نبذة عن الإمام النووي رحمه الله

حسين لون بللو



حظِيت ترجمةُ هذه الشخصية البارزة بعناية واهتمام فعَّال من قِبَل الباحثين والمبدعين، قديما وحديثًا في مشارق الأرض ومغاربها، لِما غَرَس لنفسه من سُمعة طيبة، وذكر رفيع، وعمل مشكور، يفتقر إليه العالم قديمًا وحديثًا، لذلك لم يزل العلماء يرددون اسمه في إبداعاتهم الفنية، وإنتاجاتهم العلمية، فقد استفاد منه معاصروه، وأخذوا منه علومًا كثيرة، ونقل منه اللاحقون وألَّفوا كتبًا قيِّمة.

نسبه ومولده:
هو محيي الدين أبو زكريا بن شرف بن مري الخزامي الحوراني الشافعي[1]، شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، وحُجة الله على اللاحقين، والداعي إلى سبيل السالفين، محرِّر المذهب، ومهذِّبه ومنقِّحه ومرتِّبه[2].

فأما كُنيته بأبي زكريا، فليست على قياس أن له ولدًا يسمى (زكريا)؛ لأنه لم يتزوَّج في حياته قط، وإنما ذلك من باب الكنية على طبيعة العرب المعروفة أنهم يُكنون كل من كان اسمه يحيى بأبي زكريا، نظرًا إلى نبي الله يحيى وأبيه زكريا عليهما أفضل الصلاة والسلام، كما تُكني العرب من كان اسمه يوسف بأبي يعقوب، هكذا وجد العرب يُكنون، وليس أمرًا قياسيًّا.

ولم يختلف المؤرخون في سنة ولادته ومولده، فقد ولِد في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة[3] في نوا - (من قرى حوران، بسوريا) - إليها نسبته بالنووي.... ويجوز كتابتها بالألف "نواوي"... كان يكتبها هو بغير الألف[4].

نشأ ببلده، وكان أبوه من أهلها المستوطنين بها، وكان يلبس ثوبًا قطنًا، وعمامة سنجابية، وكان في لِحيته شعرات بيض[5].

مناقب النووي وحياته العلمية
وكان الشيخ محبًّا للعلم وأهله، راغبًا في طلبه، فقدم إلى دمشق..... وسكن الروحية يتناول خبز المدرسة، فحفِظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع المهذب حفظًا في باقي السنة على شيخه الكمال، ثم حج مع أبيه وأقام بالمدينة النبوية شهرًا ونصفـًا، فذكر الشيخ أبو الحسن بن العطار أن الشيخ محيي الدين ذكر له أنه كان يقرأ عند شيخه في نوى كل يوم اثنى عشر درسًا على مشايخه شرحًا وتصحيحًا، درسين في الوسيط، ودرسًا في المهذب، ودرسًا في جمع بين الصحيحين، ودرساً في صحيح مسلم، ودرسًا في اللامع لابن جني، ودرسًا في أصول الفقه، ودرسًا في إصلاح المنطق، ودرسًا في التصريف، ودرسًا في أسماء الرجال، ودرسًا في أصول الدين؛ قال: وكنت أعلِّق لجميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله في وقتي، وخطر لي أن أشتغل في الطب، واشتريتُ كتاب "القانون"، فأظلم قلبي، وبقيت أيامًا لا أقدر على اشتغالٍ، فأقمتُ على نفسي وبعت "القانون"، فأنار قلبي[6]... فشرع في طلب علوم الدين والشريعة عند شيخه في نوى.

وقد تخرَّج في حلقة النووي العلمية المعروفة بدار الحديث الأشرفية بدمشق مجموعة من العلماء شاع ذكرهم في الكتب، منهم ما يأتي:
1- سليمان الجعفري.
2- شهاب الدين أحمد بن جعوان.
3- شهاب الدين الأربدي.
4- علاء الدين بن العطار.

وحدَّث عنه ابن أبي الفتح، والمزي، وابن العطار، عن اجتهاده وحفظه، زهده؛ قال ابن العطار: ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان لا يَضيع له وقتٌ لا في ليل ولا في نهار حتى في الطريق، وأنه دام ست سنين في التصنيف والإفادة، والنصيحة، وقول الحق"، مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الورع والمراقبة، وتصفية النفس من الشوائب، ومَحقها من أغراضها، كان حافظًا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه، وكان رأسًا في معرفة المهذب[7]، ولم يقتصر عمله في الحديث فقط، بل كان له حظ وافر في الفقه، وخاصة فقـه الشافعية، ومما يدل على ذلك أن الشيخ حسن القِنَّوْجي ذكره على رأس الفقهاء؛ حيث قال: "واشتَهر منهم محيي الدين النووي من الحلبة"[8]، وقد قال ذلك في كلامه عن المشاهير الفقهاء الذين بذلوا جهدًا فعالًا في مناقشة القضايا الفقهية المهمة في تكوين إنسانية الإنسان والترقي به نحو مستقبل جيد، وتمكنه من وجود سعادة الدارين، وقال الشيخ قطب الدين اليونيني: "وكان أوحد زمانه في العلم والورع والعبادة، والتقلل وخشونة العيش، وافَق الملك الظاهر بدار العدل"[9].

وقد قال شيخنا الرشيد بن المعلم: "عذلت الشيخ محيي الدين في عدم دخوله الحمام، وتضييق العيش في مأكله وملبسه وأحواله ... من مرضٍ يُعطله عن اشتغال، فقال: إن فلانًا صام وعبَد الله حتى اخضرَّ جلده، وكان يمتنع من أكل الفواكه والخيار، ويـقول: أخـاف أن يرطب جسمي ويجلب النوم، وكان يأكل في اليوم والليلة أكلة واحدة، ويشرب شربة واحدة عند السحر[10].

فإخلاصه هو سبب لاشتياق الناس إليه، وتعلُّق قلوبهم به، ويظهر ذلك فيما قاله ابن العطار، قال: "لَما ودعت الشيخ محيي الدين النووي بنوى - حين أردتُ السفر إلى الحجاز - حمَّلني رسالة في السلام عنه للإمام ابن عساكر... فلما بلَّغتُه سلامَه عليه، ورد عليه السلام، وسألني عنه، وقال: أين تركته؟ فقلت: ببلدة نوى، فأنشدني بديهًا:

أمخيمين على نوى أشتاقكم
شوقًا يجدِّد لي الصبابة والجوى

وأريد قُربكم لأني مرتجى
يا سادتي قربَ المقيم على نوى[11]


هذان البيتان دليل على ولع ابن العساكر بحبِّ النووي وغموسه في بحر مودته، لما يحمل صدره من علم وفهمٍ، وهذا هو الحب الخالص الحقيقي.

وفاة النووي وموقعه في الأمر بالمعروف
موقعه في الأمر بالمعروف:
كتب مرة: من يحيى النووي، سلام الله ورحمته وبركاته على المـولى المحسن، ملك الأمراء، بدر الدين، أدام الله به الخيرات، وتولَّاه بالحسنات، وبلغه من خيرات الدنيا والآخرة كلَّ آماله، وبارك له في جميع أحواله آمين، وينهى إلى العلوم الشريفة، من أهل الشام في ضيق وضَعف حال بسبب قلة الأمطار، وذكر فصلًا طويلًا وفي طي ذلك ورقة إلى الملك الظاهر، فردَّ جوابها ردًّا عنيفًا مؤلِمًا، فتكدَّرت خواطر الجماعة، وله غير رسالة في الأمر بالمعروف[12]، وكان شيخنا ابن فرح يشرح الحديث، فقال نوبة: إن الشيخ محيي الدين قد صار إلى ثلاث مراتب، كل مرتبة لو كانت لشخص لشدت إليه الرِّحال:
1- العلم.
2- الزهد.
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[13].

وفاته:
سافر الشيخ فزار بيت المقدس، وعاد إلى نوى، فمرِض عند عودته، فحضرته المنية، فانتقل إلى رحمـة الله في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة، وقبره ظاهر يزار[14].

وأُفردت ترجمته في رسائل، إحـداهما للسحيمي، والثانية للسخاوي، والثالثة المنهاج السوي للسيوطي مخطوطتان، والثالثة للسخاوي مطبوعة[15].

فممن ترجموا له ابن عطار، وربمـا لم يصل هذا الكتاب إلى المؤلف، لذلك لم يذكره، أو لم يعتبره كتابًا لقلة حجمه، وقد جمع ابن عطار سيرته في ستة كراريس[16].



[1] أبو عبدالله شمس الدين الذهبي، تـذكـرة الحفـاظ، ط2،1979م، دار إحياء التراث العربي، ص 14801.

[2] عبدالوهاب عزوز؛ شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، ط1،1409هـ - 1979، ص 9.

[3] الذهبي، المصدر السابق، ص 1480.

[4] الزركلي، الإعلام، ط2، 1409هـ - 1989م، دار إحياء التراث العربي، ج 8، ص 150.

[5] عزوز، المصدر السابق، ص10.

[6] الذهبي، المصدر السابق، ص292.

[7] النووي، شرح المسلم، ط7، 1407هـ- 1987م دار الكتاب بيروت، ص 10.

[8] صديق بن حسن القنوجي، أبجد العلوم الوحشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، تحقيق عبدالجبار زكار، ط2، 1978، ج2، ص411.

[9] النووي، المصدر السابق، ص12.

[10] النووي، المصدر السابق، ص10.

[11] القنوجي، المصدر السابق، ص104.

[12] النووي، المصدر السابق، ص 12.

[13] المصدر السابق، ص 12.

[14] المصدر نفسه، ص 12.

[15] الزركلي المصدر السابق، ج 8، ص149.

[16] النووي، المصدر السابق، ص 10.