من مفهوم العبادة في الإسلام


محمد مصطفى ناصيف[(*)]


العبادة تعني الطاعة، وهي أمر إلهي أوجبه الله على عباده ليعبدوه كما أمر وكما أوضحته السنة المشرفة بقول وفعل قدوة الإنسانية ومعلمها الخير صلى الله عليه وسلم تهذيبا للإنسان من الناحيتين الروحية والمادية، وتنظيم شؤون الفرد وترتيب شؤون الجماعة، وفيها رعاية أحوال الدنيا، وبها صلاح حال الدين كما أنها غذاء للإيمان وعلامة الصدق فيه وهي متجددة متكررة حتى يظل المسلم في دائرة الطهر والنقاء، مجذوبا بهذه العبادة إلى رحبات الله كلما دفعته ماديات الحياة إلى البعد عن هذه الرحبات الإيمانية.
العبادات في الإسلام تنحصر في أركانه، حيث يمكن أن نستوضح الهدف من فرضها، ونستلهم المزايا منها، فبعض الأحكام لا يتفق الناس على فهم أسبابها، وأن غموض بعض العلل مثل اختلاف عدد الركعات من صلاة إلى أخرى، ومثل النصاب في بعض ما تجب الزكاة فيه وغيرها فلسفة لها مغزاها المهم، فإذا ظهرت لنا العلة واضحة في الصلاة والزكاة مثلا فليس هناك داع أن نتتبع كل الجزئيات بالتعليل والبحث عن الأسباب (ولو أمعن هؤلاء جيدا وألهموا الشفافية الروحانية الإيمانية الصادقة لأحسوا بها وتذوقوا كنهها).
وعلى العباد أن يطيعوا ربهم كما أراد، فهموا مغزى العبادة أم لم يفهموها، ولو ناقش خادم سيده في كل أوامره وأبى أن يستجيب إلا لما يفهم سببه من هذه الأوامر وكذلك الجندي أمر قائده، أو المرضى نصائح طبيبهم.. لما طالت الصلة بينهما، ولأسرعت العلاقة بينهما إلى الانفصام.
ثم إن هناك فرقا ملحوظا بين أن تتوضأ قاصدا النظافة، وأن تصلي قاصدا رياضة البدن، وبين أن تتوضأ وتصلي قاصدا الطاعة والامتثال إرضاء لله تعالى، ولا شك أن حالة الطاعة المطلقة تكون العبادة فيها أمثل وأصدق تعبيرا عن المقصود (وأعيدك إلى مفهوم الإسلام الذي هو الانقياد والاستسلام لأمر الله ورسوله)، فمن قصد بالوضوء النظافة فقط فهجرته إلى غير الله، ومن قصد الرياضة بالصلاة فهجرته إلى غير الله، ومن قصد بالصوم العلاج الصحي فقط فهجرته إلى غير الله، وهكذا من يفعل العبادات لغير الله فهجرته إلى ذلك الغير.
وكذلك إذا كان الهدف من الصوم مثلا أن يحس الصائم بجوع الفقير، أو أن يتعود الجوع استعدادا لما ينزل به من مشقات طارئة، فلماذا لا يعفي المريض نفسه من الصوم؟ ولماذا لا يعفى من الزكاة كريم اليد السخي بالعطاء؟ وقس على مثل هذا في باقي العبادات.
وللإجابة على هذا نوضح أن الفلسفات التي سبق أن أوردناها.. إنما هي ألوان من الاجتهاد الإنساني على مر العصور للبحث عن أسباب هذه العبادات وليس بعيدا أن تكون هناك أسباب لما نعرفها بعد، أو تكون عقولنا قاصرة عن إدراك أسباب حقيقية ستظل مطوية أو مغيبة عنا.
والكثيرون يقصرون العبادة على أركان الإسلام الخمسة المعروفة، جهلا وعدم تفقه ومعرفة بأمور الدين، كما يقصرها الآخرون في بعض الأديان على الصلاة مثلا، والحقيقة أن العبادة في الإسلام شاملة جامعة لكل أمور الدين والدنيا، فهي تشمل كل نشاط يقوم به الإنسان.. تعلق هذا النشاط بربه أو نفسه أو أسرته أو مجتمعه أو أمته، وتلك هي الدائرة الواسعة التي تحتويها حياة المسلم، وما حديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، إلا أحد الأدلة على شمولية العبادة لكامل حياة المسلم، وهنا لابد من ذكر بعض أنواع العبادات والطاعات في الإسلام.
أدعك مثلا تطوف العالم الإسلامي في رمضان لترى صوما هنا وصوما هناك، وصلاة الجمعة أو الجماعة هنا، وصلاة الجمعة أو الجماعة هناك.. لأدركت سمو الهدف الذي قصد إليه الإسلام ارتقاء وسموا لجماعة المسلمين.
فالعبادات شعائر توقيفية، تؤخذ بأصولها وأشكالها.. فالله تعالى أعلم بما يحدد في هذه العلاقة وينظمها، فشرع الله عز وجل العبادات لتنظيم هذه العلاقة وفق ما شرع بالصورة التي وضعها الخالق جل وعلا، والله سبحانه وتعالى المشرع ونحن مكلفون بالإتباع، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31).
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"، (رواه مسلم).
ولا مجال في العبادات لطرح الآراء والاجتهادات، وفقا للشكوك والاختلاف، فيضعف التحقيق والالتزام.. والاستسلام لأمر الله ورسوله هو ما يميز المسلم عن سواه، وتظل أسرار العبادات وأوصافها كما ارتضاها الله ورسوله فنحن أمة متبعة لأمر الله ورسوله، ولسنا أمة ابتداع، وتبقى آثارها مشعة في قلب من تذوقها (ومن ذاق عرف).




[(*)] عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية