إن الإنسانَ الذي يقرأ ويتعلق بالكتاب، إنما يعيش بين دُرَر وفوائد وكنوز؛ لأن القراءة مفتاح العقل ومصباح الفكر، وسبيل العلوم النافعة، ودرب الحضارة الماجدة، ومنهاج السعادة، والسلم إلى الريادة، والقارئ المنهمك في القراءة يجول بفكره وعقله في زمان قد غبَر، وتاريخ قد سُطر، ويسلب لبه حكم الأولين، وتجارب الماضين، وخبرات العارفين، وهو في هذا يطالع سِيَرَ العلماء، وينظر في نبوغ الأذكياء، وتهزه شجاعة العظماء، وأخلاق الصلحاء، ويسبر أغوار النفس، ويكتشف الجديد من الإبداع، وتتولد لديه حماسة بالنهوض بنفسه، وقد يغيب عن الوعي وهو يقرأ، فلا يلتفت لشيء؛ لأن القراءة قد ملكت عليه سمعَه وقلبَه وجوارحَه، وقد يموت بين الكتب، فيصير شهيد القراءة والاطلاع والبحث والنظر..
فهذا الإمام مُسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، وأحد أعلام المسلمين الكبار في الحديث النبوي، عُقد له مجلسٌ للمذاكرة، فذُكِرَ له حديث لم يعرفه، فانصرف إلى منزله وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: لا يدخلن أحدٌ منكم هذه الغرفة، فقِيل له: أُهديت لنا سَلة فيها تمر، فقال: قدموها إليَّ، فقدموها إليه، فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة يمضغها، فأصبح وقد فني التمر، ووجد الحديث، ولكنه مات بعد أن وجد الحديث، فقيل: سبب موته هي تلك السلة إذ لم يركز مع ما يأكل، وإنما كان كل تفكيره البحث عن الحديث[1].
وابنُ السُّنِّي: أحمدُ بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري، أبو بكر السُّنِّي المحدث المشهور صاحب كتاب (عمل اليوم واللَّيلة)؛ مات فجأةً وهو يكتُبُ، وكأنه أصيب بأزمة قلبية أثناء القراءة والانهماك فيها[2].
ومثله ابن قاضي شُهبة: أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر الأسدي الشهبي الدِّمشقي، تقيُّ الدِّين: فقيه الشَّام في عصره ومؤرِّخها وعالمها، من أهل دمشق، اشتَهر بابن قاضي شهبة؛ لأنَّ أبا جده (نجم الدين عمر الأسدي)، أقام قاضيًا بشهبة (من قُرى حوران) أربعين سنة، بينما كان يصنف ويكتب وولده أمامه، إذ أصابته نوبة قلبية ومات على إثرها مباشرة[3].
وكذلك الشيخ المُعَلِّمي: عبدالرحمن بن يحيى بن عليِّ بن محمد المعلمي العُتْمي: أحد فقهاء الزمان، وأحد أعلم أهل اليمن في عصره، نِسبته إلى (بني المعلم) من بلاد عُتْمة، باليمن، ولد ونشأ في عتمة، وتردَّد إلى بلاد الحُجَرية (قريبة من تعز)، وتعلَّم بها، وسافر إلى جيزان (سنة 1329) في إمارة محمد بن علي الإدريسي، بعسير، وتولَّى رئاسةَ القضاة، ولقِّب بشيخ الإسلام، وبعد موت الإدريسي (1341 هـ) سافر إلى الهند، وعَمِلَ في دائرة المعارف الحديثة بحيدر آباد، مصححًا كتب الحديث والتاريخ (حوالي سنة 1345 هـ) زهاء ربع قرن، وعاد إلى مكَّة (1371)، فعُيِّن أمينًا لمكتبة الحرم المكِّي (1372)، وهو عالم جهبذ وإمام مجتهد لا تخفى جهوده في علوم الحديث، وقد لقَّبه العلامة الدكتور بكر أبوزيد "ذهبي العصر"، وقد صدرت أعماله الكاملة في موسوعة ضخمة، وقد بَقِيَ في مكتبة الحرم منهمكًا على الكتب إلى أن شُوهِد فيها منكبًّا على بعض الكتب وقد فارق الحياة، وكأنه والله أعلم أصابته أزمة قلبية مات على إثرها فورًا[4].
ومثل هؤلاء العلماء عبدالله بن إبراهيم بن عبدالله الخَبْري، أبو الحكم: أحد علماء الأدب والفرائض والحساب، من فقهاء الشافعيَّة، من كتبه (شرح ديوان الحماسة)، و(شرح ديوان البحتري)، و(شرح ديوان المتنبي)، و(شرح ديوان الشريف الرضي)، ذكره مترجموه في جملة كتبه، وبينما هو قاعد يَكتب، وضع القلمَ من يده واستند، وقال: والله إنَّ هذا موت هنيء وطيِّب، ومات[5]!
وذكر ابنُ الوردي في تاريخه في حوادث سنة 256هـ أنَّ أبا عثمان الجاحظ الأديب المشهور الباقعة صاحب الكتب التي سارت مسير الشمس، وقعَت عليه مجلَّداته المصفوفة وهو عليل فقتلَته[6].
وقد كان الجاحظ لشغفه بالكتب وغرامه بها يكتري حوانيتَ الورَّاقين (باعة الكتب)، ويبيتُ فيها للمُطالعة.وقد قضى عمره عاكفًا على التأليف، وبسبب هذا الغرام والهُيام بالمعرفة والثقافة، وصل به الحد أن ينسى كُنيته ثلاثةَ أيام، فذهب إلى أهله قائلًا: بمن أُكْنى؟! فقيل له: بأبي عُثمان!
وكان يعيش ليلًا مع الكتب ونهارًا مع الناس، يتعرف على طبقاتهم، ويسألهم عمَّا يُهمُّه ويريد أن يتفهَّمه، ويأخذ من كلِّ من يعتقد أن عنده مِن المعارف ما ليس عند سواه، حتى يسجل تلك الحوادث، فهو (يسترشد بآراء الحراس، ويتحدَّث إلى الحُواة والجزارين والعطارين والنجَّارين والصيادين والأكارين والقابلات، ويسأل الحشوة وأرباب البطانة، وقد يأخذ بآراء البحريين إذا رووا له غرائب قبِلها عقلُه، أو يردها إذا كانت حديث خرافة، ويتحدَّث إلى كل مَن عنده طرائف من الكلام، وعجائب من الأقسام).
وكتابه البيان والتبيين أحد أهم أربعة كتب تصنع ثقافة الأديب، وهو أحد أكبر كتَّابنا ونوابغنا العرب المسلمين رغم فساد عقيدته، وقد ثابر على ملازمة الكتاب حتى لَقِيَ حتفه في مكتبته، فقد انهارت عليه رفوفُها وأكداسها وهو مُقعَد، فذهب في موكب من ماتوا على كتبهم..وكان سبَب موت الخليل بن أحمد الفراهيدي أنَّهُ قال: أُريدُ أن أقرِّب نوعًا من الحِساب، تمضي الجاريةُ إلى البيَّاع فلا يُمكنُه ظلمها، ودخل المسجد وهو يُعمِل فكرَهُ في ذلك، فصدمَته ساريةٌ وهو غافلٌ عنها بفكرِه! فانقلَبَ على ظهره، فكانت سَبَبَ موته رحمه الله تعالى[7].
والخليل مؤسس العروض والقافية، وأستاذ أساتذة البصرة والكوفة في النحو، وشيخ سيبوبه، ومؤسس علم المعجمات العربية، وقد ذكر المؤرخون أنه اجتمعت له علوم لم تجتمع لواحد قبله، وقد عَمِلَ أول كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيأ ضبط اللغة، وكان من الزهاد في الدنيا، والمنقطعين إلى العلم، فهو المؤسس لعلم المعاجم، وقد كان أعلم الناس بعد الصحابة بلغة العرب، وكما رأيت كانت تلك نهايته وهو يكرر مسألة علمية يريد أن يصل فيها إلى حل كي يسهل استذكارها لطلبة العلم..
وورد في ترجمة العلامة النحوي أحمد بن يحيى المعروف بثعلب رحمه الله:كان سبب وفاته: أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم لا يسمع إلا بعد تعبٍ، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرس، فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فحمل إلى منزله على تلك الحال وهو يتأوَّه من رأسه، فمات ثاني يوم[8].
لقد كان لا يفارقه الكتاب صباحَ مساء ليلًا ونهارًا في كل أحواله وهو جالس ومضطجع ويمشي، فكانت نهايته وهو يقرأ، وقد قيل: إن الناس كانوا يصيحون به أثناء هيجان تلك الفرس وبسبب صممه لم يسمع، وهو عالم نحوي بليغ من عجائب الزمان..
عندما يتعلق الإنسان بشيء يصبح جزءًا من كِيانه، وإذا أحب شيئًا تغلغل في عروقه ودمه، وفي تاريخنا هذه النماذج وغيرها كثير من العلماء الكبار الذين أحبوا القراءة حبًّا عظيمًا، وشغفوا بها وماتوا وهم يقرؤون أو يرددون، ويكررون مسائل العلم لقد ماتوا بين كتبهم وغادروا دنيانا الفانية وهم يمارسون لذة القراءة التي تُعد من أعظم لذائذ الحياة..
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/152181/#ixzz7I2wKdMzX