أديت رسالتي.. فهل أتزوج مجددًا؟



تهاني الشروني



أدارت تلك المكالمة التليفونية التي أجراها أخوها معها رأسها وقلبت كيانها، فظلت ساهرة تتقلب في الأفكار وأصبحت شاردة عاجزة عن أداء أعمالها اليومية حتى الروتيني منها حتى إن ابنها عندما جاء لزيارتها في الصباح ظن أنها مريضة وأراد أن يأخذها إلى الطبيب لولا أن طمأنته أنها بخير ولا تشكو إلا بعض الإرهاق.

ولكن سرعان ما عادت إلى حالة الشرود والتفكير.. هل هذا معقول؟، إن أخاها ليس مجرد أخ بل هو صديق لها وهو أقرب الناس إليها وإلى أولادها، لقد عاصر معها حياتها وما مر بها من أزمات وكانت دائما ما تستشيره فيما يعرض عليها فهو يجمع إلى حنوه وصلته الحكمة ورجاحة الرأي.

لقد أبلغها في هذه المكالمة أن أحد الرجال الذين يعرفهم جيدا ويثنى عليهم بخير يريد أن يتقدم للزواج منها، وقد منحها وقتًا للتفكير والقرار.

أخذت تفكر وبدأ شريط حياتها يمر على خاطرها، رمقت التقويم المعلق على الحائط وكادت لا تصدق.. هل مرت حقًا كل هذه السنوات؟

استشعرت الحدث قريبًا من خاطرها.. إنها لحظة موت زوجها، كانت نهاية العشرينيات، مات الزوج وترك لها ابنًا في الرابعة، وابنة لم تبلغ الثانية، فاتخذت قرارها بأنها لن تكون إلا لأولادها.

لقد شمرت عن ساعديها واستعانت بالله ، واستجمعت كل مخزون الحنان في قلبها فجمع الله عليها شتاتها، تقدم بعض الأشخاص طلبًا للزواج منها، ولكنها رفضت من حيث المبدأ وآثرت أن تكون لولديها فقط.

تداعت الأحداث والمواقف في مخيلتها .. كيف كانت الأم والأب لطفليها، وكيف كانت ترعاهما في كل صغيرة وكبيرة، وكيف كانت تلبي المطالب المعنوية قبل المادية، لقد احتوت أسرتها الصغيرة بعون من الله وتوفيق، ولقد كان أخوها بجانبها فعلا إلا أنه في النهاية كان منشغلا بأسرته وحياته، ولكنه لم يبخل عليها يومًا بالرأي أو المساندة كلما احتاجت إليه وسمحت ظروفه.

لقد كانت راضية عن قرارها، راضية بأمر الله وقدره، يا الله إنه ليوم قريب حين ذهب ابنها للمدرسة أول مرة وعاد منها ليجد الحضن الدافئ والعزيمة القوية لبدء المشوار، ثم ما أسرع ما لحقت به أخته في رحلة الدراسة.

أفاقت لحاضرها ها هو ابنها قد أتم تعليمه الجامعي من عامين، وهذا العام تخرجت أخته أيضا.. ما أعظم سعادتها عندما جاء ابنها إليها فرحا ليقبل يدها ويضع فيها أول راتب يحصل عليه من عمله، معبرا عن امتنانه اللا محدود لعطائها وصبرها ومنحها.

تذكرت كيف دخلت عليها ابنتها وهى تبكى وترتجف من مشاعر المراهقة التي بدأ تحس بها وكيف كانت تحتضنها وتطمئنها أن كل شيء على ما يرام.. وها هي ابنتها اليوم تطير سعادةً لاقتراب يوم زفافها.

كم كانت تقلق إذا تأخر ابنها مع أصحابه، وهى الآن لا تسمح له بأن يتأخر عندها إذا جاء لزيارتها إلا إذا كانت معه زوجته إنها تحمد الله فلم يكن لها سلاح إلا دعاءه والاستعانة به.

وتذكرت كم نصحها الكثيرون ساعتها بالزواج حتى أخوها أشار عليها بذلك ولكنها رغم إدراكها لحقيقة أنها ستحتاج إلى رجل بجانبها إلا أنها خشيت وآثرت ألا تجازف خاصة عندما كانت تستمع لقصص أبناء وبنات تربوا تحت إمرة وقسوة زوج أم وكيف أن ذلك أصابهم بآلام ظلت مترسخة في وجدانهم.

إنها الآن وبعد أن أتمت رسالتها تسترجع كيف كانت تعالج وحدتها إذا خلت بنفسها، باحتضان ولديها لتسكن هذه الوحشة أما الآن فقريبا ما ستحيط بها الوحدة، وهى لا ترغب في أن تكون مقيمة في بيت أحد، حتى وإن كان بيت ابنها أو ابنتها.

كانت تدرك أن بداخلها شيئا حرمت منه، ورغم أنها أغلقت الأبواب دونه منذ زمن بعيد إلا انه كثيرا ما كان يؤرقها في ليلها حين كان أولادها يخلدون إلى النوم ويسكن الكون من حولها، إنه شوق إلى رفيق بجانبها.. يشاركها أفكارها ويمسح دموعها ويزيل وحشتها.

هي الآن على موعد مع الوحدة مرة أخرى، وقد كانت تظن أنها ألفتها واعتادت عليها حتى جاءت هذه المكالمة لتهز كيانها رغم أنها أصبحت على مشارف الخمسين.

قامت لتطالع مرآتها وتتأمل ما رسمته السنين على وجهها، ولكنها لم ترى إلا قلبًا شابًا، بل إن هذه المكالمة كانت كالجرس الذي يدق عليه بشدة ليخبرها أنه بالإمكان ألا تكون وحيدة، وأنها قد تلاقي من يؤنسها .. من يتواصل معها، من يحدثها وتحدثه فيقطع صمت ليلها الطويل، فلا تبقى كلماتها حبيسة، أو بلا رد.. أن تجد من يرحم ضعفها ويأخذ بيدها، وقبل كل ذلك فهي تشعر أن طاقات العطاء بداخلها لا تزال خضرة نضرة.

قامت واستخارت الله وعندما رن الهاتف كان أخوها يحدثها عن طيبة هذا الرجل المتقدم وظروفه المناسبة فهو أرمل وليس لديه أولاد ويريد زوجة طيبة حنونة يكمل معها وتكمل معه مشوار الحياة.


وحين استشارت ابنها وابنتها رأت ملامح الرضا على وجهيهما وقبلا رأسها متمنين لها السعادة.. لم يمهلاها وسارعا لمحادثة الخال وإخباره بأنهما في انتظار عضو الأسرة الجديد.