السُّقَّاطَة


إبداع معماري حربي


عبد الغني محمد عبد الله[¨]







كان التطور الإسلامي في العناصر المعمارية والإنشاءات في النواحي الحربية الدفاعية والهجومية فعالا وحاسمًا، في سبيل الدفاع أو عند الهجوم، ومن تلك الوسائل الباشورة، وقد كان لها الدور الدفاعي في الحرب وحراسة الأسوار والحصون وتفوقها على هجوم العدو عند اختراقه للأسوار والحصون، كما كان لها دورها المدني في مداخل البيوت والدور في منع الأعين من النظر والتلصص داخل الدار بسبب انحراف المدخل الأول والثاني؛ الأول للرائي من الخارج والداخل للمتواجدين داخل الدار، بحيث يكوِّن رحبة متسعة، وبها دكة يجلس عليها قارئ القرآن في البيت، يوميا أو أسبوعيا حسب المتفق عليه، ودون أن يختلط بأهل الدار أو يراهم أو يرونه.. كما أن هذه الرحبة استخدمت للقاء الضيوف العابرين دون دخولهم للدار بحيث يقابلهم صاحب الدار في تلك الرحبة وينهي مصالحه معهم.
اليوم سنتعرف على عنصر دفاعي جديد. وُضِعَ على الأبواب والأسوار وكان عنصرا حربيا دفاعيا بالغ الأثر والتأثير..
هو «السُّقَّاطة» وهي التي تعرف باسم machicoulis وإن كنا قد أشرنا أن الدكتور أحمد فكري قد أطلق على الباشورة هذا الاسم «الإنجليزي» أما العربي فقد سماه المشربية. ولا نعرف في حقيقة الآمر أسباب ذلك عند الدكتور أحمد فكري وإن كنا لا نقلل من آرائه بسبب أنه عالم مدقق ومحقق من الطراز الأول. أما المشربيات فيقال لها في الإنجليزية وبصراحة واضحة mashrabeyas. وللعلم فإن معظم العناصر المعمارية تنقل بحروف لاتينية بنفس الاسم فيقال صحن(sahn) ويقال مسجد (masged) بمعنى(mosque) ونسخي(Naskhi) وشيخ(sheikh) أما الاسم الصحيح للباشورة فهو Bentzntrance أو نقول Bachawrah مباشرة ونجد ذلك في الكثير من المراجع والمصادر.
والسقاطة أطلق عليها هذا الاسم بسبب أنها تستخدم كعنصر معماري معد لإسقاط مواد الهلاك والموت على المهاجمين في مناطق أعدت لذلك على أبواب الحصون والأسوار والمدن والبيوت.
وهي عنصر دفاعي في غاية القوة، وهي عبارة عن غرف مغلقة أرضيتها مفتوحة، فتحات من أسفل.
حيث يمكن للمدافعين القائمين بداخلها إسقاط مواد مهلكة كالزيت المغلي والأحجار والقار الحار والسهام على المهاجمين أسفلهم.. حيث صمم المدخل دائما بشكل يدفع المهاجم للانحراف إلى اليسار للخروج من رحبة المدخل إلى داخل الحصن ويكون المهاجم في هذا الوقت في أضعف حالاته وفي أضعف سرعة له. وإلا فإنه سوف يتناطح مع الحائط المقابل. وهو أمر قاتل لكل من يفكر في اقتحام الأبواب أو السوار، حيث تتكدس الجثث وتتراكم وتسد المدخل ويصبح أمر اجتيازه مستحيلا، ويزيد من الصعوبة بمكان على المهاجمين اجتياز ذلك المكان.
وأفضل الأماكن التي نجد فيها هذه السقاطات فوق الباشورات وعلى الأبواب وعلى الأسوار إلا أن الباشورات تزيد من فعالية هذا العنصر المعماري الحربي ولذا فهو عنصر دفاعي حربي من الدرجة الأولى، ومن الملاحظ تأكيدا أن الجيوش المهاجمة كانت تعمل لهذه السقاطات ألف حساب وكانت تفضل نقب الأسوار والدخول منها إلى داخل الحصن أو القلعة دون التعرض للباشورات وفوقها هذه السقاطات القاتلة. وليس هناك من شك في أن هذه السقاطات إنما هي تطوير إسلامي دفاعي بحت.. وإن كان قد قيل إنه ابتكار إسلامي خالص ونقل بعد ذلك إلى أوروبا بعد الحروب الصليبية.

وكأن المهاجم كان يواجه عدة صعاب إذا أراد مهاجمة الحصن أو المدينة، فعليه أولا اجتياز الخندق الذي غالبا ما كان يملأ بالمياه.. وعليه جسر متحرك غالبا ما كان مرفوعا، حيث لا يستخدمه إلا أهل الحصن فقط، ثم عليه اجتياز الباب ذي الجنازير المحكم الإغلاق ثم عليه دخول الباشورة بعد ذلك؛ متعرضا للهلاك من السقاطة، الموجودة فوق الرحبة الخاصة بها.. كما أنه كان في أغلب الأحوال توجد سقاطة سابقة على الباب الخارجي أي قبل سقاطة الباشورة مما يجعل الأمر في منتهى الصعوبة، ويجعل الهجوم مستحيلا إلا بتكلفة عالية جدا في الرجال الذين هم غالبا كانوا الصفوة التي ينتقيها العدو لمهاجمة الحصون والأسوار.
والسقاطة بضم السين مع التشديد وفتح القاف مع التشديد أيضا وفتح الطاء وجمعها (السقاطات).
ويقال إنها ليست من ابتكار المسلمين كما أنهم ليس من شادها في أول الأمر كما سبق في السطور السابقة إلا أن بعض العلماء يعطون تأكيدات لكون المسلمين هم أول من ابتكرها، ولكن المؤكد أنهم طوروها بشكل يجعلها عنصرا دفاعيا راقيا ومهما. وهذا هو قول أعداء المسلمين أنفسهم إذ إنهم لا قوا منها الأمرين عند مهاجمتهم للمدن أو الحصون الإسلامية، حيث وضعت فوق المداخل كما ذكرنا سواء كانت مداخل رئيسية أو فرعية.
وقد كان يظل الزيت مغليا في هذه الغرف التي يوجد فيها بكميات كبيرة في قدور ضخمة وموضوعة فوق نيران دائمة الاشتعال عند الدفاع.. ويغلي الزيت فوقها وباستمرار، كما توجد مغارف ضخمة ذات أيدي طويلة لملء هذه المغارف بالزيت المغلي من القدور، وإلقائه على المهاجمين من هذه الشقوق في أرضية السقاطة كما أن هذه السقاطات كانت تشحن بالأحجار الثقيلة والكثير من السهام لاستخدامها ضد المهاجمين وإلقائها عليهم من خلال الفتحات، ولابد أن يكون السقف بين الدور الأرضي الذي يدخله المهاجم والدور العلوي الذي يقف فيه المدافع مثقوبا أو مشقوقا وهو الذي يطلق عليه اسم السقاطة.

ولاشك أن الجندي المدافع يكون في مأمن تام حيث يختفي داخل الغرفة المغلقة فوق الرحبة ولا يظهر (بالنسبة للسقاطات فوق رحبة المدخل) .. أما السقاطات التي فوق الأبواب فإنه يحتمي بجدران السقاطة نفسها وهو في هذه الحالة لا يظهر بجسده.
وقد ظهرت هذه السقاطات على أبواب ومداخل مدينة بغداد المدورة.. وقبل ذلك في العصر الأموي ظهرت على أبواب قصر الحير الشرقي في بادية الشام وظهرت على أبواب قصر الأخيضر وأسواره (عباسي).
وعلى أسوار مدينة القاهرة الفاطمية التي بناها جوهر الصقلي للخليفة المعز لدين الله. ومازالت هذه السقاطات الأخيرة شاهدة على عظمة وبراعة المعمار المسلم والمحارب المسلم مدافعا يقظا جسورا بالغ الجرأة والشجاعة.



[*] كاتب صحفي مصري