومجمع العناصر الوراثية المنسربة في نفوسنا وتقاليدنا جميعا.
ولذلك فإن النظر إلى التراث من بوابة أنه أغلى الكنوز نظر مستقيم جدا، وصحيح ولازم.
البيئة البائسة
وهل البداية التي شهدت الميلاد المشؤوم لعمليات ما يمكن تسميته بتدمير الكنز، يمكن أن نؤرخ لها بتوزيعها على مراحل متعددة، وإن كانت متفاوتة الخطر، بطبيعة الحال.
أولا- لقد كانت البداية البائسة لتدمير الكنز مع هجوم المعتزلة الدموي على فهم السلف، أهل السنة، ميراث الصحابة والتابعين.
لقد نما كثير من الحشائش السامة بفضل البذور الكلامية التي تنكرت للفهم النقي الذي تركه النبي " صلى الله عليه وسلم" في الأمة.
وكانت قمة المرحلة متجسدة في سياق المحنة التي خرج منها أهل السنة ظافرين حقيقة، لكن جسم الأمة بدا مثخنا ببقايا السم الذي اخترق جسمها مع سهام الأفكار المنحرفة.
ولعل أجلّ من ناقش هذه الآثار من المعاصرين هو إبراهيم بن عمر السكران في: (التأويل الحداثي للتراث: التقنيات والاستمدادات)، دار الحضارة، الرياض، سنة 1435هـ - 2014م.
ثانيا- مراحل الاجتياح المسلح الذي تعرضت له الأمة على مدار تاريخها الطويل، مع التتار، والصليبيين، والاحتلال الأوروبي الغربي، ثم الأميركي.
ثالثا- مرحلة سقوط الخلافة التي كانت أقسى المراحل التاريخية، والتي توحشت فيها صور تدمير الكنز، واتسعت آثاره المرعبة، وتنوعت لتطال مناطق تهميشه، وإسقاطه، وتشويهه، وسرقته، والإزراء به، وفقدان الثقة فيه، ومحاربته، ومحاصرته.
تجليات المحنة
لقد كانت هذه المراحل الممتدة التي صبت في نهر العصر الحديث محنة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وبكل ما يعلق بها من هوامش دلالية مادية ومعنوية معا.
ويمكن رصد تجليات هذه المحنة في رؤوس الأقلام التالية:
أولا- الاستهانة بالتراث، وما نتج عن ذلك من تهميش، وازدراء، وتجاوز وإهانة.
ويعد الأستاذ محمود شاكر رحمه الله أهم صوت صرخ بمخاطر هذه الاستهانة في العصر الحديث، حيث يقول في مقدمة تحقيقه لأسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني (ص:21): «والاستهانة داء وبيل، يطمس الطرق المؤدية إلى العلم والفهم»، ويقول (ص:21): «إن ذم التراث والاستهانة به كان أول صدع في تراث الأمة العربية الإسلامية، وأول دعوة لإسقاط تاريخ طويل». وظلت الاستهانة باقية الأثر في الناس إلى اليوم، حتى وصلت في بعض المناطق إلى اغتياله ماديا ومعنويا.
إن الهزيمة النفسية أمام الغرب هي التي ولدت في النفوس إهانة التراث.
ثانيا- انقراض غالب الأساتذة الكبار من المحققين، والمنظرين في ميدان تحقيق التراث، ونقد نشراته نقدا علميا دقيقا.
ثالثا- تحريم كثير من الجامعات في بعض البلدان العربية دراسة النصوص التراثية بغرض تحقيقها، ونشرها، والإزراء بهذا العمل العلمي.
رابعا- عدم الاعتداد بأعمال تحقيق التراث في عدد من أنظمة الترقية الأكاديمية في عدد من البلدان العربية.
خامسا- تقلص إسهام المؤسسات الرسمية في بعض البلدان العربية، وتراجعه في ميادين خدمة المخطوطات، وفهرستها، وتحقيقها، وما يستتبع ذلك من إهمال كثير من المخطوطات.
سادسا- عدم تدريس (تحقيق النصوص التراثية) في الأكاديميات العربية في الغالب.
سابعا- عدم العناية بقواعد علم تحقيق النصوص التراثية، وعدم العمل على إحيائها بعد أن فقدت الأدبيات الرائدة قيمتها، وأبدت عجزا عن مواجهة الأسئلة العميقة والكثيرة التي يطلقها البحث المعاصر حول عدد كبير من التفاصيل الدقيقة، لكثير من قضايا هذا العلم.
ثامنا- سرقة المخطوطات، وتهريبها للخارج، وهي الظاهرة التي يسميها الدكتور محمد عيسى صالحية باسم: «تغريب التراث العربي» في كتابه: (تغريب التراث العربي بين الدبلوماسية والتجارة: الحقبة اليمانية)، دار الحداثة، بيروت، ط2، سنة 1985م.
لقد كان مؤلما جدا أن يغيب عن الوعي الثقافي العربي أن كثيرا من الدوائر الدبلوماسية الغربية عرفت قيمة تراثنا، في الوقت الذي تتنامى فيه في بلادنا صور توحش الاستهانة به، وتأخير رتبته وقيمته، يقول محمد عيسى صالحية (ص:5): «هان التراث، فضاعت الأرض، ورخص الإنسان، بكلمات بسيطة هذه هي مأساتنا في عصرنا، جاءوا مستعمرين مبشرين بنهضة بدعوى النهوض والارتقاء، فمارسوا على أمتنا سادية (تعذيبا مؤلما) تربو على إذلال عبيد روما، فأعملوا في تراثنا نهبا وسرقة».
تاسعا- التشويه
ومن جانب آخر فقد مارس نفر من المعاصرين لأغراض تجارية صورا من تشويه التراث، فأهانوه عند نشره، ولم يراعوا القواعد العلمية التي ترعاه، وترعى أداء نصوصه صحيحة، مخدومة، مكشفة.
واستعلن عمل عدد من دور النشر في هذا الميدان، تتحرك وقد فقدت ضميرها، وشوهت منجزا أفنى علماء الأمة أعمارهم مجاهدين في سبيل القيام به، وهو تشويه عرض هذا التراث، للظهور مملوءا بالأخطاء والفساد، والتحريف، والتصحيف.
وهو تشويه لا يقل عن التشويه الذي مارسه المحققون المستشرقون، عندما حرفوا عددا من نصوصه، وأسقطوا عددا آخر من هذه النصوص لأغراض دينية، واستعمارية، وحضارية.
إن هذه التجليات تمثل رؤوس أقلام كلية موجزة جدا، لكنها يمكن أن تتخذ مثالا على حجم المأساة، والمحنة التي يتعرض لها تراث الأمة منذ نحو قرنين على الأقل، وهي الحقبة الأشد مرارة، والأكثر ضراوة، والأعنف توحشا.
الخروج من بيت المحنة
هل ثمة آفاق للأمل؟
إن البكاء يحسنه كل أحد، وليس المقام مقام بكائيات تقام، ثم نذهب وقد تقرحت منا العيون، بغير عائد من عمل.
إنه إذا كان ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/27) يقرر: أن فضيلة العلم في جواب السؤال، فإن فضيلة العمل والإيجابية والإيمان بهذا التراث تكمن في البحث عن آفاق تعين على كسر هذه البكائية، والخروج من بيت المحنة.
والحق أن ثمة أصواتا مهمة جدا يمكن أن تمثل بدايات جيدة للسير في اتجاه الانتصار للتراث، يمكن أن نجملها فيما يلي:
أولا- الدعوة إلى إحياء علم تحقيق النصوص التراثية، تجمع أدبياته المعاصرة، وتحللها وتنظم قواعدها، وتفصل القول فيما جاء سريعا مختزلا، قاصرا.
ثانيا- التوسع في المعاهد العلمية، ومساندة الجمعيات والمراكز الأهلية المعنية بدراسات التراث، والمخطوطات.
ثالثا- التوسع في دراسة منجز العلماء المعاصرين المتعاطفين مع المنجز التراثي لأعلام الأمة، وتقييم ما أنتجوه، والتركيز في فحص المتبقي من بحوثهم.
وثمة أسماء مهمة جدا في هذا السياق من أمثال: يحيى العلمي، وعبدالسلام هارون، ومحمود شاكر، والألوسي، والكوثري، وإحسان عباس، وحامد ربيع وغيرهم، وهي أسماء جديرة بأن تكون بداية جيدة لفحص مفاهيم تحقيق التراث ودراسته، والإيمان به، وإحيائه، ونقده... إلخ.
رابعا- إعادة الاعتبار لدراسات التراث، وتحقيقه في البحوث الجامعية العليا، وبحوث الترقيات لأعضاء هيئات التدريس في الجامعات العربية، بعد توفير الضمانات العلمية اللازمة.
خامسا- إنجاز الاعتراف بما يمنحه معهد المخطوطات التابع لجام عة الدول العربية من شهادات علمية (دبلوم/ وماجستير) في مجال التراث وفهرسته، وتحقيقه.
سادسا- الدعوة إلى إنشاء أقسام علمية مستقلة لدراسات التراث العربي الإسلامي في الجامعات المختلفة.
رابعا- ضرورة التوقف عن اتهام التراث في الإعلام، والتصدي لصور الإزراء به.
ثامنا- الدعوة إلى عقد مؤتمرات دورية لمناقشة مشكلات التراث، ومجالات خدمته المعاصرة، واستراتيجيات استثماره، وتوطينه في الثقافة المعاصرة.
إن كثيرا من الأصوات المعاصرة استيقظت على التعاطف مع التراث، بعد أن وجدت الهجوم العنيف المتنوع على أوعيته، وأفكاره، وأعلامه، وبدا التوجه نحو مواجهة أشكال الاستهانة بالتراث، وفضح الممارسات القاتلة ضده تتكاثر، وهو أهم ملمح للأمل في المشهد الحالي.
وينضم إلى هذا الملمح المهم ملمح آخر مهم جدا، وهو عمل عدد من المؤسسات وإن كانت قليلة، على نشر الوعي العام بالتراث بما تنشره من نصوصه، توزعها على نطاق واسع جدا، مما سيسهم بالضرورة في خلق أجيال مؤمنة به.
استراتيجية المواجهة
ومن أكثر الأشكال الإيجابية على طريق استراتيجية مواجهة صنوف تدمير الكنز الموزعة على خريطة التهميش والسطوة وهو شكل مهم جدا له تأثيره الجيد في تكوين وعي قوي بقيمة التراث، وتعيد له وجاهة الارتباط به، نفسيا وعقليا وماديا.
وهذا الشكل يتمثل في استثمار بعض العناصر التراثية الواردة من علم المخطوط في عدد من الأجناس الأدبية المعاصرة ذات الحضور الثقافي، من مثل الرواية.
لقد لجأ عدد من الروائيين المعاصرين في الشرق والغرب إلى الاستمداد من علم المخطوط والتراث بعضا من العناصر، لدعم عدد من الوظائف الفنية والجمالية، والاقتصادية، والحضارية، والسياسية المتحققة، بما يبدعونه من روايات.
ومن مظاهر هذا الاستثمار للعناصر التراثية المستمدة من علم المخطوط في الرواية المعاصرة ما يلي:
أولا- استثمار مصطلح المخطوط في عناوين عدد من الروايات، بدافع جمالي وفني ونفسي وتسويقي معا، على ما نرى في عناوين الروايات التالية:
أ- مخطوطة ابن إسحاق، لحسن الجندي.
ب- مخطوطة وجدت في عكرا، لباولو كويلو.
ج- المخطوط القرمزي: يوميات أبي عبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس، لأنطونيو جالا.
ثانيا- تصميم الرواية وفق تقنية الإيهام، أي: التلبيس على القارئ أن الرواية نص قديم ليس رواية، وإنما هو مخطوط عثر عليه محققه المعاصر، وأنه لم يفعل سوى نشره، وهي تقنية لجأ إليها عدد من الروائيين المعاصرين، لأغراض سياسية ودينية تتعلق بمحاولة كسر حدة المواجهة للروائي الذي يريد أن يدخل إلى نقد المؤسسة الدينية، ونقد عدد من أفكارها المنتشرة، بالإضافة إلى عدد من الوظائف الجمالية والإمتاعية، وممن لجأ إلى هذه التقنية فصمم عمله الروائي، زاعما أنه عثر على مخطوطة، يعيد نشرها:
أ-باولو كويلو في مخطوطة وجدت في عكرا.
ب- يوسف زيدان في: عزازيل.
ج- حسن الجندي. في: مخطوطة ابن إسحاق.
ثالثا- استثمار بعض المعلومات المتعلقة بدراسات التراث والمخطوطات لتطوير بعض الشخصيات، ودعم حبكة العمل الروائي، وتصعيد الأحداث.
وممن فعل ذلك فأجرى على لسان عدد من الشخصيات بعض المعلومات المستمدة من دراسات التراث، وعلم المخطوط:
أ- إليف شافاك في روايتها: قواعد العشق الأربعون، على لسان «كيرا» زوج جلال الدين الرومي الثانية.
ب- يوسف زيدان في روايته: النبطي.
ج- محمد المنسي قنديل في روايته: قمر على سمرقند.
إن الكنز الذي يسعى إلى تدميره الكثيرون مازال بإمكاننا أن نستنقذه، وفي استنقاذه استنقاذ للأمة.

ولعل أهم نقطة في سبيل استعادة حضور التراث في العقل المسلم المعاصر أن يفهم ارتباطه العضوي، ودورانه حول مركز «الوحي»، لقد ظهر شارحا، وخادما، وكاشفا تصورا جديدا جاء به الوحي العزيز، فدار حول مركزيته.
إدراك هذه الحقيقة كفيل بتعديل كثير من المسارات في التعامل مع التراث في الواقع المعاصر، لأنه سيصير لزاما على المسلم المعاصر أن يرتبط بالتراث من جانبي الإيمان والأخلاق معا.