(وفاء امرأة)


إكرام جلال


إلى كل امرأة لم تعرف معنى الحب الصادق, ولا كان للعطاء مكان في حياتها ولم ترسم ملامح ملحمة وفاء في حياتها..!
إلى كل رجل كانت توجد امرأة وفية في حياته, ولم يُقدر هذا الوفاء.. وتسرب من بين يديه..
ولم ينتبه إلا بعد فوات الأوان!
أُقدم هذه القصة, وربما مرت على البعض, فليجدد ذكراها..ويحيا مع لحظاتها ويرتوي من من نبع الحب الصافي....
إنها قصة حب صادقة لامرأة وفية ...ليست من عصرنا, عصر الحب الزائف, والخيال الخادع, وسيطرة المادة.
إنها امرأة غير النساء....كيف لا وقد ارتوت من منابع الحب قطرة قطرة, وتعلمت أروع معاني الوفاء, على يد معلم الإنسانية, وخير خلق الله...
زينب الابنة الكبرى لرسول صلى الله عليه وسلم, ولدت وعمره ثلاثون عاما, وأمها السيدة خديجة رضي الله عنها, ذات المنزلة الرفيعة, والتي وقفت بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم, وكانت نعم الزوجة الوفية, والتي بذلت في الدعوة كل ماتملك من مال وجاه, وعندما نزل الوحى للمرة الأولى على رسول الله, لم يفكر في سواها ليبث إليها ما نزل به عند نزول الوحي عليه لأول مرة, ولا قلبا أقرب ولا أحن من قلبها ليحتويه, والتي قالت له قولتها المشهورة التي عضدت من همة الرسول, وهدأت من روعه: "أبشر فوالله لايخزيك الله أبدا, فوالله إنك لتصل الرَّحِمَ, وتَصدُقُ الحَدِيثَ وَتَحمِلُ الكَلَّ, وتكسب المعدوم, وَتَقرِي الضَّيفِ وتُعِينُ على نَوَائِبِ الحَقِّ".إلى آخر الحديث[1]
وتبدأ القصة قبل البعثة بخطبة أبو العاص بن ربيع, وأمه هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة وكانت دائمة التردد على السيدة خديجة وتتمنى زواج زينب من ابنها, وأسرت لأختها بذلك ففرحت وأخبرت الرسول, ورحب به فأبا العاص يلتقي نسبه من جهة الأب مع رسول الله عند جده عبد مناف فهو أبو العاص ابن الربيع بن عبد العزي بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي, وهو من أشراف قريش, وعُرف بالأخلاق الحميدة, وعندما ذهب لخطبة زينب قال النبي: إنه نعم الصهر الكفء, وقال له: لا أفعل حتى أستأذنها, ويقول لها: ابن خالتك جاءني وقد ذكر اسمك فهل ترضينه زوجا لك ؟, فاحمر وجهها وابتسمت, علامة الرضا, وتزوجت زينب أبا العاص لتبدأ قصة حب رائعة خالدة, وكان أبا العاص يعمل بالتجارة فيترك زينب عند أمه هالة, وأنجبت على وأمامه وعاشا في حب وهناء ورضا, لكن لاسعادة تدوم ولا شقاء يدوم, فعندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم, حينها كان أبو العاص في سفر, وعاد ليجد زوجته أسلمت, وحين أخبرته, قال لها: هلا أخبرتني أولا ؟وقفت زينب موقف صمود رغم حبها لزوجها, قائلة له: ماكنت لأكذب أبي, وهو الصادق الأمين وأخبرته بإسلام من أسلم فقال: أما أنا لاأحب الناس أن يقولوا خذل قومه وكفر بآبائه إرضاء لزوجته, فهلا عذرت وقدَّرت, فقالت: ومن يعذر إن لم أعذر أنا؟ولكن أنا زوجتك أُعينك على الحق حتى تقدر عليه, وحان وقت الهجرة, وذهبت تستأذن النبي قائلة: أتأذن لي أن أبقى مع زوجي؟ فوافقها, وظلت بمكة لحين غزوة بدر, ويقرر أبو العاص الخروج للحرب في صفوف قريش فتبكي زينب وتقول: اللهم إني أخشى من يوم تشرق شمسه يتيتم ولديَّ أو أفقد أبى ....وتنتهي المعركة ويُؤسر أبالعاص, وتسأل زينب: ماذا فعل أبي؟ فقيل لها: انتصر المسلمون, فتسجد شكرا لله, وتسأل: وماذا فعل زوجي؟ قالوا: أسره حموه, فقالت: أرسل في فداء زوجي, ولم تكن تملك شيئا ثمينا, فخلعت عقد أمها الذي كانت تتزين به, وأرسلته مع شقيق أبي العاص إلى الرسول, وحين رأى عقد السيدة خديجة سأل, وهو أعلم به: هذا فداء من؟أجابوا: هذا فداء أبو العاص فبكى صلى الله عليه وسلم, وتحرك قلبه وقال: هذا عقد خديجة!!ثم نهض قائلا: أيها الناس ..إن هذا الرجل ماذممناه صهرا فهلا فككت أسره؟ وهلا قبلتم رد عقدها لها؟فقالوا: نعم يارسول الله, فرد النبي العقد, وقال له: قل لزينب:
لاتفرطي في عقد خديجة, وتنحى بأبا العاص جانبا, وقال له: ياأبا العاص إن الله أمرني أن أفرق بين مسلمة وكافر, فهلا رددت إلى ابنتي؟فقال: نعم.....وخرجت زينب تستقبل أبا العاص على أبواب مكة, فقال لها: إني راحل, فقالت: إلى أين؟ قال: لست أنا الذي سيرتحل, لكنك سترحلين لأبيك, فقالت: لم؟ قال: للتفريق بيني وبينك فعودي لأبيك, وأمرها باللحوق بأبيها وفاءا لعهده قالت: فهل ترافقني وتُسلِم؟ فقال: لا, فأخذت الولد والبنت والحزن يعتصر حناياها, ولما جهزت جهازها, خرجت مع كنانة ابن الربيع, فخرجت قريش في طلبها, فأدركها هبار بن الأسود, وطعن بعيرها برمحه, حتى صرعها وألقت مافي بطنها, وتشاجر فيها بنو أمية, وبنو هاشم, فأرسل لها الرسول زيد ابن حارثة لإحضار, وأعطاه النبي خاتمة كأمارة, فتلطف زيد في الدخول لمكة, وأرسل إليها بالخاتم, فخرجت إليه فحملها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .[2], وقيل أن الذي خرج بها كنانة وسلمها إلى زيد وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "هي أفضل بناتي أُصيبت في"[3] وبقيت ست سنوات تقدم خلالها الخطاب لها, ورفضت الجميع أملا في عودة زوجها, حبيب روحها, وأيام سعادتها, وخرج أبو العاص بقافلة من مكة إلى الشام ..فخرج عليهم بعض الصحابة, فكان ممن أُسروعندما وصل المدينة تسلل, وبحث عن بيت زينب وطرق الباب قبيل آذان الفجر, فحين رأته سألته: أجئت مسلما؟ قال: بل جئت فارا, قالت: فهل لك أن تُسلم؟ فقال: لا, قالت: لاتخف مرحبا بابن الخالة..مرحبا بأبي على وأمامه, وبعد أن صلى الرسول الفجر بالمسلمين, أتى صوت من نهاية المسجد: قد أجرت أبو العاص بن الربيع, فقال النبي: هل سمعتم ماسمعت؟ قالوا: نعم, قالت زينب: يارسول الله إن ابن العاص إن بعُد فابن الخالة, وإن قرُب فأبو أولادي !!! يالها من وقفة, وياله من درس؟
وقد أجرته يارسول الله, فقال الرسول: يا أيها الناس إن هذا الرجل ماذممته صهرا, وإنه حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي..فإن قبلتم أن تردوا إليه ماله وتتركوه يعود لبلده, فهذا أحب لي, وإن أبيتم فالأمر إليكم والحق معكم ولا ألومكم عليه - وقد كانت الوقفة الثانية للرسول صلى الله عليه وسلم بجانبه, فقال الناس: بل نعطه ماله يارسول الله, فقال: قد أجرنا من أجرت يازينب, وذهب لها في بيتها, وقال لها: يازينب أكرمي مثواه فإنه ابن خالتك وأبو أولادك ولكن لايَقرَبَنَّكِ, فإنه لايحل لكِ, فقالت: نعم يارسول الله....فدخلت وقالت لأبي العاص: ياأبا العاص أهان عليك فراقنا؟هل لك إلى أن تسلم وتبقى معنا؟ قال: لا, وأخذ ماله وعاد إلى مكة, ووقف وقال: أيها الناس هذه أموالكم هل بقى لكم شيء؟ فقالوا: جزاك الله خيرا وفيت أحسن الوفاء, قال: فإني أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله ...ودخل المدينة فجرا متوجها للنبي وقال: يارسول الله أجرتني بالأمس واليوم جئت أقول: أشهد أن لاإله إلا الله وأنك رسول الله, وقال: يارسول الله هل تأذن لي أن أراجع زينب؟ فأخذه النبي, وتوجه لبيت زينب وطرق الباب, وقال: يازينب إن ابن خالتك جاء يستأذنني بمراجعتك فهل تقبلين؟ فاحمر وجهها وابتسمت, وهذه الثانية!!! وعاد الوئام والصفاء والسعادة إليهما..
ومما قاله لها يوما وهى تدعوه للإسلام: والله ماأبوك عندي بمتهم, وليس أحب إلىَّ من أن أسلك معك ياحبيبة في شعب واحد, ولكني أكره لك أن يُقال: أن زوجك خذل قومه وكفر بآبائه إرضاء لامرأته ...
وماتت زينب رضي الله عنها بعد عام واحد من جمع شملهما, في السنة الثامنة للهجرة فبكاها ابن العاص بكاءًا شديدا, ورأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عليه ويهون عليه فيقول له: والله يارسول الله: ماعدت أطيق الدنيا بغير زينب, ومات بعد سنة من موت زينب!!
----------
[1] البخاري – الجامع الصغير – الصفحة أو الرقم(6982), الحديث بتمامه أخرجه أحمد
في مسنده (25923/10).
[2] رواها الطبري في الكبير, والأوسط, ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح – كتاب الآحاد والمثاني (372/5).
[3] المصدر السابق.