لا تضيعي درة التاج



أحمد عباس



هذه الأيام التي نعيشها بعد أن نكون قد قطعنا شوطًا كبيرًا من أعمارنا.. هذه الأيام التي تبدو وكأنها على هامش حياتنا ويداخلنا دومًا شعور ونحن نحياها بأننا فقدنا تأثيرنا في الحياة من حولنا.. هذه الأيام التي يسميها البعض خريف العمر لما قد تحمله من مشاعر قرب موعد الرحيل ووداع كل ما مضى من الذكريات.. هذه الأيام إذا نظرنا إليها بعين القلب سنعرف أنها تختلف عن كل ذلك لأنها في حقيقة الأمر تمثل ربيع العمر وجوهرة التاج لحياتنا.

ليس حقيقيًا أن هذه الفترة - التي تستحق أن نعتبرها ربيع العمر – هي فترة التوقف عن الفعل والتأثير في واقع الحياة المحيط بنا، أو أنها – كما يتصور الكثيرون- فترة الاكتفاء بالاستعداد لوداع الحياة، لأن هذه الفترة الغالية والمهمة من حياتنا تكون فيها خبراتنا قد اكتملت ومشاعرنا قد نضجت ونظرتنا لكل شيء حولنا، بل ونظرتنا لأنفسنا قد أصبحت على أقصى درجة من درجات الوضوح والشفافية.

والمرأة المسلمة عندما تصل إلى ربيع العمر يكون قلبها مليئًا بالرضا لأنها أمضت سنوات عمرها في طاعة ربها عز وجل وسخرت كل قدراتها وطاقتها وجهدها من أجل العبور بأسرتها إلى بر الأمان، تستشعر إحساسًا يغمر روحها بالسكينة والطمأنينة وهي ترى ثمرة رحلة الصبر والبذل والعطاء وقد أصبحت حقيقة ماثلة للعيان، وهي ترى أبناءها الذين كرست كل كيانها من أجل تنشئتهم بصورة صحيحة على منهج الإسلام، تراهم وهم يحققون النجاحات في حياتهم ويحصدون احترام المجتمع من حولهم وهم يسيرون في طريقهم إلى الله عز وجل فقد زرعت فيهم بذور التقوى والمسارعة نحو إرضاء الخالق.

تستطيع هذه المرأة أن تكتفي بدور المتفرج المتابع للأحداث من حولها وهي تستشعر أنها قد بدأت تخطو داخل مرحلة ربيع العمر، ولكنها إن فعلت ذلك تكون قد أهدرت فرصة ذهبية، وزهدت في درة تاج حياتها، لأنها تملك دومًا أدوات التأثير والتغيير في مجتمعها الصغير الذي تعيش مع أفراده، أو مجتمعها العام الخارجي.

ومن الأهمية بمكان أن تتيقن المرأة في مرحلة ربيع العمر من أن الله عز وجل عندما خلق الإنسان وأودع في داخل روحه هذه القدرات والمواهب أراد أن يستمر عطاؤه لآخر نبضة في قلبه وآخر نفس يتردد في صدره، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لآخر لحظة في حياته يمارس دوره العظيم في قيادة المجتمع المسلم وتلقي الوحي من الخالق سبحانه وممارسة أدواره الاجتماعية كاملة فهو الصديق والأب والجد والزوج في وقت واحد.

إن المرأة المسلمة في مرحلة ربيع العمر عليها أن تتذكر دومًا أن الشيطان عندما يحاول أن يقنعها بأن دورها قد انتهى وأن الهدف الوحيد من بقائها حتى الآن هو أنها تنتظر لحظة الموت، عليها أن تتذكر أن الله عز وجل سيسألها عن كل لحظة من حياتها ما الذي قدمته لخدمة دينها وما الذي نجحت في تحصيله من الحسنات والأعمال الصالحات، وكلما ازداد إيمان المرأة المسلمة بأن دورها وتأثيرها في واقع الحياة من حولها لا يتوقف طالما هي على قيد الحياة كلما كان هذا هو النبع المتدفق الذي تستمد منه الإرادة والعزيمة لمواصلة التحرك والتأثير واكتساب المزيد من الحسنات والتفاني في محاولة نيل رضا الله تعالى.

التفكير في الماضي

بعدما تكون المرأة المسلمة قد تزودت بهذه الطاقة القلبية التي تدفعها للتحرك والتأثير عليها ألا تتوقف كثيرًا أمام الماضي الذي قد يكون بطبيعة الحال محملاً بالعديد من ملامح الألم والحزن وأن تحاول كلما تذكرت هذا الماضي أو خطر على بالها أن تعتصم دائمًا بالاستغفار والإنابة إلى الله وتستحضر قوله تعالى : "لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتكم".

وفي سياق بحث المرأة المسلمة في مرحلة ربيع العمر عن المجالات التي يمكنها من خلالها أن تواصل مسيرة عطائها لابد أن تتذكر حقيقة شديدة الأهمية وهي أن الإخلاص في النية شرط أساسي وحتمي في كل خطوة وكل فعل ولو كان صغيرًا لأن العمر لم يعد فيه الكثير لتصحيح النوايا بل أصبح من الضروري استحضار النية وتوجيه دفة القلب صوب اقتناص الحسنات والفوز برضا الله، مع إدراك أن العمل ولو كان قليلاً فإنه بصدق النية ونقائها وصفاء القلب يثقل في الميزان، ويقرب من رضا الرحمن.

والحقيقة الأكيدة أن ربيع العمر هو مرحلة غالية في عمر كل امرأة مسلمة لأنها مرحلة تمثل تتويجًا لرحلة الحياة ولا يمكن أن تمر هذه المرحلة بدون أن تكون مليئة بالمعاني القلبية الإيمانية الروحية التي تحملها الأعمال الصالحات وترقى بها إلى أبواب السماء فتكون عنوانًا لكتاب هذه المرأة المسلمة الذي تقبل به على الله وتسعى به إلى الدخول في رحمته والفوز بجنته ورضوانه.

آفاق العطاء

آفاق العطاء أمامك مفتوحة، كل ما عليك أن تثقي بحاجة من حولك إليك، وأن تستبعدي الفكرة الشائعة بأن كبير السن يتحمله المحيطون، ولا يجدون معه ما يلبي أفكارهم وتطلعاتهم.

فالحقيقة أن الإنسان هو الإنسان.. مشكلاته وهمومه، أفراحه وأحزانه، الحب.. الكراهية.. الصراع.. الأمل.. الإحباط إنها الأمور ذاتها ولكن قالبها يتغير، وتفاصيلها تتنوع باختلاف الأزمان.

لا تدعي القشرة السطحية لاختلاف الأجيال تفصلك عمن حولك، فإنها حواجز هشة، ومن ورائها حاجة ماسّة لدى الصغار والشباب والناضجين لمن يستمع ويتفهم، لمن يحنو وينصح، لمن يشارك ويؤازر بمقتضى الحب والخير، بعيدا عن كل شبهات الغيرة والندية والصراع على النفوذ.. إنهم يحتاجون إليكِ أنت، إلى خبرة حياتك.. لمسة حنانك.. طمأنينة رضاك.