التزامك رحمة



مي عباس



التزمتْ بدين الله تعالى.. فزال جمود حياتها، وفاضت رحمة ورفقا على من حولها، تعجب منها الكثيرون، فالعاطفة أصبحت شيئا غريبا، وربما معيبا، في عالم قست فيه القلوب، وتلاعبت به الأهواء الخاطفة، ولكن رحمتها في النهاية ألانت الصخر، وحطمت الحواجز، وأعطت نموذجا متألقا للتدين.

أيقنت أن هدايتها رحمة من الله تعالى، فامتلأ قلبها رحمة وشفقة على الناس.. لم تزدها الطاعة إلا تواضعا ورفقا، ولم تزدها المصائب إلا رأفة بالمكلومين، وتفهما للمبتلين.

أدركت أن الاستقامة بلا رحمة هي مظاهر جوفاء لا روح فيها، يحاكي أصاحبها أخلاق اليهود، الذين قست قلوبهم ففسد دينهم، وشددوا على أنفسهم، ولم يقدروا الله حق قدره، وأوقعهم هذا في الحيل، والصراعات الداخلية، وتفرق القلوب.

وتأست بنبيها العظيم صلى الله عليه وسلم، الذي قال عنه رب العزة سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ}[1]. فكان أرحم الناس بالناس، فهو رحمة للمؤمنين، ورحمة للكافرين، ورحمة للإنس والجن والدواب، وللخلق أجمعين.

رأت وفرة في التزام جامد آلي، وكأن أصحابه يطبقون مواصفات لا صلة لها بالقلب والوجدان، أشفقت عليهم، وأرادت أن تنضم لركب الأخيار والخيِّرات، الذين وعوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قوله: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب"[2].

صور من الرحمة:

صورة الإيمانية: تفيض الرحمة في حياة المسلم والمسلمة من ينبوع حسن الصلة بالرحيم الرحمن، ذلك أن الالتزام السلوكي دون رقة قلب، وخشوع، لا يدوم ولا يثمر، بل قد تؤدي الأعمال الطيبة في غياب القلب الحي الرقيق إلى الاستطالة على الخلق، وإحباط الصالحات، بالعجب تارة، وبالمن والأذى أخرى.

ولكن رقة القلب وحياته ورحمته هي محركات الاستقامة الحقيقية، وهي الأصل في التدين، وقد حذر الله تعالى من قسوة القلب، قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ }[3].

والملتزمة رقيقة القلب، مخبتة لذكر ربها، لها خلوة مع الله، وسير إليه بأعمال القلوب، باطن التزامها وسره، أفضل من ظاهره وعلانيته، فتفيض هذه الرقة رحمة في صمتها وكلامها، وينعكس على طريقة دعوتها، وحرصها على الأمر بالخير والنهي عن الباطل، فالرحمة ليست ضعفا بل هي رغبة في إيصال الخير.

قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: "إن الرحمةَ صفةٌ تقتضي إيصالَ المنافع والمصالح إلى العبد، و إن كرهتْها نفسُه وشقَّت عليها. فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأَرحم الناس من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك"[4].

تتلو كتاب الله وتجوده، ولكنها لا تجمد عند أحكام التلاوة، ولا تقتصر على ضبط الحرف، بل تتدبر وتتفكر، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[5].

تدعو .. وتتحرى مواطن الإجابة، فـ( الدعاء هو العبادة)[6]، تدعو بقلب حاضر موقن، فتفيض دموعها رقة وصلة، ولا تنسى لرحمتها أن تدعو للمسلمين والمسلمات.

صورة دعوية: يجب أن تكون الرحمة هي وقود الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا تتحول هذه الأمور العظيمة إلى أفعال جافة، تُنفِّر الناس، وتضيق بها صدورهم.

وعندما يشعر المدعو بمحبة الداعي له، وحرصه عليه، وشفقته به، تنهدم أسوار تحفظه، ورفضه، وعزلته، فيلين ويسمع دون أنفة أو صدود، أما إذا فُقدت الرحمة، فتحولت الدعوة إلى عملية آلية، تخلو من لفتات المودة، ولمسات التراحم، فإن القلوب تغلق، ويزداد العاصي في غيه، والغافل في عبثه، عندا وحنقا.

وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه ودعوته وتقويمه مبني على الرحمة، واستخراج أفضل ما في الإنسان، برفق لا يستعدي نوازع الشر والغي.

عن أبي أمامة قال إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا مه مه فقال : ادنه فدنا منه قريبا فقال اجلس فجلس ، قال أتحبه لأمك قال لا والله جعلني الله فداك . قال ولا الناس يحبونه لأمهاتهم " قال أفتحبه لابنتك " قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك . قال ولا الناس يحبونه لبناتهم " قال أتحبه لأختك " قال لا والله جعلني الله فداك قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال أفتحبه لعمتك قال لا والله جعلني الله فداك قال ولا الناس يحبونه لعماتهم قال أفتحبه لخالتك قال لا والله جعلني الله فداك قال : " ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال فوضع يده عليه وقال اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه " قال فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[7].

وهذا الحديث يظهر لنا إلى جانب الحكمة الدعوية الفائقة، الرحمة في التعامل مع الضعف البشري، والتي تكون جسرا للوصول إلى القلوب، وتفهم الآخرين.

إنها رحمة الداعي الذي يستشعر قيمة ما يدعو إليه، ويقدر الهداية كأثمن هدية في الوجود يقدمها الداعية إلى الناس، وهو ما يتنافى مع الغلظة والتجهم التي لا تكون إلا عند التكليف بالأمور المكروهة، وفي مجال العقاب.

صورة اجتماعية: والرحمة ركن أساسي لحسن الخلق، فبها يسهل البر، ويصبح سجية للمرء لا يتعنَّى لبذله، فيعطي من وقته، وماله، وحسن عشرته للناس، بطيب نفس، وانشراح صدر.

وإذا نظرنا إلى كثير من السلوكيات الاجتماعية السيئة سنجد وراءها ضعف في خلق الرحمة، ومن ذلك: اللامبالاة بأحوال الأهل والمحيطين، والغلظة القولية والفعلية، والتأفأف من كبار السن أو الضعفاء، والحرص على الظهور مع عدم تقدير الآخرين.

إن غياب اللطف والذوقيات لا يرجع فقط إلى سوء الأدب، وعدم التربية الحسنة، ولكنه ينشأ لا محالة عن قلة الرحمة في القلب، فتطبع السلوك كله بالوعورة والجفاء.

وهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل هم أمة، وهو خير البشر، لا يضن بوقته، أو يضيق صدره، فتأخذه الجارية بيده فينطلق معها لقضاء حاجتها، ويسلم على الكبار والأطفال، ويعود المرضى مسلمهم وكافرهم، ويمزح ولا يقول إلا حقا.

إن الرحمة تجعل للالتزام دفئا اجتماعيا، فتصبح الملتزمة في بيتها، وبين أهلها وعائلتها، كاتمة السر، وملجأ المتعب، والمعينة على الحق، وتصبح في مجتمعها ملاذا للمهمومين والضعفاء، يجدون عندها السلوى والمؤازرة.

وإذا كان الالتزام يجعل صاحبته حريصة على وقتها، مدركا لقيمة ساعات عمرها، فهي لا تضيعها في عبث اجتماعي، وعلاقات ولقاءات غير مثمرة، إلا أنها في الوقت ذاته تنفتح اجتماعيا على أبواب الخير، وتصل الناس فتألفهم ويألفونها، ويجدونها إلى جوارهم في أوقاتهم الهامة، تُعزِّي المصابة، وتعود المريضة، وتلبي الدعوة، وتمنح إنصاتا ومشاركة.






[1] الأنبياء: 107.




[2] متفق عليه.




[3] الزمر: 22.




[4] إغاثة اللهفان، ابن القيم، ج2، ص: 174.




[5] الزمر: 23.





[6] حديث رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الألباني.




[7] السلسلة الصحيحة (1\369)