الشيخ عبد الرزاق الحلبي
في ذمة الله


فقدت دمشق قبيل فجر يوم السبت 12 ربيع الأول 1433هـ، الموافق 4 فبراير 2012م أحد علمائها الأجلاء فضيلة العلامة الشيخ عبدالرزاق الحلبي، الفقيه الحنفي، والمقرئ، وصدر المدرسين في جامع بني أمية الكبير بدمشق، وفي معهد الفتح الإسلامي، وأحد كبار علماء الشام، عن نحو تسعين سنة، رحمه الله تعالي، وغفر له. هو العلاَّمة المربِّي الكبير الفقيه المُقرئ الشيخ عبدالرزاق بن محمد حسن بن رشيد بن حَسَن بن أحمد الحَلَبي أصلًا وشُهرةً، الدِّمشقي الحَنَفي.
وُلِد الشيخ عبدالرازاق الحلبي بدمشق في شعبان سنة 1343هـ/ 1925م، ونشأ بين أَبَوَين صالحين، فوالده طالبُ علمٍ جَمَعَ بين التِّجارة وحُضور مجالس العلماء، ووالدته هي السيدة «وسيلة» ابنة مفتي الشام العلامة الشيخ محمد عطاء الله الكسم رحمه الله.
تُوفي والده سنة 1352هـ فَنَشَأَ يتيمًا في تربيةِ وتوجيهِ عمِّه الشيخ محمد عيد الحلبي، فَدَخَلَ الابتدائية في مدرسة الرَّشيد بدمشق سنة 1352هـ/ 1933م، وتَخَرَّج منها سنة 1357هـ/ 1938م.
دَخَل بعدَها «التجهيزَ» فمَكَث فيها نحو سنتين، ثم ترك الدراسة والتحق بالعَمَل في صنعة النسيج.

شيوخه في تحصيل العلوم


ثم تَعَرَّف على العلاَّمة الشيخ محمد صالح الفرفور، فبدأ بِملازمة حَلَقاتِه منذ ناهز البلوغ سنة 1358هـ/ 1939م، وبقي مُلازمًا له إلى وفاته سنة 1407هـ/ 1986م.
لازَمَه في حَلَقَاته في المسجد الأموي، وفي المدرسة الفتحية، وفي منزله، وفي سائر نشاطاته التدريسية، وهو شيخ تحصيله وتخريجه، قرأ عليه جُلَّ العُلُوم الشرعية والعربية قراءةَ بحثٍ وتحقيق ومُدارسةٍ وإتقان، وأسَّس معه ومع نُخبةٍ من تلاميذ الشيخ وتُجَّار دمشق الأبرار جمعيةَ الفتح الإسلامي، ثم معهد الفتح الإسلامي، وَرَافقه طَوال مسيرته العلمية والتربوية، وكان- مع زُملائه في الطَّلب- ساعِدَه الأيمنَ في إدارة معهده وجمعيته ونهضته، وأجازه إجازةً عامةً بالمعقول والمنقول.
أما القرآن الكريم وعُلُوم القراءات، فأخذها عن الشيخ محمود فايز الديرعطاني، والشيخ د.محمد سعيد الحلواني والشيخ حسين خطَّاب، وذلك أنه بدأ بحفظ الشاطبية على الشيخ محمود فايز الديرعطاني، ثم تُوفي فأتمها على د.سعيد الحلواني، وحفظ عليه الدرة أيضًا، وقرأ عليه عدة ختمات بالروايات المتنوعة إفرادًا، ثم بدأ عليه بالجمع الكبير، فتُوفي إلى رحمة الله، فتحوَّل بعده إلى الشيخ حسين خطاب، فقرأ عليه خَتمًا كاملًا بالقراءات العَشر، وأتمَّ عليه في شهر ربيع الثاني سنة 1391هـ، وأجازه أن يَقرأ ويُقرِئ بشرطِه المعتَبر عند أهل العلم.

شيوخه في الإجازة


حصل الشيخ- رحمه الله- على عددٍ من الإجازات سوى ما ذُكر، فأجازه:
1- العلامة الشيخ محمد أبواليسر عابدين مفتي الشام.
2- العلامة الشيخ محمد العربي العزوزي أمين الفتوى ببيروت.
3- العالم المُعمَّر الشيخ أحمد بن محمد القاسمي بإجازته من الشيخ محمد عطاء الله الكسم، كما أجازه الشيخ مُلا رمضان البوطي.
4- وتبادل الإجازة مع الشيخ محمد أديب الكلاس.
والتقى في الحجاز بعددٍ من مشاهير عُلمائه، منهم الشيخ محمد إبراهيم الفضلي الختني، وأهداه عددًا من الكُتُب والرسائل بطريق المناولة الحديثية، منها رسالة «نشر الغوالي من الأسانيد العَوَالي» ورسالة «الإسعاد بالإسناد»، كلاهما للشيخ محمد عبدالباقي الأنصاري اللكنوي ثم المدني.

عنايته بالتعليم والإرشاد


قضى الشيخ- رحمه الله- جميع عُمُره في التدريس وإقراء الكُتُب ليلًا ونهارًا، لا يَكلُّ ولا يَمَلُّ، فأقرأ العَشَرات من الكُتُب الأمهات في مُختلف العُلوم.
بدأ الدرس الأول سنة 1368هـ/ 1949م تحت قُبَّة النَّسر في الجامع الأُموي، حيث ألقَى دَرسًَا عامًا حَضَره- تشجيعًا- العلامةُ الشيخ محمد هاشم الخطيب، وكان أكثر تدريسه في المسجد الأموي، أقرأ فيه بعد الفجر، وبين المغرب والعِشاء، في كل يومٍ أكثر من ستين سنة، كما درَّس في مساجد أُخرى كالباذرائية، ومسجد القطاط، ومسجد فتحي القلانِسي في القيمرية، ومسجد الياغوشية في الشاغور، وغيرها من المساجد، بالإضافة إلى تدريسه في معهد الفتح الإسلامي منذ تأسيسه حتى قبيل وفاته.
أما الكُتُب التي أقرأها خلال مسيرته العِلمية فلا تكادُ تُحصى، وكان يهتم في إقرائه للكُتُب بأمورٍ مهمة:
أولها: يختار الكُتُبَ الأمهات، ولاسيما المطوَّلات منها في مختلف العُلُوم.
ثانيها: يقرأ هذه الكُتُب بطريقة السَّرد بحيث يقف عند المُشكِلات، ولا يُسهِبُ في شرحِ ما سِواها.

ثالثها: يحرِصُ على المواظبة وإتمام الكتاب إلى آخره ضمن برنامجه المُحدَّد له.
رابعها: يُعيدُ قراءة الكُتُب المهمة مرَّتين أو ثلاثًا أو أكثر.

فمن الكُتُب التي أقرأها (لا على سبيل الحَصر): تفسير النسفي، والخازن، والقُرطبي، والإتقان في عُلوم القرآن، الكُتُب الستة في الحديث، وموطَّأ مالك، وشرح النووي على مُسلم، وبذل المجهود شرح سنن أبي داود، وجامع الأصول، مراقي الفلاح، وحاشية الطحطاوي، والاختيار، وحاشية ابن عابدين، والهدية العلائية، وكشف الحقائق شرح كنز الدقائق، والأشباه والنظائر لابن نُجيم، والهداية للمرغيناني... وغيرها من الكُتُب في مختلف العُلُوم.
إقراؤه للقرآن الكريم

تصدَّر الشيخ للإقراء، فَحَفِظَ القرآنَ عليه مئاتٌ من طلبة العلم، ونالوا منه الإجازة برواية حفص عن عاصم، ولا يُمكن إحصاؤهم لكثرتهم.
أما الوقت الذي يُقرئ فيه الشيخ فغالب يومه، بعد صلاة الفجر، ومن فترة الضُّحى إلى ما بعد العِشاء، لا يردُّ قارئًا، ولا يكلُّ ولا يَمَلّ.
وفي سنة 1427هـ اختير الشيخ– رحمه الله- مع مجموعةٍ من كِبَار المُقرِئين في دمشق للتكريم من قِبَل وزارة الأوقاف ومركز زيد بن ثابت لخدمة الأنشطة القرآنية.
تَضلُّعُهُ بالعُلُوم

الشيخ- رحمه الله- عالمٌ مُتمكِّنٌ في جميع العلوم الشرعية والعربية، واسع الاطِّلاع، قوي الحافظة، حادُّ الذاكرة، يستحضر الكثير من المتون وعبارات العلماء، ويستشهد بها عند الحاجة إليها وكأنَّه يقرأها من الكتاب، يُحبُّ الاطِّلاع على معارف عصره، فقد تعلَّم اللغتين الفرنسية والتركية، وكان يتحدث بهما مع الطلاب أحيانًا.
وهو إلى ذلك مُولَعٌ بالقراءة والمطالعة كُلَّما سَنَحَت له الفرصة، ولمَّا تقدَّمت به السِّنُّ صار يُكلِّف مَن حولَه بأن يَقرأ له.
وظائفه التي تقلَّدها


أولًا: وظيفة الإمامة والخَطابة في عددٍ من مساجد دمشق، ففي سنة 1364هـ/1945م وُجِّهت إليه وظيفة الخطابة في المدرسة الفتحية جامع فتحي وكالةً ثم أصالةً سنة 1367هـ/ 1947م.
وفي عام 1376هـ/ 1956م كُلِّف بوظيفة الخطابة في جامع الجوزة وَكَالة.ً
وفي سنة 1390هـ/ 1970م نُقِل من وظيفة إمامة جامع القطاط الموكلة إليه سابقًا، إلى إمامة المِحراب الحنفي في المسجد الأموي.
وأخيرًا تولَّى الخطابة في جامع بلال الحبشي.
ثانيًا: وظيفة التدريس الديني في دار الفتوى.
ثالثًا: وظيفة إدارة المسجد الأموي منذ 1400هـ/ 1980م.
رابعًا: سُمِّيَ شيخَ الجامع الأموي بقرارٍ من وزير الأوقاف عام 2005م.
خامسًا: عضوية جمعية الفتح الإسلامي منذ تأسيسها سنة 1375هـ/ 1956م، ثم نائبًا للرئيس، ثم رئيسًا لها سنة 1986م، بالإضافة إلى إدارة معهدها منذ تأسيسه إلى سنة 1984.
سادسًا: رئاسة جمعية النداء الخيري في القيمرية.
سابعًا: كما حضر الكثير من المؤتمرات في العديد من البلدان الإسلامية وغيرها.

صِفاتُه الخُلُقية وهمَّتُه في العِبادة


الشيخ- رحمه الله- من العُلماء الكُمَّل المخلِصين (ولا نُزكِّي على الله أحدًا) جمع صفات الرِّجال الكِبار من الهمة العالية في الطاعة والعبادة والعِلم والتعليم، مع حُسن الأخلاق وطيب العِشرة، والتواضع والزهد في الدنيا، والكَرَم والجود، يبذل الصدقات ويقضي حوائج الناس، ملتزمٌ بالسنة المطهَّرة، يُحبُّه كلُّ من حوله، ويهابه كلُّ من يراه، يحفظ وقته كلَّه بين الطاعة والعبادة والعلم والتعليم والإقراء، مواظبٌ على برنامجه اليومي منذ نشأته، لا يخرمُه ولا يبدِّله، يُحافظ على صلاة الجماعة في المسجد الأموي بلا انقطاعٍ إلا في مَرَضٍ أو سَفر، مواظبٌ على الحجِّ في كلِّ عام منذ سنة 1370هـ تقريبًا، فزادت حِجاته على خمسين حجةً، كان في الكثير منها مُشرفًا على البِعثة السُّورية.
وفاته


توفي- رحمه الله- قبيل فجر يوم السبت 12ربيع الأول 1433هـ، الموافق 4 فبراير 2012م، وصلى عليه جمهور كبير من العلماء وطلبة العلم بمسجد الثناء بدمشق، وكان من بين المشيعين رفيقه وصديقه شيخ قراء بلاد الشام العلامة محمد كريم راجح، الذي ذكر بعض مناقب الشيخ «الحلبي» بالقول:
«رافقت الشيخ لسنين طويلة جدًّا، وأستطيع أن أقول لكم إن علماءنا عرفوا فضل الشيخ «الحلبي» وهو ما يزال شابًّا يطلب العلم، وأذكر مرات عديدة أن الشيخ «حسن حبنكه الميداني» والذي كان شيخ الشام في عصره كان يطلب رأي طالبه «عبد الرزاق الحلبي» عندما ترده مسائل تخص المذهب الحنفي، وكان من أدب الشيخ «عبد الرزاق» أن يقول له: «كيف أفتي بحضرتك يا سيدي»، فيقول له الشيخ «حبنكه»: «أحب أن أستأنس برأيك» فيقوم الشيخ «الحلبي» بإحضار الكتب التي تحتوي الفتوى ويفتحها بحضرة الشيخ «حبنكه» ويقرأ العبارة المطلوبة».
منقول