التزامك حكمة



مي عباس



الحماس وحده لا يكفي.. إنها حقيقة كل إنجاز أو نجاح في حياتنا، فالحركة مهما كانت نشطة وقوية لن توصلنا إلى المكان الذي نريده دون معرفة الطريق، والاسترشاد بخرائطه أو بوصلته.

ويتجلى هذا المعنى الثابت عقلا وشرعا وواقعا في مجال الدعوة إلى الله تعالى، ولذا نجد التعبير القرآني المعجز في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. يوسف: 108، والبصيرة تحمل معاني: قوة الإدراك والفطنة، والعلم والخبرة.

فالداعي إلى الله حقًا هو المتبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وما دون ذلك خبط عشواء، وجعجعة لا نرى لها طحينًا، فالتدين الصحيح، والالتزام الحقيقي هو الذي يتحلى بالحكمة في السلوك الشخصي والدعوي، في إصلاح النفس وإصلاح المجتمع.

والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، إنها تلك الفطنة والبصيرة النافذة والعلم الصحيح المتجرد عن الهوى والغلو الذي يجعل الأقوال والأفعال مناسبة وملائمة فتؤتي ثمارها الطيبة في النفوس والحياة.

وقد يعتبر من هرمت قلوبهم وانحدرت هممهم أن الحماس في العبادة والدعوة والرغبة في الإصلاح والتغيير خروجًا عن الحكمة ومقتضياتها، وكأن الحكمة عند هؤلاء ميراث لخبرات محبطة، وسلوك فاتر رمادي لعزائم خائرة، فهم يستخدمون لفظة الحكمة بالباطل كثيرًا كمثبط للإرادة، ومعرقل عن العمل، وصب للماء البارد فوق وقود الحركة، فأي حكمة في هذا؟ وأي تلاؤم ورشاد؟!

إن الحكمة لا تعني على الإطلاق القعود والتراخي واليأس، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاعدين أو يائسين حتى في أحلك الظروف وأشدها، فالحكيم لا يعدم الخيارات، لأن اتساع رؤيته وعمق إدراكه يفتحان أمامه الأفق دوما تحت سماء اليقين بالله وفرجه وقدرته.

معالم للحكمة

أيتها الأخت الكريمة!

شرح الله صدرك لطاعته، وأنار دربك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فحققي الحكمة في التزامك ودعوتك، وارجعي بالصدق والخشية دوما إلى نفسك لتراجعي وتجددي وتمحصي فلا تضل خطواتك.

- التزامك حكمة تعني التزود بالطاعة، والمسارعة في الخير، والمسابقة والمنافسة والجد في السير إلى الله تعالى، ولكن دون غلو فقد قال صلى الله عليه وسلم: "وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ". متفق عليه.

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : "والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب .

قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع .

وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة ، فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته ، كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة ، أو إلى أن خرج الوقت المختار ، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة ". فتح الباري 1/94.

- التزامك حكمة يعني أن تدربي عقلك على التفكير الصحيح الحكيم المتمثل في "ترتيب الأولويات".. فلا تنشغلي بالمفضول عن الفاضل، أو تتركي فرضا لأجل سنة أو نفل.

- التزامك حكمة تعني أن تتحدد خياراتك وفق قاعدة " درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة"، والتي تضمن صلاح الحياة والمجتمع، فالأم لن تترك أبناءها عرضة لأوجه الفساد بحثًا عن زيادة مال تحسن به حياتهم.

والزوجة لن تتخلى عن إبهاج زوجها وإعفافه انشغالًا بدعوة الغير، أو نشاط خيري، فتعرض حصنها الأول لرياح الفتن، ولصوص العفة.

- التزامك حكمة تعني ألا يطغى اهتمامك بالمظهر على حساب الجوهر، وأن تدركي أن العناية بالجوهر تجعل الالتزام المظهري نتيجة رائعة تتوج الحقيقة الداخلية، أما العناية بالمظهر وقصر النظر عليه مع فساد الأصل لا ينتج إلا النفاق، ولا يمكن أن يصمد أمام فتنة أو ابتلاء.

فحياء الفتاة يدفعها إلى الحجاب، فالأم الحكيمة تنشئ ابنتها على الحياء، وتعزز قيمته في نفسها وقلبها ووجدانها، والداعية الحكيمة تعلي من قيمة الحياء وتؤسس لشجرته المباركة في أفئدة مستمعاتها، حتى لا يتحول الأمر الإلهي بحجاب المرأة إلى مجرد شكل لا دلالة له أو عمق، بل قد يتناقض مع أوامر أخرى بعدم الخضوع بالقول، أو غض البصر.

ومن التطبيقات الدعوية في هذا الأمر أن تبدئي بترقيق القلوب وإيقاظها، والتذكرة بالله وأسمائه ونعمائه، والوعظ الحسن بحقيقة الدنيا وسرعة انقضائها حتى تلين القلوب وتخنس وساوس الشيطان، أما الدعوة المتخبطة الشوهاء فهي التي يختصرها أصحابها في أوامر ونواهي مبتورة عن حركة القلب وحب الله وخشيته.

- التزامك حكمة يعني أن تكون دعوتك بالقدوة قبل أن تنطقي بحرف، فعمل رجل في ألف رجل أنجع من قول ألف رجل لرجل.. فلا يتحول بيتك إلى ساحة للحرب والتشاحن بسبب التزامك، وإنما يصبح واحة محبة وتعاون واحترام.

- التزامك حكمة يعني أن تأخذي بيد الغافل من أقرب طريق وأقصرها وأسهلها، فلا تصعبين الأمور دون مبرر.

- التزامك حكمة يعني ألا تتحول الأمور الخلافية إلى مسائل إجماع، أو يتبدل المتغير ثابتًا.

- التزامك حكمة يعني أن تتوثقي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. من الحكم لشرعي أولًا، ومن واقع الأشخاص ثانيًا، وألا تخالفي الهدي بالنصح سرًا، وعدم الإنكار في الأمور الخلافية.

- التزامك حكمة يعني ألا تهملي قلبك وإيمانك في خضم طلب العلم والدعوة والعمل المجتمعي، فلا تنسيكِ العلوم الشرعية تدبر القرآن وتلاوته، ولا يلهيكِ العمل الدعوى والخيري عن ذكر الله فهو قوت القلب.

- التزامك حكمة يعني أن تسألي الله تعالى بصدق وتضرع أن يرزقك السداد في القول والعمل،وأن يهبك الحكمة فهي ضالة المؤمن، قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} البقرة : 269.


_____________