التحكم في الحوار الذاتي أو تدمير العلاقات



مي عباس





المبالغة.. كانت هذه هي سمتها الأساسية، فهي إما محبة بشدة، أو كارهة للغاية.. إما متفائلة جدًا، أو غارقة في اليأس.. إما راضية جدًا، أو فوق ذروة السخط.

كانت مبالغاتها الدائمة، وأحكامها السريعة ومصادراتها على الأشخاص والقضايا والمواقف تشوش على طيبة قلبها، وتغطي ذكاءها وثقافتها فلا تكاد تنتفع بعقلها ومعلوماتها، فعاطفتها تسبق وتغلب، والأسوأ أن هذه العاطفة غالبًا ما تكون منبتة، لا تستند على دلائل من الواقع.

حدثتني في ذلك اليوم على الهاتف بنبرة متألمة وطلبت سرعة اللقاء، وجدتها مكلومة استبد بها الغضب والصدمة والحزن، ولم يفلح قرص المهدئ في تخفيف لوعتها، دار بخلدي صورًا لمصائب شتى، وخفق قلبي أن يكون قد وقع لأحد أبنائها مكروهًا، أو اطلعت من زوجها على ما يكسر القلب ويهدم البيت.

سألتها بوجل: ما بك يا صديقتي؟

قالت باغتمام: أمي تكرهني..


عجبت من هذه الجملة التي لا تقبل على مضض إلا من المراهقات، وسألتها بدهشة: ماذا تقولين؟

قالت بحدة: أرجوكِ لا تشككي في كلامي.. لقد ملَّت أمي مني، ولم تعد تطيقني، لم تعد تجد في قلبها عاطفة تجاهي.

حاولت إسقاط هذه الاتهامات القوية على والدتها الطيبة الحنون ففشلت، وأبى خيالي الواسع أن يتصور هذه المرأة التي سخرت حياتها لأبنائها، وما زالت تهب وقتها وجهدها لأحفادها، فتحمل عن بناتها الكثير من المشقة بحب وصبر، أن يتصورها جامدة أو كارهة لأحد من أولادها، وبخاصة صديقتي التي أعرف عن كثب كم تحبها أمها، وكم تتحمل عنها أعباءها الأسرية لتتيح لها فرص النجاح العملي باطمئنان.

سألتها بحزم: ما الذي حدث؟

قالت: إنها تفضل أختي وأبناءها.. ولقد قالتها صراحة.

ماذا قالت صراحة؟

قالت إنها تريد قضاء المزيد من الوقت معهم.

وهل يعني هذا أنها تفضلها؟

سكتت قليلا ثم قالت بانفعال: نعم.. لقد ملت أبنائي لأنها تراهم يوميًا.

سألتها: هل قالت ذلك؟

هل يجب أن تتكلم بشكل مباشر حتى أفهم، لقد أدركت هذا بحدسي.

قلت: وكيف صور لك حدسك أن أمك المحبة المتفانية قد ملت منك وفضلت أختك عليك لمجرد كلمة قالتها بأنها تريد قضاء المزيد من الوقت معها ومع أبنائها؟

سكتت متململة، فتابعت: أنا أعلم يقينًا أنك تحبين أمك وتجتهدين في برها، وأعلم أنك تحبين أختك ولم تكن بينكما يومًا مشاعر الغيرة السيئة، ولكنني لا أدرى حقًا كيف حمّلت كلمة أمك كل هذه المعاني السلبية.

لان قلبها فانهمرت دموعها، وقالت: لقد فكرت في الأمر، وربطت بين كلمتها ومواقف أخرى، فتيقنت من تغير مشاعر أمي تجاهي.

قلت برفق: لا يا عزيزتي لا يمكنك أن تتهمي أمك بعد كل هذه السنين، فضلا عن أن حقها عليكِ أن تتحملي منها الأذى المباشر برحمة وصبر، لا أن تتوهمي إساءة فتنقمين عليها.. هذا نقيض البر.

انقلبت مشاعرها من الإحساس بالاضطهاد إلى الإحساس بالذنب، فهرعت إلى الهاتف لتكلم والدتها: أحبك يا أمي.. سامحيني على أي غلط.. جزاك الله عني خيرًا.

ابتسمت لتقلبها ومبالغاتها المتضادة، وتخيلت والدتها مدهوشة من هذه المكالمة العاطفية المفاجئة.. وحمدت الله أنها لم تصدم بمكالمة غاضبة حزينة، أو جفاءً مفاجئًا كانت تنويه صديقتي كرد فعل على أوهامها.

عادت صديقتي منتعشة وقد اتقد حماسها للحياة بعد انقشاع غمة صنعتها المبالغة وسوء الظن، فاعتزمت أن أطرق على الحديد وهو ساخن، وسألتها:

بالله عليكِ أخبريني كيف تضخمت مشاعر الغضب لديك بلا سبب؟

صمتت برهة ثم قالت: بالأمس وأنا أرتب البيت، تخيلت حوارًا بيني وبين أمي، شعرت بعده بضيق صدري.

سألتها: ماذا قالت أمك في هذا الحوار الخيالي؟

سكتت وأجابت عنها ابتسامة خجلى.

قلت لها بصدق: تعرفين كم أحبك يا صديقتي الغالية.. ولكنني أشفق عليكِ مما تفعلينه بنفسك، فحوارك الذاتي مبالغ فيه، وغالبًا ما يكون سلبيًا ومشحونًا بالغضب والاستياء، ومبنيًا على سوء الظن، فتصدر ردود أفعالك غير مناسبة، ومبالغًا فيها، وقد تظلمين غيرك كثيرًا فضلا عن ظلمك لنفسك، وإهدارك لذكائك بتغليبك لمشاعر موهومة.

كانت صديقتي تمارس الحوار الذاتي السلبي على الدوام، ما من موقف أو حوار عابر أو غابر إلا وأعادت تشغيله في ذهنها، وما من لقاء مرتقب أو حدث منظور إلا وتخيلته قبل الأوان، وخيالها مع الأسف يؤجج غضبها وتوجسها ويزيد حساسيتها إرهافًا.

إننا جميعًا نمارس الحوار الذاتي أو الحديث مع النفس، وهو سلوك غير مرضي مادمنا نمارسه بوعي، ونسيطر عليه، فنتحكم فيه ولا يتحكم فينا، ونوجهه بخيال إيجابي يقوينا، ولا يوجهنا بانفعال سلبي يؤسس لمخاوف مرضية، أو غضب غير مبرر.

إن سوء الظن يجد في الحوار الذاتي السلبي بيئة خصبة يترعرع فيها ويغرس في قلوبنا أشجار الكراهية والغضب، فيتحمل وجداننا خبرات سلبية وخلافات وصراعات مع الآخرين لا صلة لها بالواقع وإنما هي مبنية على الخيال الفاسد، فتظهر ردود أفعالنا غريبة وصادمة، ويصبح الغضب سلاحنا الذي ندمي به أنفسنا ونفسد علاقاتنا.

وعلى قدر أهمية الحديث الذاتي الإيجابي في تقوية ثقتنا بأنفسنا، وإزالة التوتر من حياتنا، ومعالجة الخبرات والتجارب المؤلمة، إلا أن الدراسات النفسية تؤكد على أن الغالبية العظمى من حديثنا مع أنفسنا سلبي ويعمل لتدميرنا.

إن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ومن شر النفس، هو ورد يومي يتكرر في صلواتنا ومناجاتنا، وهو ذكر رئيسي نحصن به أنفسنا من شطط الخيال، وعند ورود الأفكار السلبية.

كما أن إحسان الظن وتلمس المعاذير هو خيار المسلم والمسلمة على الدوام، وفي إطاره يجب أن نؤسس لفراستنا وحدسنا اللذين باسمهما وتحت ذريعتهما كثيرًا ما يساء الظن وتفترق القلوب.

فالتفكير قد يضلل، والعقل قد يخدع، والإنسان مهما بلغ ذكاؤه لا يحيط بالأمور علمًا، ولا يعلم السرائر.


إن مقاومة الحوار الذاتي السلبي، والظن السيء بالآخرين يتطلب أن نرفض ثقافة تربط بين إحسان الظن السذاجة، وتقرن بين الفراسة وحسن التدبير وبين التفكير المؤامراتي والشك في الناس.