مصطفى الزرقا... الفقيه الورع
عبده الدسوقي
عانى العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي والقرن العشرين من الوقوع تحت نير الاستعمار الإنجليزي والفرنسي, فقد احتلت بريطانيا مصر منذ سبتمبر 1881م ومن قبل كان الاحتلال الفرنسي عام 1798م, ما أدى إلى تخلف البلاد وانهيارها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً.
وظهر أثر الفكر الغربي في الفكر والثقافة الإسلامية, فظهر الفكر التغريبي والدعوة إلى فصل الدين عن السياسة, كما اجتاحت الشيوعية الهدامة كثيراً من بلاد المسلمين وتغلغلت فيها, وانعكس كل ذلك على التعليم فأصبحت نسبة المتعلمين لا تتجاوز ال20% من نسبة المجتمع المصري مثلاً, جلهم من الطبقة الثرية, ناهيك عن المدارس التبشيرية التي كانت تتبع الإنجليز أو الأميركان أو غيرهم.
في ظل هذه الأوضاع ظهرت ثلة من الشخصيات التي تركت بصمات في إصلاح المجتمع قبل رحيلها, ومنها الشيخ الفقيه مصطفى الزرقا, رحمه الله.
من هو
هو من أبرز علماء الفقه في العصر الحديث, ولد الشيخ مصطفى بن أحمد بن محمد بن السيد عثمان بن محمد عبد القادر الزرقا. بمدينة حلب في سورية عام 1322هـ الموافق 1904م، في بيت علم وصلاح, ونشأ في بيئة علمية حافزة على الطلب و التحصيل, حيث تربى تحت نظر جده العلامة الكبير الشيخ محمد الزرقا, وفي رعاية والده الفقيه الشيخ أحمد الزرقا (1285-1257هـ/1869-1927م) (من أعلام علماء تلك المدينة, وكان مشهورًا بالفقه الحنفي بوجه خاص, وكان مدرساً بالمدرسة الثانوية الشرعية) رحمهما الله تعالى.
فنشأ في ذلك الجو العلمي النابض, وظهرت عليه ملامح النجابة والذكاء منذ طفولته, وساعده على ذلك النبوغ تلقيه العلم عن كبار علماء حلب, ومعرفته باللغة الفرنسية والعلوم العصرية.
دراسته
بدأ دراسته في كتاتيب القرآن الكريم, وقرأ في بدايته كتاب ((الكفراوي على الآجرومية)) على العلامة المحقق محمود بن سعيد السنكري, وتوجهت رغبة الشيخ إلى التجارة, ولكن جده أصر على أن يسجله والده في المدرسة الخسروية.
تتلمذ على يد المحدث الكبير الشيخ محمد بدر الدين الحسني, ووالده العلامة الشيخ أحمد الزرقا, حيث درس عليه الفقه الحنفي، وقواعد الأحكام العدلية, والعلامة المؤرخ محمد راغب الطباخ, ودرس عليه الحديث والسيرة النبوية, والعلامة الشيخ محمد الحنيفي, ودرس عليه شرحه لجوهرة التوحيد.
ثم تابع بجهوده الشخصية دراسته العصرية, فنال شهادة البكالوريا الأولى في شعبة العلوم والآداب, وحصل على الدرجة الأولى على طلاب سورية جميعهم, ثم توجه إلى دمشق سنة 1929م لمتابعة دراسته العصرية, ونال البكالوريا الثانية في شعبة الرياضيات والفلسفة, والتحق- بعد إحرازه البكالوريا الثانية- بالجامعة السورية, وفي عام 1933م تخرج من كليتي الحقوق والآداب معاً, وأحرز الدرجة الأولى, ثم حاز عام 1947م دبلوم الشريعة الإسلامية من كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهر حالياً).
ومن أساتذته في تلك المرحلة: الشيخ عبد القادر المبارك, وعبد القادر المغربي, وسليم الجندي, وشاعر الشام شفيق جبري.
باشر التدريس في وقت مبكر, حيث تولى التدريس مكان والده في المدارس التي كان يدرس فيها, في المدرسة الخسروية و الشعبانية, كما تولى القيام بالدرس الذي كان لوالده في الجامع الأموي بحلب, وجامع الخير، ولذلك درس الكثير من الطلبة الذين هم أكبر منه سناً. وألحق الأحفاد بالأجداد.
ثم انتقل الشيخ إلى دمشق للتدريس في كلية الحقوق عام 1944م, كما درس في كلية الشريعة بدمشق بعد إنشائها سنة 1954م, وبقي فيها أستاذاً للحقوق المدنية والشريعة, حتى بلوغه سن التقاعد في آخر عام 1966م.
اشتغل بالمحاماة لمدة عشر سنين, بعد تخرجه في كلية الحقوق, بعد ذلك عينته وزارة الأوقاف في الكويت خبيراً للموسوعة الفقهية فيها سنة 1966م، و بقي في الكويت خمس سنوات قائماً بهذه المهمة خير قيامٍ, حيث أنجز مشروع ((الموسوعة الفقهية)) محرراً على المذاهب الفقهية الثمانية, و معجماً للفقه الحنبلي يقع في 1142 صفحة مرتباً ترتيباً هجائياً بإشرافه.
كما اختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عضواً في المجمع الفقهي منذ إنشائه عام 1398هـ, وقدم للمجمع عدة دراسات فقهية معاصرة.
ودرس في معهد الدراسات العربية العالية, التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة, ثم درس في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية عام 1971م, وظل بها حتى عام 1989م, وتخرج على يديه وتربى على منهجه العلمي نخبة من كبار العلماء, الذين تبوأوا أرفع المناصب العلمية.
ومن هؤلاء التلاميذ الشيخ المحدث عبد الفتاح أبو غدة, والفقيه الحنفي الشيخ محمد الملاح, واللغوي والأديب عبد الرحمان رأفت باشا, والفقيه الأصولي الشيخ فوزي فيض الله.
كان الشيخ مثالاً لا يجارى في الأخلاق والذوق والكياسة, تأثر به كل من احتك به, فقد كان رفيقاً شفيقاً, كما كان متأسياً بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أصبح شامة بين العلماء, وكان يحب اللباس المتوسط النظيف البعيد عن المغالاة, ويحرص على نظافة ملابسه وحذائه, كما كان لا يفارقه الطيب في كل أحيانه.
عمله ونشاطه العلمي والسياسي
كان الأستاذ مصطفى الزرقا يتقن اللغة الفرنسية تحدثاً وكتابة، ويجيد اللغة الإنجليزية, ويعرف شيئاً من اللغة الألمانية, وهذه المعرفة للغات الغربية, إضافة إلى تفوقه العلمي قادته إلى حضور كثير من المؤتمرات العالمية
في الستينيات أقيم في دمشق ((أسبوع الفقه الإسلامي)) وقد حضره فقهاء كثيرون من مختلف بقاع العالم الإسلامي, وكان منهم الأستاذ الزرقا والشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور مصطفى السباعي, وفي إحدى المسائل الفقهية المعاصرة, وهي مسألة التأمين اختلف العملاقان الزرقا و أبو زهرة اختلافاً كبيراً, وانتصر كل منهما لرأيه, وراح يأتي بالأدلة والبراهين, ولم ينته الرجلان إلى اتفاق.
وسئل الدكتور السباعي في جلسة خاصة عن سبب اختلاف العالمين, ورأيه فيما قالا فقال: الأستاذ أبو زهرة مكتبة فقهية, و الزرقا ملكة فقهية, وكأنه رحمه الله يعني أن الفرق كبير بين المكتبة والملكة، ففي المكتبة عشرات أو آلاف المراجع المحفوظة والروايات المسجلة, بينما الملكة هي أول أدوات المجتهد.
حصل الشيخ مصطفى الزرقا على جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية عام 1404هـ تقديراً لإسهاماته المميزة في مجال الدراسات الفقهية, وخاصة كتابه ((المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي)).
وله مشاركات علمية أخرى, منها: مشاركته في وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري عام 1372هـ, ورئاسته لجنة مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لمصر وسورية خلال وحدتهما (1958 :1961), وقد قام الأستاذ الزرقا بنشر هذا المشروع, وقدم له, وصدر عن دار القلم بدمشق, كما شارك في تأسيس وتطوير مناهج عدد من الجامعات, وشارك في كثير من المؤتمرات.
الشيخ كان مثالاً في الأخلاق والذوق والكياسة...وعرف بأنه صاحب ملكة فقهية فريدة


من مؤلفاته
أحكام الأوقاف. 2- في الحديث النبوي.
الاستصلاح والمصالح المرسلة في الفقه الإسلامي.4- الفعل الضار والضمان فيه.
نظام التأمين, والرأي الشرعي فيه.6- الفقه الإسلامي ومدارسه (بتكليف في منظمة اليونسكو).
صياغة شرعية لنظرية التعسف في استعمال الحق.8- المدخل الفقهي العام, الجزء الأول والثاني.
مجموعة فتاوى الشيخ مصطفى الزرقا, وغيرها من المؤلفات.
وبرز الشيخ في الفتوى حيث يرى أن الشريعة لا يمثلها مذهب واحد وإنما يمثلها مجموع المذاهب والمدارس الفقهية على اختلاف مشاربها وتعدد مسالكها, كما يتجلى ذلك بوضوح في عدد من الفتاوى, وهو يرى أن العصبية المذهبية سجن ضيق في جنة الشريعة الفيحاء.
ويقوم منهجه على أسس هي:
الاستقلال في الفهم والبعد عن العصبية المذهبية.
التخفيف والتيسير والبعد عن الحرج بضوابطه الفقهية.
تطبيق مبدأ سد الذرائع.
الأخذ بفقه الضرورة.
التعليل للحكم الفقهي.
ذكر الحكم الديني بجانب الحكم القضائي.
الاستدلال بالقواعد الفقهية والأصولية.
إحالة المستفتي إلى كتاب يستوفي الموضوع.
9- سؤال إخوانه من أهل العلم.
10- إيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المحرمة.
11- تقييد الفتوى بقيود وضوابط.
انتخب عن مدينة حلب نائياً في المجلس النيابي السوري عام 1954 ثم 1961م, وأسندت إليه وزارتا العدل والأوقاف عامي 1956 ثم 1962م.
قالوا عنه
قال الأستاذ عبد القادر عودة، يرحمه الله, عن كتابه المدخل الفقهي العام ((اعتصم الفقه الإسلامي من طالبيه في المتون, وتحصن في الشروح, واستعصى على طلابه في اللغة المغلقة والأسلوب العقيم، وكان كل من له إلمام بالفقه الإسلامي, وكل من عانى من قراءة كتبه, يود أن توطأ للناس هذه الكتب حتى تتيسر لهم قراءتها, وتسهل عليهم دراستها, وحتى يستطيعوا أن يوازنوا بين الفقه الحديث وبين الفقه الإسلامي العتيد؛ ذلك الفقه الغني بموضوعاته ونظرياته واصطلاحاته, المتميز بدقته وقوته، ليكون لهم من هذه الموازنة ما يزيد ثقافتهم، ويوسع آفاقهم, ويفتح أعينهم, ويوجههم إلى الطريق المستقيم.

وفاته
فجع العالم الإسلامي بخبر وفاة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا العالم الفقيه, فقد كتب د. بكري شيخ أمين يقول ((مصائب كبرى متتالية وقعت على العالم الإسلامي في السنة الهجرية الماضية، تجلت في موت الشيخ عبد العزيز بن باز في المحرم, ثم موت الشيخ علي الطنطاوي في صفر, وموت الشيخ مصطفى الزرقا في ربيع الأول, والشيخ مناع القطان في ربيع الثاني, وعلامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر في جمادى الأولى, والفريق يحيى المعلمي في جمادى الثانية, ماتوا جميعاً في المملكة العربية السعودية, ودفنوا تحت ثراها, وبكاهم العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه, وسيظل الناس يذكرون أعمالهم الكبيرة إلى أن تقوم الساعة، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها)).
ففي يوم السبت 19 ربيع الأول 1420هـ الموافق 3 يوليو 1999م وافته المنية بعد أذان صلاة العصر، وهو جالس ينقح الفتاوى ويبوبها. رحم الله الشيخ, وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.